حكومة «إلى العمل» بين الأمل المنشود وضياع الفرصة الأخيرة؟
علي بدر الدين
جدّد مجلس النواب ثقته بالحكومة التي تمثله والتي خرجت الى النور من رحم كتله النيابية القوية ومصالحها وتفاهمها على الاستمرار في الإمساك بالسلطة والمال، وإدارة شؤون البلاد والعباد وفقاً لسياستها التي اعتمدتها منذ تسلمها مقاليد الحكم بعد اتفاق الطائف.
هذه الحكومة، كما غيرها من الحكومات المتعاقبة التي نالت جميعها ثقة المجالس النيابية في ظلّ مختلف العهود التي مرّت. قدّمت بيانها الوزاري كأنه نسخة طبق الأصل عما سبقه في مضمونه وفقراته وبنوده ومصطلحاته، مع تعديل أو تبديل بعضها كما تقتضي المرحلة والمستجدات السياسية والتحالفية، وما له صلة بالتطورات الإقليمية التي بات لبنان جزءاً منها يتأثر فيها مع كلّ هبّة.
الكلمات التي ألقاها «نواب الأمة» في ما سمّي بجلسات الثقة تجاوزت في بعضها البيان الوزاري بل تفوّقت عليه. للمزايدة وتسجيل المواقف من خارج النص. لم تقنع اللبنانيين ولم تقدّم لهم أي جديد يشفي غليلهم أو استثنائي يعوّلون عليه، فهم اعتادوا على نفس الممثلين وكلماتهم، ويقطفون اليوم سلبيات مفاعيلها ونتائجها التي أوصلتهم إلى الفقر والحاجة والحرمان والذلّ وهدر الكرامات، ولأنّ الأزمات والمشكلات التي أغرقتهم بها الطبقة السياسية والفساد المستشري وتراكم الديون لا تحلها العنتريات وتبادل الاتهامات والتحذيرات وعظائم الأمور إذا لم تنفذ الحكومة ما ورد في بيانها الوزاري، وإذا لم تكن جادة في معركة الإصلاح والتغيير وتؤمّن مقوّمات هزيمة الفساد واقتلاعه من جذوره. وبخاصة أنه كان نجم الكلمات والجلسات من دون منازع والشبح الذي لم يجرؤ أحد من الذين تكلموا، أو الذين التزموا الصمت لاعتقادهم انه أبلغ من الكلام، الاقتراب منه لمساً أو همساً، لأنه يبدو أنه الأقوى والأكثر رعباً ومهابة، وإنّ الكشف عنه والتدليل عليه أقله في مرحلة تشكيل الحكومة ووعودها هو أقرب إلى الانتحار الجماعي او الاستعجال بسقوط الهيكل الذي لن ينجو منه أحد أياً كان موقعه وكانت قوة سلطته ونفوذه وحجم ثروته.
ومن أجل عدم الوقوع في المحظوور جاءت كلمات «السادة» النواب منضبطة ومنتقاة في ما يتعلق بشبح الفساد الذي يقضّ المضاجع ويتطلب من الحاكمين نواباً ووزراء وقوى سياسية مراعاة الأوضاع الإستثنائية وإفساح المجال أمام حكومة رفعت شعار «إلى العمل» وطيّ صفحة الماضي على قاعدة مقولة «عفا الله عن ما مضى»، لأن الطبقة السياسية أمام مرحلة انتقالية جديدة هذه المرة، ولأنّ مصالحها في خطر، وربما تكون فرصتها الأخيرة، مع انّ الطبع يغلب التطبّع، وانّ عنادها في الدفاع عن نفسها ومصالحها لن يجدي ولا طائل منه، مع أنها من المؤكد والثابت أنها لن تتخلى عن نهجها بسهولة ولن تستسلم كما يعتقد البعض أو يتوقع البعض الآخر من اللبنانيين لا الأقربين والأبعدين، وانْ أظهرت مرونة ووزعت ابتسامتها في غير اتجاه.
حتى وإنْ لانت ملامسها، وأطلقت وعودها بتغيير منهجها الذي لم يكن لخير لبنان ومصلحة اللبنانيين وهي المنغمسة بتركيبة النظام السياسي منذ تكونه، وهي أيضاً التي تحفظ عن ظهر قلب تطبيق نماذج «ع الوعد يا كمون» والوعود العرقوبية، وملتزمة فيها نصاً وروحاً.
إنّ مشهد جلسات الثقة حيث أفرغ فيها المتكلمون حمولتهم وأدلوا بدلوهم وبرعوا في التمثيل من خلال حركات أجسادهم وأياديهم وعبوسهم حيناً للدلالة على الجدية وابتساماتهم أحياناً لترطيب الأجواء بعد كلّ تشنّج مصطنع أو هادف، هذا المشهد لم يطمئن اللبنانيين إلى حاضرهم وإلى ما هو آتٍ، لأنهم أتخموا من وعود الطبقات السياسية التي شهدها لبنان ولن يعوّلوا على ما تفرّع منها لأنّ الثمار المرة ذاتها ومن الخطأ بل الخطيئة أن يلدغ المواطن من الجحر مرتين ولكن.. لا مناص من الاعتراف بقوة هذه الطبقة وقدرتها على المناورة، وعلى إقناع اللبنانيين أنها لا تنام الليل من أجل خدمتهم وتلبية احتياجاتهم وتوفير مقوّمات الأمن الاجتماعي لهم والنعم التي هم فيها هي من نتاجها.
وما تطلبه فرصة إضافية لتثبت أنها بدّلت جلدها وانقلبت على نهجها وماضيها بكلّ مآسيهما وقساوتهما، وهي لن تترك وسيلة إلا واستوظفتها للقبض على شبح الفساد ومحاصرته واجتثاثه من جذوره وتقديمه كطبقٍ مفضّل للبنانيين وكمؤشر لإنطلاق قطار الإصلاح والمحاسبة وإعادة بناء دولة القانون والكفاءة والنزاهة والمؤسسات.
لا خيارات، ولا بدائل أمام الشعب اللبناني العظيم سوى إعطاء هذه الفرصة والاستجابة للوعود القاطعة بالإصلاح، بعد ان ارتضى بالأمر الواقع عليه واستسلم لغرائزه الطائفية والمذهبية وتحوّل إلى مجرد متلقّ وصامت لا حول له ولا قوة سوى التصفيق وهزّ الرأس قبولاً، والآتي من الزمن سيكون أفضل وانّ غداً لناظره قريب.
وذكرتني جلسات الثقة في مجلس النواب بأبيات من الشعر، للشاعر الكبير الراحل أسعد سعيد نظمها منذ 44 سنة:
بين الثقة وحجب الثقة والحرتقة
وغايات شخصية وقضايا ملفّقة
بالبرلمان سمعت فوضى وعجوقة
وضجة متل معمل حدادي وطرطقة
يا شعبنا الصفّيت كبش المحرقة
حلك تفيق وينبدل عتمك نقا
وبعد الخلاص من القماش… المهتري
جيبو قماش جديد تا نعطي الثقة.