لبنان في الحرب على الفساد… والحرب المضادة!

العميد د. أمين محمد حطيط

يبدو أنّ لبنان دخل فعلاً في حرب على الفساد، استتبعت حرباً مضادة لحماية مَن هدر المال العام ورهن مالية الدولة وأثقلها بالديون التي من شأنها أن تفقد الدولة استقلالها الحقيقي وسيادتها الفعلية وقدرتها على تأمين متطلبات العيش الكريم لأهلها.

وقبل أن نتناول هاتين الحربين الحرب على الفساد والحرب المضادة لا بدّ من أن نذكر بأنّ نشر الفساد في الدولة هو أحد أركان استراتيجية الاستعمار الحديث. وقد يكون هذا القول مفاجئاً للبعض وفيه مغالاة لدى البعض الآخر، لكننا وبكلّ بساطة نرى أنه وفي عودة الى صيغ الحكم التي تفرضها الدول الاستعمارية على الدول من خارج نادي المنتصرين في الحرب الثانية، نرى أنّ المستعمر والوصي أو المهيمن يأتي قبل رحيله بالأنظمة السياسية الواهنة والحكام الضعفاء عديمي الكفاءة واهني الحس الوطني والأخلاقي وينصبهم رغم إرادة شعوبهم ويدفعهم الى العمل لمصالحهم الشخصية وتنمية ثرواتهم الخاصة وإفقار دولهم والسماح بنهب ثرواتها من قبل الدول الأجنبية فينتشر الفساد ويتحول هؤلاء الحكام الى «أسود» شرسة في مواجهة شعوبهم ويحكمون بحماية ورعاية من تلك الدول الأجنبية حتى ولو قطعوا أفراد شعبهم بالمنشار، ويكونوا أذلاء ضعفاء أمام الجهات الخارجية التي ترعاهم وتمنحهم الحماية الى الحدّ الذي يمكن تلك الدول من القول للدول الممنوحة الحماية: «إذا رفعنا اليد عنكم تسقطون في أسبوع».

وبالتالي تعتبر سرقة المال العام او هدره ركناً رئيسياً من استراتيجية الدول الاستعمارية حيث إنه يفعل فعله في اتجاهين متزامنين، فهو يمنع الدولة من الاستفادة من دخلها وقدراتها، ويجعل الحاكم الفاسد بحاجة دائمة الى يد خارجية تحميه من غضب الشعب، فالحاكم الفاسد يخشى شعبه ويتّكل على الأجنبي حتى يحميه، بينما الحاكم الشريف النظيف، يحتمي بشعبه ويتكل عليه لمواجهة الأجنبي الذي يحاول أن يمد يده على مقدرات الأمة والدولة وينتهك سيادتها واستقلالها.

من هنا تبدو أهمية محاربة الفساد بالنسبة للقوى التي تعمل تحت عنوان مقاومة العدوان اكان العدوان متمثلاً باحتلال لأرض ام غير ذلك، فالعدوان ليس احتلالاً للأرض فقط، بل هو أي وجود غير مشروع او انتهاك لحق من حقوق الدولة بما في ذلك حقوقها المالية، واذا تناول المرء الموضوع بفكر منفتح يجد ان القوى المقاومة للاحتلال، لا تكتفي بتحرير الأرض من المحتل، بل ترى أنّ عليها استكمال عملها الوطني بتحرير الدولة من ناهبيها وتحرير إرادة الحكام من المهيمنين عليها، ومساعدة الدولة على المحافظة على قدراتها وثرواتها لتمكين الشعب من الحصول على متطلبات العيش الكريم في وطنه فلا يضطر الى هجرة او يقبع في كوخه طاوي البطن جائعاً.

من هذا المنظور نجد أن حزب الله وهو الحركة المقاومة التي نشأت أولاً من أجل تحرير الأرض من المحتلّ «الإسرائيلي» ونجح في مهمته، ثم فرضت عليه مواجهة الإرهاب المصنّع والمستثمر أميركياً في المنطقة كاملة، والذي كاد أن يسقط لبنان، فواجهه بشجاعة ونجح مع الجيش اللبناني في تطهير لبنان منه. إنّ حزب الله هذه الحركة المقاومة التي نجحت في مهامها وأعمالها القتالية في الميدان، يجد نفسه مدعواً الى متابعة مهمته في المقاومة ولكن مقاومته الآن هي من نوع آخر وهي تشكل امتداداً لما بدأ وتكاملاً معه، مقاومة من أجل تحرير المال العام ثم استعادة ما أهدر وإقفال أبواب الهدر مستقبلاً.

هنا قد يقول البعض ومَن الذي كلف حزب الله للقيام بهذه المهمة؟ ثم أو ليست المهمة هذه هي من صلب مهام الدولة التي عليها أن تحاسب الفاسدين ممن يتولون أمانة ومسؤولية حماية المال العام ثم يخونون هذه الأمانة؟

هنا نرى وجوب التوضيح لمنع الالتباس، ونبدأ بالقول إنّ الشعب ليس بحاجة الى تكليف من أحد حتى يقوم بعمل وطني، وكما انّ مقاومة المحتلّ تنطلق من غير أمر يصدر عن سلطة رسمية او قد يصدر- فإنّ رفض الفساد والدعوة الى مكافحته لا يمكن أن تنتظر أحداً خاصة إذا كان المخوّل رسمياً بإطلاق صفارة الانطلاق هو الفاسد نفسه والمستفيد من نهب العمال العام ذاته. ومن جهة أخرى نرى أنه كما أنّ تحرير الأرض بالقتال لا يلغي الدولة بل يساعدها في القيام بجزء مما عجزت عنه فإنّ حركة المقاومة لتحرير الدولة من ناهبيها وراهنيها لا يمكن ان تحلّ محلّ الدولة ذاتها، ولا يمكن ان تلغي مؤسساتها الدستورية، بل تعمل بمنطق صنع البيئة الملائمة لتمكين هذه المؤسسات من العمل دون خوف من الفاسدين.

