قراءة سياسية في المشهد الاقتصادي اللبناني 3

زياد حافظ

استكمالاً لما عرضناه في الجزء السابق من مقاربتنا السياسية للمشهد الاقتصادي في لبنان نبرز في هذا الجزء ملامح ذلك المشهد ودلالاته السياسية التي تساعد المراقب على تفكيك المعضلات الاقتصادية التي يواجهها لبنان. فكما ذكرنا، المشكلة الاقتصادية في لبنان هي في الأساس مشكلة سياسية وبالتالي اجتماعية وثقافية لأنّ البعد الاجتماعي يفسّر المعضلات بنتائجها والبعد الثقافي يشكّل الغطاء المعنوي للنظام القائم في لبنان.

في هذا الجزء نعرض بشكل سريع الإخفاقات في الدائرة الإنتاجية ودلالاتها على صعيد العمالة أو الاستخدام وعلى صعيد التأهيل البشري لإعادة إنتاج نخب شابة تستمرّ في الحفاظ على النظام.

النخب المتحكّمة منذ مؤتمر الطائف عملت على إهمال القطاعات المنتجة ودعم القطاع المالي والخدمات بشكل عام وإضعاف أداء الدولة كجهاز إداري تنموي في المناطق. أعلنت القيادات السياسية التي تولّت إدارة البلاد منذ 1993 أنّ هدفها هو جعل لبنان مركز تجاري ومالي من الطراز الأول في الوطن العربي. لا ننسى أنّ بعد اتفاقية أوسلو المشؤومة ساد في الأجواء السياسية في المشرق العربي أنّ «السلام» آت وانّ على لبنان أن يستعدّ لتلك المرحلة التي قد تشهد إنشاء سكة حديدية من تركيا إلى الناقورة إلى الإسكندرية إضافة إلى ما سُمّي بـ «أوتوستراد السلام». كما لا ننسى أنه تمّ «استيعاب» معظم الميليشيات المسلحّة بشكل أو بآخر في مؤسسات القوّات المسلّحة اللبنانية باستثناء المقاومة لتحرير لبنان من الاحتلال الصهيوني.

في ذلك المناخ بدأت ما يُسمّى مرحلة «إعادة إعمار لبنان» التي اقتصرت على إعادة إعمار الوسط التجاري لمدينة بيروت في ظروف تشبه السّطوة المبرمجة والمشرعنة من قبل مجلس النوّاب اللبناني لشركة «سوليدير» المملوكة من رئيس الوزراء الراحل المغدور رفيق الحريري. شكّلت تلك العملية تجنّياً على حقوق المالكين الحقيقيين للوسط التجاري بحجة ضرورة إعادة إعمار الوسط التجاري وأنّ أصحاب الحقوق عاجزون عن القيام بتلك المهمة. موازين القوّة السياسية سمحت بتحقيق عملية السطو تلك تحت غطاء عربي وإقليمي ودولي حدّد الدور الوظيفي للبنان لمرحلة ما بعد الطائف وبعد حرب الخليج الأولى وبعد مؤتمر مدريد ومن بعده اتفاقية أوسلو المشؤومة عام 1993. وتلازمت عملية السطو هذه مع عملية أكثر خبثاً وهي الفوائد الربوية على سندات الخزينة التي نقلت أموال المكلّفين، أيّ اللبنانيين، إلى حاملي تلك السندات موجدين بذلك ديناً عاماً تجاوز 75 مليار دولار معظمه لتمويل الفوائد السابقة. المدافعون عن تلك السياسة يقولون إنّ حاملي تلك السندات من المسنّين والمتقاعدين والفوائد هي المصدر الوحيد لدخلهم. فإذا كان ذلك صحيحاً فلماذا لا يُشهر عددهم لنرى «الفوائد الاجتماعية» لتلك السياسة؟ الواقع أنّ أغلبية حاملي السندات من المتموّلين اللبنانيين والخليجيين وبعض المصارف الأجنبية.

في رأينا، إنّ التركيز على قطاع الخدمات وإهمال القطاعات الإنتاجية يتماشى مع السياسات النيوليبرالية التي يمارسها الغرب بشكل عام والولايات المتحدة بشكل خاص. كما أنّ التركيز على الخدمات وخاصة الخدمات المالية قد يعفي النخب، حسب اعتقادهم الخاطئ، من مشاكل التكامل الاقتصادي التي يفرضها حتماً تركيز الخيار تجاه القطاعات الإنتاجية. لبنان كمركز مالي قد لا يحتاج إلى اتفاقات سياسية مكلفة سياسياً في الداخل كقرار التكامل مع سورية. لذلك تمّ تفريغ العلاقة المميّزة مع سورية وفقاً للطائف من أيّ مضمون اقتصادي يذكر، فالخشية اللبنانية من التكامل العربي هي خشية من دور أساسي لسورية في التشبيك الاقتصادي بشكل عام وفي قطاعات البنية التحتية والإنتاجية بشكل خاص. كما أنه خشية مزمنة لدى النخب الحاكمة من سورية وما تمثّله من موقع في الصراع العربي الصهيوني وبشكل أوسع في العلاقة المضطربة مع الغرب. فالعلاقة مع الغرب عند النخب اللبنانية علاقة وجودية بالنسبة لها والتكامل مع سورية وسائر الدول العربية قد يتجاوز مصالح تلك النخب. هذا هو المعنى السياسي للتركيز على الخدمات بمفهوم مغلوط وخشية من التكامل في القطاعات الفعلية وليس الورقية أو الرقمية أو الافتراضية.

المال والعقار عنوانا المشهد الاقتصادي منذ 1993 حتى الساعة. قطاعا الزراعة والصناعة ليسا من أولوية الحكم القائم بل المال والعقار وعلى حساب اليد العاملة. فالقطاع الزراعي شهد تراجعاً كبيراً في المساهمة في الناتج الداخلي. وتقديرات تقرير ماكينزي تضع مساهمة القطاع الزراعي بنسبة 3،5 بالمائة من الناتج الداخلي بينما تقديرات وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية تعتبر أنّ القطاع الزراعي يساهم بنسبة 5،7 بالمائة. والتقديران يدلاّن على التراجع مقارنة مع مساهمة القطاع قبل الحرب الأهلية التي كانت تقارب حوالي 10 بالمائة من الناتج الداخلي. لكن مدى التراجع يظهر بشكل أوضح في تراجع المساحات المخصّصة للزراعة خلال العشرين السنة الماضية إلى أقلّ من 11 بالمائة من إجمالي المساحات الزراعية وفقاً لتقرير البنك الدولي أصدره عام 2013 ونقلته دراسة أصدرها معهد السياسات في الجامعة الأميركية في بيروت عام 2016. وأسباب التراجع عديدة، منها التغييرات المناخية كما أوضحته دراسة الجامعة الأميركية ومنها قلّة الاستثمار في تنمية الإنتاجية.

معظم الصادرات الزراعية تذهب إلى سورية أولاً بنسبة 101 مليون دولار سنوياً تليها بلاد الحرمين بـ 88 مليون دولار ثم الإمارات بـ 50 مليون وقطر بـ 49 مليون دولار والعراق بـ 44 مليون دولار والكويت بـ 38 مليون دولار. غير أنّ سياسات الحكومة اللبنانية كانت تهدف إلى تخريب عبثي للعلاقة مع سورية خاصة بعد 2005. يقول الإعلامي غالب قنديل في مقاربة دقيقة «إنه مشهد سوريالي لبناني ممتاز فمنتجاتنا الوطنية المزعومة من السلع الزراعية والصناعية التي نصدّرها لم تكن لتصل إلى الأسواق الخارجية بيسر لولا انّ منتجين جلهم من غير اللبنانيين استثمروا فيها دماً وعرقاً وأعماراً أفنوا سنواتها الأخيرة في المزارع والمصانع وتحمّلوا عنصرية أرباب العمل اللبنانيين. لم تكن البضائع لتصدّر لولا انّ محاربين سوريين ولبنانيين وعراقيين وإيرانيين وروساً فتحوا أمامها الطريق إلى الأسواق العربية ومن غير أيّ اعتراف او مكافأة لكلّ أولئك وهؤلاء وتتربّع الأموال الناتجة عن هذه العملية الاقتصادية السياسية في قطاع مصرفي في الخواتيم أيّ خواتيم رحلة الريع إلى جيوب المحظيين وخواتيم الأزمة المتفاقمة التي يئنّ منها الجميع!»

بعض الوزراء المسؤولين في الحقبة الحريرية أوعزوا إلى تفكيك بعض المزارع خاصة مزارع الدجاج على سبيل المثال وتصديرها إلى قطر بحجة انخفاض الإنتاجية وعدم جدواها فهي لا تستحق الدعم أو التشجيع. فإذا كان ذلك صحيحاً فكيف ستكون الإنتاجية أكبر في قطر؟ وإذا كانت زيادة الإنتاجية ممكنة في قطر فلماذا لا يمكن زيادة الإنتاجية في لبنان؟ هذا يدلّ على إهمال متعمّد للقطاع الزراعي.

كذلك الأمر في القطاع الصناعي الذي شهد تراجعاً أيضاً ملموساً ولكن بنسبة أقلّ مقارنة مع مساهمته في الناتج الداخلي قبل الحرب الأهلية حيث وصل إلى 15 بالمائة تقريباً. أما اليوم، وفقا لتقرير ماكينزي فمساهمة القطاع الصناعي هي حوالي 10 بالمائة من الناتج الداخلي.

والقطاع الإنتاجي الثالث وفقاً لتقرير ماكينزي فهو قطاع الفنادق والمطاعم الذي يساهم بنسبة 3 بالمائة فقط من الناتج الداخلي أسوة بالقطاع الزراعي. فالادّعاء أنه يشكّل العمود الفقري لقطاع السياحة يبدو مبالغاً كثيراً به، وبالتالي التوجّه أنّ قدر لبنان الاقتصادي يكون في السياحة يحتاج إلى مراجعة!

أما القطاع الأكثر مساهمة في الناتج الداخلي فهو القطاع العقاري والبناء الذي يساهم بنسبة 24 بالمائة من الناتج الداخلي، أيّ ما يفوق القطاعات الإنتاجية الثلاثة مجتمعة! ويلي ذلك القطاع قطاع التجارة الذي يساهم بنسبة 14 بالمائة، أيّ أنّ القطاعين غير الإنتاجيين يساهمان بنسبة 38 بالمائة من الناتج الداخلي! والقطاع المالي والخدمات المالية كالتأمين مساهمته في حدود 9 بالمائة من الناتج الداخلي وفقاً لتقرير ماكينزي. المفارقة هنا هي مساهمة قطاع الإدارة التي تفوق مساهمة القطاع الخدمات المالية حيث وصلت إلى 10 بالمائة. فالادّعاء أنّ القطاع المالي هو العمود الفقري للاقتصاد اللبناني ادّعاء مبالغ به في أحسن الأحوال. هذا باختصار صورة هيكلية الاقتصاد اللبناني الذي يميل بشكل واضح إلى هيكلية غير إنتاجية، وذلك نتيجة لسياسات معتمدة منذ 1993 ومبنية على نمط حاولت النخب الحاكمة اللبنانية ترويجه منذ الاستقلال لكن تكرّس بعد الطائف.

فما هي نتائج تلك الهيكلية على الصعيد الشعبي؟ بطبيعة الحال، المقياس الأوّل هو مستوى الاستخدام أو التوظيف أو العمالة. فما أورده تقرير ماكينزي فإنّ قطاع الزراعة يوظّف 11 بالمائة من اليد العاملة والقطاع الصناعي 10 بالمائة وقطاع الفنادق والمطاعم 5 بالمائة. بينما القطاعات غير الإنتاجية كالقطاع التجاري تمثّل 24 بالمائة من اليد العاملة والقطاع العقاري والبناء 12 بالمائة. قطاع الإدارة العامة يمثّل 9 بالمائة بينما قطاع الخدمات المالية لا يتجاوز 3 بالمائة من اليد العاملة. هذه القطاعات تمثّل ثلثي اليد العاملة في لبنان بينما باقي القطاعات يتوزّع بينها الثلث فقط، أيّ التربية 8 بالمائة والنقل 6 بالمائة والصحّة 2 بالمائة والتربية 2 بالمائة فقط. فالضجّة التي أثيرت في السنوات الماضية حول سلسلة الرواتب والأجور في القطاع التربوي العام طالت فقط 2 بالمائة من اليد العاملة، وفي قطاع الإدارة العامة أيّ 10 بالمائة. فسلسلة الرواتب والأجور التي واجهتها عاصفة من الانتقادات على قاعدة أنها تهدّد الاقتصاد اللبناني طالت فقط 12 بالمائة من اليد العاملة! طبعاً، إقرار تلك السلسلة سينجرّ في وقت لاحق على سائر القطاعات هذا إذا لم يتمّ إلغاء أو تجميد مفاعيل ذلك القانون كما يُروّج له الآن لتخفيض العجز في الموازنة العامة اللبنانية!

إهمال القطاعات الإنتاجية وخاصة في مختلف المناطق ساهم في هجرة الريف إلى المدينة ما ساهم أيضاً في التخمة العقارية ولكن على حساب البنى التحتية للمدن. فالعاصمة بيروت لا تستطيع بنيتها التحتية من طرق، ومجارير، وأنابيب المياه، وشبكة المواصلات والتواصل، استيعاب حوالى نصف سكّان لبنان، أيّ أكثر من مليونين نسمة وفقاً لتقرير من البنك الدولي. وهناك تقارير تجعل لبنان في المرتبة الثامنة للدول التي تحظى بأسواء بنى تحتية. كلّ ذلك يجعلنا نسأل عن «إعادة الإعمار في لبنان» وما أحدث من هدر في الأموال. نذكر هنا تعليقاً للصديق الراحل المحامي سنان برّاج ونحن نشاهد الخراب في الوسط التجاري فيقول إنّ الحرب الأهلية يبدو كانت أوّلاً وأخيراً «مشروعاً عقارياً» بامتياز لمن سيتمّ تكليفه بإعادة بناء الوسط التجاري. وهكذا حصل!

تقرير ماكينزي يركّز على حجم عبء العمالة في القطاع العام وكأنه المشكلة الأساسية. فيعتمد على أرقام تفيد بأنّ نسبة الرواتب في الإدارة تشكّل 33 بالمائة من نفقات الدولة أو 46 بالمائة من واردات الدولة. هذا يكفي لدعوة البعض لتقليص عدد الموظّفين في الإدارة العامة والمضي نحو الخصخصة لتقليص عجز الإدارة. وإذا كنّا لا نشكّ أنّ نسبة الرواتب في الإدارة تشكّل استنزافاً لواردات الدولة فإننا لا نعتبر أنّ تسريح عدد من الموظّفين قد يكون حلاّ للمشكلة بل قد يخلق مشكلة اجتماعية وسياسية أكبر. غير أنه يمكن ترشيد تلك النفقات لأنّ هذا لا يعني أنّ إنتاجية الإدارة معدومة، ولا يعني أنه لا يمكن الإصلاح، ولا يعني أنه لا يمكن زيادة واردات الدولة عبر تحصيل فعلي وفعّال للضرائب المباشرة والتخفيف من الاعتماد على الضرائب غير المباشرة كالضريبة على القيمة المضافة التي يدفعها المواطن العادي والشركات ولا يدفعها النافذون والمتموّلون الذين يتهرّبون من دفع تلك الضريبة. نشير هنا إلى تصريح الوزير السابق فادي عبّود منذ عدّة سنوات أنّ عدد الشركات التي تستورد كمّيات تجارية كبيرة وهي غير مسجّلة في ضريبة القيمة المضافة، يفوق هذا العدد أكثر من 20 ألف شركة. ويقدّر خسارة الدولة من ذلك التهرّب ما يوازي أكثر من 30 بالمائة من الاقتصاد اللبناني أيّ ما يوازي عشرين مليار دولار وذلك على ذمّة الراوي! وبعد كلّ ذلك تقول الهيئات الاقتصادية إنّ الدولة لا تستطيع تحمّل نفقات إضافيةّ!

إنّ المقولة التي تروّجها بعض الجهات المحلّية حول ضخامة نسبة الأجور في لبنان ما «يضعف تنافسيته» أمر مبالغ به. تشير التقارير منذ بضعة سنوات إلى أنّ نسبة الأجور والرواتب من الناتج الداخلي في لبنان أقلّ من الدول المجاورة. ففي عام 1975 كانت النسبة 55 بالمائة من الناتج الداخلي بينما أصبحت اليوم 25 بالمائة وذلك رغم زيادة الإنتاجية بنسبة 75 بالمائة! نشير هنا إلى بعض التقارير التي تفيد أنّ أكثر من 30 مليار دولار تحوّلت من حصة الأجور والرواتب من الناتج الداخلي إلى مردود رأس المال. هذه هي إحدى نتائج سياسة الفوائد الربوية المرتفعة على سندات الخزينة! فهناك سياسة متعمّدة لتهميش عامل العمل لمصلحة ربحية رأس المال المالي وليس الإنتاجي أسوة بما يحصل في الولايات المتحدة. هذه الظاهرة استوردناها من الغرب وللأسف استوردنا أيضاً التفاوت الاجتماعي الممنهج!

أنّ الغائب الكبير في الملفّات الاجتماعية إضافة إلى ملف الأجور والرواتب والعمالة في القطاع العام والخاص هو ملفّ التعاونيات لما له من دلالات عن وجود أزمة نظام بدلاً من أزمة قطاع. إنّ تجاهل ملفّ التعاونيات يدلّ على عدم رغبة سياسية لإيجاد بديل عن نهج الاحتكارات الذي يتحكّم بالأسعار لجني الأرباح الفاحشة. فتواطؤ النخب الحاكمة في عدم البت في الموضوع وحتى في القضاء يؤكد على ذلك. وإذا كنّا نؤيد بدون تحفّظ المطالب المحقّة لكافة المعترضين على أوضاعهم المعيشية وأننا لا نميّز بين تلك المطالب وأولويتها، إلاّ أننا نتساءل عن مدى جدّية تعاطي النخب الحاكمة في لبنان في تلك المواضيع الحسّاسة التي ربما تشكّل اللبنة الأولى لربط أواصر مكوّنات المجتمع اللبناني دون الارتكاز إلى المواقف الطائفية والمذهبية والمناطقية التي تفرّق اللبنانيين بدلاً من أن تجمعهم. لذلك تحرص النخب الحاكمة على إجهاض تحرّكات المجتمع المدني وخاصة النقابات في مطالبة الحقوق المشروعة تحت حجج نعتبرها واهية أم مضخّمة كالحرص على ثبات الليرة والحرص على منع التضخّم والحرص على إيجاد مناخات حاضنة للرساميل وطبعاً الحرص على المالية العامة!

في ما يتعلّق بالعمالة/ الاستخدام/ التوظيف في لبنان فهناك ترابط عضوي بين جودتها والنظام التربوي القائم. غير أنّ تقرير ماكينزي يؤكّد على تراجع مكانة القطاع التربوي في لبنان وجودته. فليس هناك إلاّ جامعتان في لبنان مصنّفة بين أوّل 500 جامعة في العالم. الجامعة الأميركية في بيروت تأتي في المرتبة 235 بينما جامعة القدّيس يوسف تأتي بين مرتبة 491 و500. وتعدّد الجامعات الخاصة في لبنان لم يساهم في رفع المستوى الجامعي في لبنان بينما تسييس الجامعة اللبنانية على قاعدة الطائفية والمذهبية وفقا لأجندات القيادات السياسية أدّت إلى تراجعها في مستوى أدائها التعليمي، وكأنّ المطلوب التركيز على نخب فئوية ميسورة مالياً للحصول على مستوى جامعي مقبول على الصعيد الدولي، أيّ أنّ النظام التربوي في لبنان يعيد إنتاج نخبه المستمرّة في إنتاج نظام سياسي واقتصادي متخلّف. ويتباهى بعض المسؤولين اللبنانيين بأنّ «رسالة» لبنان هي تصدير النخب إلى الخارج كي تعمل وترسل إلى لبنان في ما بعد ريعاً. فاللبنانيون ينفقون على تعليم أولادهم لتصديرهم إلى الخارج ليجنوا ريعاً دون آخذين بعين الاعتبار الكلفة الاقتصادية المهدورة والكلفة الاجتماعية والوطنية الناتجة عن تفكيك الرابط مع الوطن بسبب الهجرة. وكأنّ المسؤولين يقولون للأجيال الصاعدة ليس لديكم مستقبل في لبنان إنْ لم تكونوا من بين المحظوظين في لبنان!

وإذا أراد اللبنانيون التركيز على قطاع كان رائدا في الوطن العربي حتى نشوب الحرب الأهلية فما على الدولة إلاّ الاستثمار المكثّف في البنى التحتية للمدارس الوطنية الحكومية والجامعة اللبنانية، وعلى تحديث البرامج التربوية مع تكثيف وتركيز على العلوم، وعلى البحوث العلمية في محيط الجامعة اللبنانية وبالتفاهم مع القطاع الخاص في القطاعات الإنتاجية كالصناعة والزراعة. فآخر تحديث للبرامج التربوية في لبنان حدث عام 1997 هذا إما اعتبرنا أنّ ذلك التحديث كان في المستوى المطلوب. ويشير تقرير ماكينزي إلى أنّ الإنفاق على التلاميذ والطلاّب قليل جدّاً مقارنة مع مدارس وجامعات الدول الخليجية من جهة ومع دول متقدّمة في أوروبا وأميركا الشمالية. فكلّ ذلك يدلّ على أنّ النخب الحاكمة في لبنان في حقبة ما بعد الطائف أرادت بشكل متعمّد إهمال القطاع التربوي والاكتفاء بإنتاج نخب وظيفتها إعادة إنتاج النظام القائم واستمراره. فالمطلوب في النظام التربوي والسياسة التربوية أكثر من تعديل بل ربما ثورة بكلّ معنى الكامل. لن يتمّ ذلك في ظلّ النظام القائم ولذلك الإصلاح التربوي يتطلّب في البداية إصلاحاً في النظام السياسي كي يكون لأيّ مجهود لتحسين الوضع التربوي أي فعّالية.

كاتب وباحث اقتصادي وأمين عام سابق للمؤتمر القومي العربي

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى