«لص بغداد» في قبضة عبودي أبوجوده.. و«دار النمر» يحيي ليالي «ألف ليلة وليلة»
اعتدال صادق شومان
يبدو أن الناشر وصاحب «دار الفرات» عبودي أبو جوده لم يُفرج بعد عن كامل مكنون مقتنياته الغنية من عالم الأفيشات والملصقات حتى اليوم، هوايته الآسرة من لحظة دهشته الأولى وامتلاكه ملصقه الأول «رحلة سندباد السابعة»، وهو صبي في التاسعة من عمره، مفتون بوهج اللون والصورة والظلّ والأشكال التي اشتغلها فنانو ذاك الزمن على بساطة أدواتهم، لتبدأ رحلة الفتى عبودي مع عالم الملصق الإعلاني للأفلام السينمائية أي «الأفيش» بلغة أهل الفنّ السابع.
ولع بها فاقتناها وراكمها وصانها من كلّ ضرر، من غير أن يفقد بهجته بها من عهد الطفولة وما انصرف عنها. وقد أضحت مجموعات «شاه زمان الأفيش» أحمالاً مرموقة تراكمت على مدى أكثر من نصف قرن من الزمن إلى أن بلغت زهاء 20 ألف ملصق لنحو خمسة آلاف من الأفلام العربية والعالمية القديمة التي أنتجت في ستينيات القرن العشرين، وهي الفترة التي شهدت أغزر إنتاج للملصقات. وهكذا دخل أبو جوده المجال السينمائي من باب الأفيش الواسع، ليتحول شغفه الجميل إلى حرفة لا يشاركه فيها الكثير من أهل الكار، ومنها عَبر الى عالم الكتاب الباهر وسطوته، فأنشأ من نسقها، دار «الفرات» مؤسسة مُورفة على ضفاف الثقافة و رافداً ثقافياً مضافاً على ضفتي النشر والتوزيع.
خطوته الأولى على مسبار الكشف عن مكنونات «كنزه» الملون كان إصدار كتابه الفاخر «هذا المساء» في العام 2015 التي وثّق فيه للسينما اللبنانية في فترة خمسين عاماً بين 1929 و1979 الإصدار الذي عدّ يومها وما زال سابقة من نوعه في مجال ملصق السينما العربية، وأثار اهتمام السينمائيين والمؤسسات الثقافية والفنية والطلاب والباحثين في مجال تاريخ الملصقات. ضمّ بين طياته سجلاً حافلاً اشتمل على 252 ملصقاً و740 صورة، 110 صور على كرتون، 40 دليلاً إعلانياً، 60 مقالة 34 إعلاناً صحافياً و230 فيلماً من آفيشات الأفلام اللبنانية حين كانت بيروت منطلقاً لتوزيع الأفلام الى الشرق الأدنى من إيران الى تركيا وصولاً الى باكستان وافغانستان.
في خطوته الثانية، اختار أبو جودة اقتفاء خطى «لص بغداد» في معرض أقامه لمجموعته في دار «النمر للفنّ والثقافة» احتوى تشكيلاً من ملصقات الأفلام، وقصاصات صحافية، وصور فوتوغرافية، بتسعيرة دخول لا تقلّ عن 60 قرشاً للصالة، و15 قرشاً بلكون و125 قرشا للروّاد من فئة vip.
وفي مراجعة سريعة «للملصق السينمائي» الذي كان الصلة الأولى بلعبة التشويق بين الفيلم والجمهور، وشغل مخيلة المتلقي بلمحة واحدة من خلال إبراز أسماء أبطال الفيلم بحسب أهمية الاسم والدور وتاريخ حضور بطل الفيلم السينمائي، الى جانب معايير وسمات أخرى تتعلّق بمزاج الجمهور وأهداف مالك السينما.
وقد نشأت فكرة «الأفيش» مع ازدهار السينما العالمية في فترة ما قبل الحرب العالمية الثانية، وبقي معتمداً للترويج عن الفيلم حتى السبعينيات من القرن الماضي، ومع وصول السينما الى العالم العربي كانت مصر أول من تلقف الحرفة وساهمت في نشرها.
والملصق هو عبارة عن ورقة أو قطعة قماش مرسومة بيد رسامين عدّتهم القلم والريشة والألوان. أما عن طرائق الرسم، فاعتمد الخطّاطون والرسّامون لتلك الأفيشات بوضع التصميم على لوح زجاجيّ بخطوط سوداء ثم وضع مصباح خلف اللوح لتنعكس الصورة الكبيرة على الورق، فيصار تحديدها بقلم الفحم، ثم يتم تلوينها بالألوان الزاهية أو الفاقعة، وقد صنّفت بحسب جودة إتقانها أو رداءته بين «درجة أولى أو درجة ثانية». لترتقي هذه الحرفة تدريجياً وتتغير أدواتها وأشكالها تبعاً لتتطوّر معدات العصر، فحلّت بداية الصور الفوتوغرافية عوض الأعمال الفنية اليدوية، وقد أصاب بعض رسّامي الأفيشات الشهرة وحصدوا الجوائز، في حين ظلّ الكثيرون بينهم مغمورون لم يُسعفهم الحظ.
أما اليوم فقد أضحت التقنيات الحديثة مسيطرة على الحرفة بما يُعرف بالتصميم «الغرافيك» في الرسم والتصوير بالكمبيوتر، وصار الرسام يدعى «الديزينر» وباتت التكنولوجيا هي الأساس في صناعة الملصق الدعائيّ للفيلم لتندثر الأفيشات في تكوينها الأول، إلا أنها احتفظت بقيمتها وجمالها في ذاكرتنا السينمائية، وأصبحت تُعامل مثل اللوحات الفنية النادرة تزيَّن بها الجدران، ويعرض معظمها في معارض للمقتنيات الأثرية والصالات الفنية.
و»لص بغداد» الذي لم تسقط عنه وصمة اللصوصية بتقادم الزمن- كما عن العرب، في السينما العالمية هو اليوم مدار نشاط دار النمر. وسبق أن خُلدت سيرة هذا اللص الخرافية بأفلام مغامرات عدّة في أول إنتاج لهذه الأفلام سنة 1924 وهو يحكي قصة أمير من بغداد يقع في حبّ ابنة والي البصرة. وبمساعدة صديقه اللص الصغير الذي من المفترض أن يكون الشاطر حسن يستطيع استرجاع مملكته والزواج من الأميرة الحسناء، وقد لقى رواجاً كبيراً فأعيد إنتاجه لأكثر من مرة، وفي بلدان عديدة في السنوات 1940، 1960، و1961 وإن بصيغ مختلفة تساير المزاج الأوروبي على حساب القصة الأصلية.
وكان من نجاحه وشهرته أن نالت نسخته التي صوّرت في العام 1940 جوائز عديدة من الأوسكار، وفي سنة 1996 تم اختيار هذا الفيلم للحفظ في السجل الوطني في الولايات المتحدة عن طريق مكتبة الكونغرس تحت تصنيف قيمة ثقافية وتاريخية ومعنوية . وهناك 12 فيلماً حملت اسم «لص بغداد»، بينها أربعة أفلام أميركية وثلاثة أفلام هندية وفيلم روسي. جمع أبو جوده حوالي عشرين ملصقاً منها لهذا الفيلم. وبنتيجة هذه الأفلام كان أن حضر إسم بغداد بكثافة لأكثر من 55 مرة كعنوان لأسماء أفلام بدأت مع عهد السينما الصامتة وأكملت، ومنها: «حلّاق بغداد»، «حوريّة بغداد»، «بغداد»، «حريم بغداد»، «حدّاد بغداد»، «جميلة بغداد»، «ساحر بغداد» و»فتاة بغداد».. وهكذا على منوال هذه القافية.
لعلّ مرد ذلك، حضور بغداد «العباسية» التاريخي في كل مكوّناتها في حكايات ألف ليلة وليلة ولكونها ميدان انطلاق «علاء الدين» و»شهرزاد» و»علي بابا». وقد نافست بذلك بغداد اسم عاصمة الفنّ باريس على الأفيشات الملوّنة بفضل هذا المورّث الثقافي المتخيّل.
اختار أبو جوده لمعرضه الذي حمل عنوان «العرب في السينما العالمية» 108 ملصقات من أصل 550 ملصقاً تشكّل مجموعته من أعمال فناني الملصق لأفلام أنتجت في أميركا وتركيا ويوغوسلافيا وروسيا وفرنسا وكرواتيا والدنمارك والهند، وأول الملصقات المعروضة أو المتوفرة لديه يعود إلى العام 1924. وقد تمّ توزيع الملصقات المختارة في الطابق الاول من «دار النمر» موزعة على أربع صالات رحبة تتيح للملصقات مساحة للتعبير عن نفسها بنفسها تحت عناوين: «حب وغرام»، «خيال»، «مغامرات»، «صوّر في بيروت» مرفقة ببطاقة تشرح تفاصيل تُعرف بالأفيش، وسط أنغام موسيقية للفيلم لنسخة 1940 للملحن ميكلوس روزا. وكان لأبو جودة عرض في ندوة لاحقة للافتتاح قصة شغفه بتجميع «الأفيشات» الى جانب شرح لسيرة أفلام الأفيشات المعروضة.
وبحسب منشور «دار النمر»، المرفق بالدعوة الى المعرض شرح كيف وصل العرب الى الشاشة الفضية إثر الحرب العالمية الأولى وانتشار الصناعات السينمائية التي تضخّمت بسرعة، ومن أجل استيعاب وتلبية إحتياجات السوق للروايات التاريخية التي كانت رائجة حينها، ارتكزت جهود شركات الإنتاج على كتّاب ومؤلفين اعتمدوا الروايات والقصص التاريخية من الحضارات القديمة والمأثور الثقافي الشرقي الذي وصلهم من خلال كتابات بمن عُرفوا بالمستشرقين والرحالة الى المشرق والعالم العربي والذين استلهموا قصصهم من أخيلة كتاب «ألف ليلة وليلة»، حتى أنه في العام 1924 تم أنتج فيلم أميركي تبنّى قصة متخيّلة بحسب الذوق الغربي تجمع بين هارون الرشيد وشهرزاد وعلاء الدين وسندباد، وحمل هذا الفيلم في نسخته المدبلجة إلى العربية اسم «شهرزاد».
كما نجد أيضاً في المعرض سلسلة أخرى من الأفلام التي وزّعت في الصالة الرابعة من معرض «لص بغداد» في «دار النمر». أفيشات للأفلام «زيغفيلد الكبير» هو فيلم موسيقي تم إنتاجه في الولايات المتحدة وصدر في سنة 1936. و»ليتل إيجيبت» 1951 من وحي عالم الرقص الشرقي وتحديد الانتشار المصري لهذا النوع من الفنّ. وفيلم «عبد الله وحريمه» 1955 الذي عُرف كذلك بعنوان «عبد الله الكبير» . وأنتجت هذا الفيلم الكوميدي شركتان مصريتان، وقامت بتوزيعه شركة «فوكس» الأميركية. وتدور قصته حول حاشية ملك باع بلده لأجل خاطر راقصة رفضته، وأحبّت أحد ضباط جيشه ونظراً لتشابه الفيلم مع الأجواء التي شابهت حكم ملك مصر فاروق تقدّم الملك المخلوع يومها بدعوى قضائية على مخرج الفيلم الروسي غريغوري راتوف الذي أدّى كذلك دور الملك «عبد الله»، مدعياً أن الفيلم الذي صُوّر في مصر يتناوله شخصياً بصفته الملك السابق للبلاد. هذه الحادثة اشتهرت يومها في صحافة تلك الأيام وكانت مادة للتندّر بين الناس.
في «لص بغداد» نعود لنركن مجدداً لأهمية هذا الجهد المبذول لـ»الشاطر عبودي» في أرشفة الملصق وتاريخه وحكايته، ولحمايته في أحسن صورة ممكنة، ليخرجه لنا من عبء التاريخ وأروقة السينما كلما سنحت له فرصة ليلمع في ذاكرتنا من جديد كما لمع في زمانه.. وعلى مسبار بطل ملصقاته «سندباد» يحلق بنا على بساط سينما «زمان بالألوان» الى عالم مزدحم بسحر وميض الضوء نفتقده في حياتنا اليوم الضاجّة بكل شيء نعاين منها الملامح والذكريات القابعة في خوابي الذاكرة الراحلة، والأهم أنها تعيد تعريف أجيال اليوم بهذه الأعمال كي لا يفوتهم شيئاً كان جميلاً، من زمن.. أتفق أنه كان جميلاً، وكان قادراً على ابتكار البهجة من أبسط الأشياء وأقلّها كلفة وأكثرها تواضعاً ولعلّ أبرز ابتكارته صناعة الفرح.
غير أن اللصوص في زماننا.. ليسوا ظرفاء كـ لصّ بغداد…