وبالتالي توجب الحرب على الفساد تقديم المساعدة وتاًمين المناعة لمن يشغل منصباً في منظومة المحاسبة والمساءلة حتى يتمكن من القيام بعمله دون خشية الانتقام والتنكيل به وأقلّه كفّ يده من قبل الفاسدين وحماتهم، وبالتالي فإنّ حرب المقاومة على الفساد تتمّ عبر مؤسسات الدولة، ومن خلال قيام ممثلي المقاومة في المؤسسات الدستورية بما يتيحه لهم القانون من تحرك وتحريك الملفات في تلك المؤسسات سواء منها التشريعية أو التنفيذية أو القضائية حيث تختم الملاحقة هناك بإدانة أو تبرئة ويكون دور الحزب عبر ممثليه هو دفع الأمور للوصول إلى أحكام تظهر الحقيقة وترتب المسؤوليات.

لكن وللأسف لن تكون هذه المهمة سهلة، حيث سيجد الحزب نفسه بمواجهة من الداخل والخارج لأنه بحربه على الفساد سيمس في عمله ركناً من أركان الخارج للهيمنة على لبنان، وليس صدفة أن نرى الحرب على حزب الله في الداخل والخارج تستعر متزامنة مع حرب حزب الله على الفساد، وهنا لا يكون مستهجناً رغم ما سيقوله القائلون من غير تبصّر او بيّنة، لا يكون مستهجناً ان تحذر أميركا عبر سفيرتها في بيروت من سيطرة حزب الله وقوة موقعه في الحكومة او ان تنبري بريطانيا اليوم لتصنيف الحزب بأنه حركة إرهابية، او يحتشد حول من أدان نفسه بنفسه أشخاص لهم تاريخهم في ما سُمّي بحركة 14 آذار التي اشتهرت بمواقفها المعادية للمقاومة.

انّ معركة حماية المال العام والحرب على الفساد تعتبر اليوم أهمّ تحدٍّ يواجه لبنان ومقاومته وشعبه والوطنيين الشرفاء الحريصين على سيادة الدولة واستقلالها وأمان شعبها وعزته ورفاهه، وإنّ ربح هذه الحرب سيجعل من النصر على «إسرائيل» وطردها من الجنوب، والنصر على الإرهاب وتنظيف لبنان منه، سيجعل له طعماً آخر ويجعل الشعب يستمتع بنصره والتحرير، أما ترك القضية او الفشل في الحرب على الفساد فإنه سيشوّش على الانتصارات وقد يحجب بريقها ويجعل المتضرّرين يتساءلون: هل حرّرنا الأرض لينهبها الناهبون ويرهنها الراهنون؟

فلبنان الآن في لحظة تاريخية وكعادته عرف السيد حسن نصرالله متى وكيف يطلق الحرب على الفساد فيها، في ظلّ تراجع خطر العدوان الإسرائيلي وميل الجبهات إلى الهدوء الآن، وفي ظلّ اندحار الإرهاب واتجاه المشغلين للعمل في ميادين خارج لبنان، وفي ظلّ تماسك الوضع الأمني الداخلي اللبناني، كما عرف اختيار صيغة هذه الحرب عبر الاعتماد الكلي على أجهزة الدولة ومؤسساتها فالحزب لا يحلّ محلّ أحد بل يقدم المعونة والمساعدة والدعم لكلّ مؤسسة تشمر عن ساعديها للحرب على الفساد وعرف اختيار استراتيجية يضعها لهذه الحرب عنوانها «أعيدوا المال المنهوب دون كيدية او انتقام».

لقد كان اختيار التوقيت موفقاً، ويبقى ان يحشد معسكر الوطنيين اللبنانيين للانتظام في هذه الحرب ضدّ الفاسدين، فلبنان انقسم اليوم كما يبدو بين معسكرين واضحين، معسكر وطني مقاوم مكافح للفساد يبتغي حماية الدولة وبناءها البناء السليم الذي يحفظ الحقوق، ومعسكر الاستتباع والهدر الذي يتحصّن بالحصون الطائفية والمذهبية والسياسية من أجل منع بناء الدولة العادلة ويخاطبك بالسياسة عندما تطالبه بالحساب لأنه يخشى حقيقة الحسابات التي يعرف كيف حرّفها وكيف زوّرها ولفّقها وكيف تدينه. ونقول من أراد أن يحصّل حقوقه فباب الانتظام في معسكر محاربة الفساد مفتوح امامه اما من استنكف وبقي يحمي الفاسدين فلا يلومنّ الا نفسه ان شعر بجوع او فقر او ذل.

أستاذ جامعي وباحث استراتيجي

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى