ولأن في التاريخ بدايات المستقبل…

ولأن في التاريخ بدايات المستقبل…

تُخصّصُ هذه الصفحة صبيحة كل يوم سبت، لتحتضنَ محطات لامعات من تاريخ الحزب السوري القومي الاجتماعي، صنعها قوميون اجتماعيون في مراحل صعبة من مسار الحزب، فأضافوا عبرها إلى تراث حزبهم وتاريخه التماعات نضالية هي خطوات راسخات على طريق النصر العظيم.

وحتى يبقى المستقبل في دائرة رؤيتنا، يجب أن لا يسقط من تاريخنا تفصيل واحد، ذلك أننا كأمّة، استمرار مادي روحي راح يتدفق منذ ما قبل التاريخ الجلي، وبالتالي فإن إبراز محطات الحزب النضالية، هو في الوقت عينه تأكيد وحدة الوجود القومي منذ انبثاقه وإلى أن تنطفئ الشمس.

كتابة تاريخنا مهمة بحجم الأمة.

إعداد: لبيب ناصيف

سيرة ومسيرة الامين لبيب ناصيف 8

بتاريخ 19 شباط 1969 خرجنا من سجن الرمل فيما كان الرفقاء الأسرى يغادرون سجن القلعة، وسط فرحة عامة واستقبالات حاشدة عبّر بها المواطنون في كل المناطق عن انحيازهم إلى الحزب.

عشرات الألوف تقاطرت إلى منازل الأمناء والرفقاء، وشهدت أميون، ديك المحدي، عين زحلتا، بيت شباب، بيروت، عكار ومختلف المناطق اللبنانية مهرجانات الفرح عبّر بها ابناء شعبنا عن ادانتهم لكل ما حاولت الأجهزة إلصاقه بالحزب من تهم وأكاذيب. وقد ظهر هذا واضحاً عندما تجمّع عشرات الألوف من الرفقاء والمواطنين، من كل مناطق لبنان في شمسطار لتسير في مأتم الرفيق الملازم علي الحاج حسن الذي توفي شهيداً في لندن جرّاء ما تلقاه من تعذيب في السجن كان له الأثر السلبي على كليتيه، ومع ذلك فلم يلق من الأجهزة الحاقدة العناية الطبية التي هي من حق كل سجين. لا انسى ذلك البحر من الناس، ولا خطاب رئيس الحزب آنذاك الأمين الدكتور عبدالله سعاده .

وفي الأسبوع الذي شهد رحيل الرفيق الملازم علي الحاج حسن، كانت بلدة القصيبة تسير في وداع الرفيق المناضل جوزف رزق الله، الذي قضى بنوبة قلبية وهو في السجن.

الرفيق جوزف رزق الله من القيادات الحزبية التي يعتّز بها حزبنا، فقد تميّز بوعي متقدم للعقيدة مع إيمان مطلق بها وبالحزب الذي يحمل لواءها. كان في عائلته، في محيطه، وفي كل الفروع الحزبية التي انتظم فيها أو تولى إدارتها، المسؤول القدوة الذي يحرص دائماً على أن يوجه رفقاءه، بأعماله، وبتصرفاته، كما بأقواله وشروحه المستمدة دائماً من العقيدة، من تاريخها، ومن سيرة سعاده.

لقد أثبت الحزب، عبر تجربة الثورة الانقلابية، كما عبر تجارب أخرى سابقة، أنه أقوى من الموت، وهو أبداً يحيا بالعراك والمجابهة، وتورق فروعه انتماءات وتضحيات ومواقف عز كلما واجهته التحديات وعصفت في وجهه الرياح السامة.

وخرجتُ من السجن أكثر من «لبيب» واحد. الأهل، الرفقاء، الأصدقاء، الجيران رأوا «لبيباً» آخراً يأتي إليهم حاملاً كيلوغراماته المئة.

لم أسمع أمي تشكو او تلوم او تؤنب ولا هي تعتبر أن دخول ابنها السجن مراراً، هو عار تلبسه في الحي، وإزاء عائلاته. بل لم أسمعها يوماً إلا تبارك وتطلب إليّ التوفيق وتستقبل الرفقاء بالبشاشة والابتسامة والترحيب الصادق.

عرفتْ القلة هي الميسورة، أباً وزوجاً. واضطرت إلى الكثير من ضبط النفقات بعد أن كان المرض اقعد الوالد سنوات عديدة إلى أن وافاه الأجل عام 1956 وقد نضب المال الكثير، وباعت أكثر من قطعة أرض، وصرفت كل ما تسلمته من حصة تعود لها من أمها، في «الرملة البيضاء».

«المعلم اسبر» يعرفه أهل الحي، ويعرفه الكثيرون من أبناء بيروت، كما يعرفون شقيقه نجيب. معمل البلاط الذي أسساه في منطقة الجميزة في أوائل القرن الماضي، قد يكون الأول في بيروت. قصور آل سرسق والأعمال الصعبة التي تقتضيها مهارة متقدمة كانت تعرف «المعلم اسبر»، المنصرف إلى الإشراف على أعمال الورش، كانصراف شقيقه نجيب إلى الاتصالات والعلاقات .

شقيقهما الثالث، فرج الله أنشأ بدوره معملاً للبلاط في منطقة برج أبو حيدر بعد أن عاد من هافانا كوبا.

البيت القرميدي في المصيطبة كان يحكي عن الارتياح المالي للشقيقين اسبر وفرج الله، وقد أكملا بناء البيت الذي كان بدأ طابقاً أرضياً، من والدهما الياس. والبنايتان في المصيطبة العليا اللتان شيدهما الشقيقان نجيب واسبر كانتا تحكيان بدورهما أكثر.

والدها، جدي، جورج جحا، كان تاجراً معروفاً في سوق الطويلة ويملك محلاً مقصوداً. الا انها، وقد تغيّرت الاحوال بات عليها أن تسهر الليل عند سرير والدي، وفي النهار، لأشغال البيت، ولمتابعة المعاملات الخاصة بالمعمل والعقارات وكل الشؤون. وجاء مرض شقيقتي هدى وما تطلبه وضعها من عمليات جراحية ومبالغ لا تحصى، لتزيد من عنائها وأعبائها وإرهاقها. مع ذلك لم نشاهدها يوماً إلا باشّة، ولم يعرفها الرفقاء المترددون إلى البيت إلا والابتسامة ترافق الترحيب. لم نكن نعلم كم هو وضعها المالي حرجاً، ولم تكن تطلعنا أو تشعرنا بما تعانيه.

كانت تعتبر أن حصولي على وظيفة في بنك محترم هو فرصة العمر، مع ذلك لم تجعلني أشعر، وقد خسرت الوظيفة، أنها متبّرمة أو منزعجة.

شقيقي الأصغر جورج، طالب ينمو في المدرسة. شقيقتي هدى في وضع صحي يتطلب الكثير. شقيقي الأكبر نجيب بات المعيل الوحيد للبيت، وقد اضطرّته ظروف العائلة إلى أن يتوقف عن متابعة دراسته الثانوية في الكلية العلمانية للصبيان الليسيه الناصرة والعمل باكراً متنقلاً في أكثر من محل في سوق الطويلة… إلى أن أمكنه الاستقلال بمحل خاص به، بعد سنوات من الجهد.

هموم العائلة كبيرة ، إنما لم نشعر بها، وقد حرصت الوالدة على مدى تلك السنوات الصعبة أن تبقي البيت في جو مريح، نفسياً ومادياً، وأن يستمر المنزل مفتوحاً للأصدقاء وللرفقاء. كثيرون منهم ما زالوا قيد الحياة، ويعرفون ذلك.

– أنت مصادر

حاولتُ، أطلعتُ رئيس الحزب آنذاك الأمين عبدالله سعاده على العقد الذي كنت وقعّته. الأمين كامل حسان، وكان يتولى رئاسة مجلس العمد وعمدة الداخلية انضم إليه, قلت لهما أن وضعي الشخصي لم يعد يسمح لي بالانصراف إلى العمل الحزبي كما كنت أفعل منذ أوائل العام 1962، دون أي انقطاع، قلت لهما أن معظم الرفقاء، ان لم يكن جميعهم، عملوا لفترة ثم توقفوا. وحدي عملتُ دون توقف: مع الرفيق جوزف رزق الله، مع الرفيق هنري حاماتي الامين لاحقاً ثم مع الأمين عبدالله محسن، إلى أن دخلنا معاً إلى السجن. لقد بات عليّ أن أرتاح لوقت، أن أرمم وضعي لأتمكن من معاودة العمل كما كنت افعل، وأكثر.

لا مجال، فالحزب يحتاج إلى كوادر من الرفقاء، وعليّ أن أتولى رئاسة مكتب عبر الحدود. رحتُ أشرح. العقد الذي كنتُ وقعتُ مع رئيس مجلس إدارة مصرف الأمة في ليبيا، كان بتوصية من إدارة بنكو دي روما. صحيح أنها صرفتني من العمل بعد صدور الحكم علي، إنما هي سارعت إلى التوصية بي عندما أتى رئيس مجلس إدارة «مصرف الأمة» الى بيروت كي يختار موظفين بعد أن كان نظام الثورة الليبية قد أمم فروع بنكو دي روما في ليبيا، التي تحوّلت إلى «مصرف الأمة» .

العرض كان مغرياً، 1500 ليرة، أتقاضى ثلثاه في بيروت، 18 يوماً إجازة سنوية، بطاقة السفر ذهاباً ثم إياباً، عند انتهاء العمل، يؤمنها المصرف مجاناً، كذلك الإقامة في ليبيا، وخمسون بالمئة بالنسبة لبطاقات السفر في الإجازة السنوية.

– أنت مصادر

ومثلي الرفيق كمال نادر، منفذاً عاماً للكورة. والرفيق ميشال الأشقر الامين لاحقاً لزحلة، ربما رفقاء آخرون.

في هذا الوقت كانت والدتي، وقد باعت قطعة أرض في المصيطبة، شاركت زوج خالتي وداد، رفول عرمان، في تأسيس مكتبة في منطقة زقاق البلاط على مقربة من السراي الحكومي، فرحتُ أتردد وأساهم في إدارتها واستقبل رفقاء. كم أمضى الأمين جبران جريج ساعاته في المكتبة، وكم مرّ الأمين فؤاد عوض واختار كتباً وقرأ. تلك المرحلة يعرفها جيداً الأمين الراحل محمود عبد الخالق، والعديد من الرفقاء منهم: ريمون الجمل، بسام مخول، سيمون الديري 16 ، وسبع شعيب، ويعرفها ايضاً الرفيقان عبدالله بديوي 17 ، وعادل ايوب 18 ، وكانا زميلا صف، وقارئان جيّدان، والرفيق إيليا نقولا قبل أن يستشهد في أيلول 1971 بعد أن كان تخرج من الجامعة، ولنخسره باكراً جداً.

الوالدة لم تضغط وقد اطلعت على العقد مع «مصرف الأمة»، ولم تطلب إلي أن أنصرف إلى ترتيب وضعي.

في 2 نيسان 1970 أصدر رئيس الحزب الأمين الدكتور عبدالله سعاده المرسوم رقم 15/38 بقبول استقالة الأمين عادل يعقوب عجيمي 19 ، من مسؤولية رئيس مكتب عبر الحدود وتعيين الرفيق لبيب ناصيف رئيساً له. لم يكن الأمين عادل قد أمضى، وناموسه الرفيق خالد زهر 20 سوى فترة قصيرة، لذا لم يكن ممكناً لهما أن يحققا الكثير: بضعة عناوين، وريقات ورسائل قليلة.

العديد من الرفقاء الطلبة كانوا غادروا لمتابعة دراستهم في الخارج وكنتُ عرفتهم في سنوات عملي رئيساً لمكتب الطلبة، فشكلوا لي في بدء ممارستي لعملي معبراً جيداً للاتصال بالرفقاء عبر الحدود. رحنا ننظم الفروع، نتصل، نكتب، نبحث عن الرفقاء هنا، هناك، في أي مكان .

بعد فترة انضم الرفيق طه غدار إلى المكتب وكان عاد من فرنسا حيث كان يتابع دراسته الجامعية مع الرفيقين محمد سليم الامين العميد – الشهيد وإبراهيم غدار، تعين ناموساً للمكتب وراح يقوم بعمله بنشاط ملحوظ وبدقة متناهية وبكثير من حسّ المسؤولية. ما زلت اذكر اننا، لكثرة ما عملنا على طباعة العناوين على المغلفات، بتنا نحفظها غيباً، فنطبع العنوان دون العودة الى اللائحة لدينا.

قبل ذلك كان الحزب قد اختار مركزاً له في شقة في بناية حديثة في الزلقا، بعد أن كانت المراجعات تتم في بيت رئيس الحزب الأمين الدكتور عبدالله سعاده في شارع سامي الصلح.

فريق العمل المنصرف للعمل الحزبي كلياً آنذاك تكوّن من رئيس مجلس العمد – عميد الداخلية الأمين كامل حسان، عميد الدفاع الرفيق خليل دياب الامين لاحقاً ومعه ناموس مكلف، الرفيق نبيل رياشي، رئيس مكتب عبر الحدود الرفيق لبيب ناصيف، ومسؤول الطباعة المركزية الرفيق موسى مطلق إبراهيم الامين لاحقاً . والدة الرفيق صلاح قهوجي، الذي كان شارك في الثورة الانقلابية وحُـكم عليه وخرج مع العفو العام، كانت مدبرة المركز.

العمل ينمو. انتقل المركز إلى سد البوشرية، يومئذ تعرفتُ على الرفيق سليمان العنداري الذي كان يشغل وشقيقه محلاً في البناية حبث المركز الجديد. الشقة الواحدة في البدء توسعت إلى شقتين وتمّ هدم الجدار الفاصل.

رفقاء آخرون يتولون المسؤوليات المركزية، منهم نصري خوري، نصري الصايغ، أنطون أبو سليمان، سمير حداد، جوزف لحود، جميل مكارم، غطاس الغريب.

عرف مكتب عبر الحدود نشاطاً شهد عليه جميع الرفقاء المطلعين، في المركز كما في فروع عبر الحدود، وفي موازاته توليتُ مسؤولية ناموس، فرئيس مكتب الشؤون الطالبية.

في تلك المرحلة من أوائل السبعينات أصدرتُ كتيب «أنا عائد» 21 للأطفال عبر الحدود. لم أقدّر، وقد كتبته ذات يوم «أحد» بعد الظهر ووزعت نسخاً منه إلى بعض الرفقاء الأدباء، والمدرّسين، أنه سيلقى استحساناً لديهم مما شجعني على عرضه على عمدة الثقافة، فطباعته وإرساله إلى الفروع، ووزّع أيضاً في الوطن إلى الأشبال والزهرات، إنما بكمية أقل.

فرعان عبر الحدود عمدا فوراً إلى ترجمة الكتيب وطباعته: في الأرجنتين حقق الترجمة إلى اللغة الإسبانية، الأمين خليل الشيخ وطبعته المنفذية باسم Ya volvere، وكان منفذها العام الأمين رشيد سابا، وفي غويانيا الوسط البرازيلي، ترجمه الرفيق ناصر إبراهيم حنا الخوري إلى اللغة البورتغالية واهتمت المديرية بطباعته تحت عنوان Eu Estou de Volta .

أما في لندن فقد ترجم الرفيق الدكتور تيسير كوا الكتيب إلى اللغة الإنكليزية، إنما لم يطبع.

وحاولنا أيضاً إنجاز «شريط العودة» للرفقاء عبر الحدود. أذكر أني كتبت كلماته، وتمّ اختيار الرفيقة راغدة خليل كعدي 22 والرفيق وسيم سري الدين، المميّز ايماناً والتزاماً قومياً اجتماعياً، لتسجيل الكلمات، وكلاهما يتمتعان بصوت رائع وإلقاء أروع. في منزل الرفيق أنطون حتي الامين، العميد، النائب لاحقاً في عين الرمانة بدأنا التحضير لإنجاز الشريط، الظروف المالية، كما في أحيان كثيرة، حالت دون إتمام العمل.

من المؤسف أن الحزب لم يعط جهده لإصدار كتيبات للأشبال، هؤلاء الذين يحتاجون إلى كتب تبسط لهم العقيدة القومية الاجتماعية وتشرح لهم تاريخ الحزب وتحدثهم عن منارات في أمتهم، وحزبهم.

المحاولة الجيدة التي كانت تأسست في الحزب عبر صدور مجلة «الربيع» 23 للأطفال، وكان عمل فيها بتميز الأمينان نصري صايغ وربيع الدبس، والرفيق الراحل نبيل حبيقة، النبيل بأخلاقه ومناقبه وصفاء إيمانه القومي الاجتماعي، والذي خسرناه باكراً، لم تستمر ولم يرافقها صدور كتيبات متخصصة وقصص مفيدة.

اذكر من الرفقاء الذين نشطوا في حقل الأشبال في أوائل السبعينات: نبيل كيروز، صفية ناصيف، الامينان لاحقاً ، جوزف مشهور، شارل عيسى، صفية حجار، ابتسام نويهض 24 ، وقد عملت الشعبة التابعة لمكتب الشؤون الطلابية على إنجاز نشيد للأشبال كان وضع كلماته الأمين غسان مطر ولحنه الرفيق زكي ناصيف. في تلك الغرفة من بيت الطلبة في ساحة الدباس، راح الرفيق زكي يلتقي مجموعة من الرفقاء والرفيقات يدرّبهم على ألحان النشيد، كما على النشيدين اللذين كان لحنّهما سابقاً: نشيد الحزب الرسمي، ونشيد «موطني يا توأم التاريخ». دور الامينة صفية ناصيف أيوب لا يُـنسى في مجال الأشبال، كذلك دور الرفيق سمير أبو ناصيف لاحقاً، فالرفيقة اليسار زين والرفيق الشهيد عباس أمهز، ولاحقاً الامين محمد صادق خير الدين 25 ، والرفيق مفيد خطار عبد الخالق 26 .

وأذكر أن الرفقاء استمعوا لأول مرة إلى نشيد الأشبال في المهرجان الكبير الذي أقامه الحزب في ضهور الشوير في 9 تموز 1972 27 . من على شرفة دار الزعامة، حيث جلس رئيس مجلس العمد الأمين مسعد حجل والعديد من أعضاء المجلس الأعلى والعمد والمسؤولين المركزيين، تقدمت الرفيقة ابتسام نويهض على رأس مجموعة من أشبال وزهرات من مديرية «القعقور»، التي كان أشرف على تدريبهم الرفيقان سامي وهدى أبو أنطون، وأنشدت المجموعة نشيد الأشبال وسط فرح الآلاف من القوميين الاجتماعيين الذين انتشروا على مدى الساحة أمام دار الزعامة وفي الأحراج المحيطة.

مشهد رئيس مجلس العمد الأمين مسعد حجل يخترق صفوف الرفقاء متوجهاً إلى دار الزعامة، أمامه الرفيق جوزف جزراوي، وراءه الرفقاء مزيد نهار، فكتور معلوف وبول خولي 28 ، ويحيط به الرفيقان، في حينه، الامينان لاحقاً خالد أبو حسن 29 وداود باز 30 ، ما زال مرسوماً في ذاكرتي كأنه اللحظة.

ما زلت أذكر أيضاً كيف قصدتُ «ضهور الشوير» مع الرفيق فواز خوري وكان يتولى مسؤولية مفتش في عمدة الداخلية، وكنت وكيلاً لعميد الداخلية الأمين مسعد حجل وكان ايضاً رئيساً لمجلس العمد قائماً بأعمال الرئاسة، فاطلعنا على مكان المهرجان وعلى مداخل ضهور الشوير وساحاتها. ثم وضعنا خريطة تبيّن لكل منفذية طريق وصولها إلى الضهور ومكان وقوف الباصات والسيارات، وبالتالي طريق خروجها. ووُزعت الخرائط إلى المنفذيات مع الشرح. لذا لم يحصل يومذاك، والمهرجان حضره ألوف القوميين الاجتماعين من مختلف المناطق، زحمة خانقة، أو فوضى تطيح بالفرح الذي عمّ القوميين والمواطنين.

أشرنا إلى بيت الطلبة، ولهذا قصة. في أواخر العام 1970 على ما أذكر راح منفذ عام الطلبة الجامعيين الرفيق حبيب كيروز الامين، العميد، الشهيد كما منفذ عام الطلبة الثانويين الرفيق داود باز يتحدثان عن ضرورة استئجار بيت للطلبة، كنت رئيساً لمكتب الشؤون الطلابية، رحت والرفيق كيروز نبحث عن المكان المناسب، أذكر أننا وقفنا أمام خيارين اثنين:

– الطابق الأرضي من بناية قرب فندق بريستول .

– الطابق الثاني من بناية في ساحة الدباس .

أقرّ الرأي على أن نعتمد الخيار الثاني، فهو وسط بيروت حيث يصل إليه الرفقاء والمواطنون الطلبة من مختلف المناطق ومن معظم أحياء العاصمة، ومنه يتوزعون إلى الجامعات والثانويات والمعاهد.

أشرفتُ على تأثيث البيت، من المسمار في الحائط إلى الطاولات والكراسي وكل شيء، وتسجّـل الإيجار باسمي واسم الرفيق حبيب كيروز.

شكّـل البيت الوسيع بداره، وصالونه وغرفه العديدة، مقراً وممراً لعدد كبير من الرفقاء والمواطنين الطلبة. الغرفة الصغيرة إلى جانب الدار التي خصصناها لبيع الكتب، وجريدة «البناء» الأسبوعية، كانت إلى جانب ريع فنجان القهوة، تغطي الإيجار السنوي للبيت، ومقداره في ذلك الحين 4200 ل.ل. بحيث أننا لم نتصل يوماً بعمدة المالية من أجل المساهمة بتأمين أي مبلغ للإيجار.

في تلك الفترة كنت قد أجريت عملية في الشرايين Varis مما اضطرّني إلى جعل قدميّ في وضع مرتفع على مدى 24 ساعة، وإلى التردد إلى البحر حتى في فصل الشتاء، من أجل المزيد من حركة القدمين في الماء. لذا كان بيت الطلبة المكان الأمثل لمزاولة مسؤوليتيّ فيه كرئيس لمكتبّي عبر الحدود والشؤون الطالبية، فاتخذت من الغرفة الاولى الى اليسار مكاناً لي، فيما تقاسم منفذ عام بيروت الأمين جبران جريج الذي انتقل بدوره إلى «بيت الطلبة» مع منفذيتي الطلبة الجامعيين والثانويين، الغرفة الوسيعة الثانية إلى اليسار، فيما خُـصصت غرفتان في الجهة المقابلة، للاجتماعات الإدارية والإذاعية، فحلّ اسمه مكاني على سند الإيجار .

المئات المئات من الرفقاء والمواطنين يذكرون بيت الطلبة بحنين كبير، وبغصة أكبر. لقد جعلتهم الحرب القذرة يغادرون البيت وسط منطقة معادية. صمدوا كثيراً، وقاتلوا أكثر من مرة ورفضوا أن يطووا علم الزوبعة المرفرف على الشرفة حيث كان عشرات الآلاف من المواطنين الذين يمرون في ساحة الدباس، وفي شارع بشارة الخوري، كما في الشارع العريض الرينغ كما كانوا يسمونه يرونه مرتفعاً على الشرفة في الطابق الثاني من البناية المواجهة لساحة الدباس.

واليوم إذ أمر في تلك المنطقة وأنظر إلى الباحة الخالية حيث كانت البناية، أشارك رفقائي حنينهم، واستعيد أياماً ولا أحلى، وسنوات هي من أطايب العمر، ولا شك أن المئات غيري من الرفقاء والأصدقاء يشعرون بما أشعر به كلما مرّوا أمام تلك البناية الباحة، واستعاد كل منهم ذكرياته.

وإذا كان بيت الطلبة يحتل في ذاكرتي مساحة واسعة من الحنين فإن الرفقاء الذين كانوا يترددون إليه يحتلّون بدورهم مساحة أكثر اتساعاً. لعل ابرزهم الامين علي عسيران وقد كان يضطر احياناً كثيرة للمكوث في البيت متابعاً دراسته في بيروت، ومثله الرفيق حسان وهبة عمر الذي كان يتابع دراسته المسائية في مدرسة «المخلص». اليهما شدّتني مشاعر الود والثقة استمرت مع الرفيق المناضل حسان عمر الى ان قضى في حادث مأساوي مع بدء الاحداث في الشام، وما زالت مستمرة مع الامين علي عسيران الذي اشهد، وقد رافقته في الوطن وفي مسؤوليته في احد البلدان العربية، على التزام واع وصادق بالحزب وتجسيد متقدم لفضائله ونهجه النهضوي .

الى ذلك لا يمكنني ان انسى:

تردد العدد الكبير من الطلبة، رفقاء واصدقاء، الى بيت الطلبة، للاجتماعات الاذاعية، والدورية، او لملاقاة بعضهم البعض، وقد ساعد صالون البيت وغرفه الواسعة في تأمين ذلك.

قيام رفيقات بتأمين نظافة البيت اسبوعياً، وما زالت صورة الرفيقة زينب عبد الساتر 31 مستقرة في ذاكرتي وهي منكبّة، مع رفيقات، على شطف الدار والصالون بالصابون والماء الوفير.

الصوت المرتفع لقدم الرفيقة امال ابو حيدر 32 تخبط ارض الدار، وهي تدخل «بيت الطلبة» منتصبة القامة مؤدية التحية، ليرتج ارض الدار فيعرف كل من في ارجاء البيت ان الرفيقة امال ابو حيدر وصلت. وكثيراً ما تترافق مع الرفيقة دنيا ابو انطون 33 .

الحراسات التي كان يقوم بها الرفقاء مع بدايات الحرب اللبنانية، والاستنفارات الكثيرة، بمواجهة حزب الكتائب.

نأمل من الرفقاء الذين عرفوا جيداً تلك المرحلة ان يكتبوا إلينا، لفائدة المزيد من الاضاءة على «بيت الطلبة» والكثير من الاحداث التي جرت في حينه.

هوامش:

16 – سيمون الديري: نشط جيداً في الستينات. غادر الى اسبانيا لمتابعة دراسته. اصدر كتاباً عن الاديب فؤاد سليمان. مجاز في الادب العربي.

17 – عبدالله بديوي: من ابناء «راشيا الفخار»، كان طالباً تكميلياً عندما كان يتردد الى المكتبة مع زميله ورفيقة عادل ايوب. غادر الى احدى البلاد العربية ثم عاد مستقراً في بلدته. شقيقه الرفيق انطون بديوي.

18 – عادل عبدالله ايوب: من كفرمشكي، يعرَف عنه رفقاؤه انه «عادل الصغير» لان هناك رفيقاً آخر باسم عادل ايوب، هو عادل نقولا ايوب، الذي كان غادر الى اوتاوا. منح رتبة الامانة من جانب التنظيم المستقل في السبعينات وتولى مسؤوليات محلّية. كان الرفيق عادل «الصغير» يلفتني بذكائه وبشدة نهمه للمطالعة، عرفت انه تولى مسؤولية مدير في كفرمشكي، وهو يعتني بمزروعاته في البلدة.

19 – عادل يعقوب عجيمي: مراجعة الموقع المذكور آنفاً.

20 – خالد زهر: كما آنفاً.

21 – انا عائد: كما آنفاً.

22 – راغدة كعدي: مراجعة النبذة المنشورة عن والدها الرفيق المناضل الراحل خليل كعدي، على الموقع المذكور آنفاً.

23 – مجلة «الربيع»: مراجعة الموقع المذكور آنفاً.

24 – مراجعة ما نشرته عن عمل الاشبال في ستينات القرن الماضي على الموقع المذكور آنفاً.

25 – محمد صادق خير الدين: مراجعة الموقع المذكور آنفاً.

26 – مفيد عبد الخالق: من «مجدلبعنا». تميّز في تفانيه في مخيمات الاشبال وفي العمل معهم. غادر الى استراليا متابعاً نشاطه الحزبي.

27 – لمراجعة ما نشرناه عن المهرجان، الدخول الى الموقع المذكور آنفاً.

28 – بول خولي: مراجعة الموقع المذكور آنفاً.

29 – خالد ابو حسن: تولى مسؤوليات في الشويفات، منفذية الغرب وفي مركز الحزب، فكان عميداً اكثر من مرة. كان تربوياً معروفاً، مؤسساً ومشاركاً في اكثر من مدرسة. آمل ان اتمكن من الكتابة عنه.

30 – داود باز: مراجعة الموقع المذكور آنفاً.

31 – زينب عبد الساتر: عرفتها منذ انتمائها مع شقيقها الرفيق حمزة، ثم عرفتها اكثر عندما تولّت مسؤولية ناموس رئيس الحزب الامين عبدالله سعاده وكنت مديراً لمكتبه. ما زالت تحتل لدي الكثير من المحبة لما تتمتع به من المزايا القومية الاجتماعية.

32 – امال ابو حيدر: كانت رفيقة نشيطة، ومتفانية، اقترنت من الرفيق انطون خوري الذي كان منفذاً، ناموساً للرئاسة وعميداً، وقد ذكرته في اكثر من مناسبة.

33 – دنيا ابو انطون: مماثلة للرفيقة آمال نشاطاً والتزاماً، كانت صديقة لها . اقترنت من الرفيق جوزف فرنساوي الذي كان تحرك جيداً في الستينات، وتابع التزامه في منفذية المتن الشمالي، متولياً مسؤوليات محلية فيها.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى