الفلسطينيون في سورية… إلى «الحيادية» بعدما «تجلّت» لهم المخطّطات الأجنبية
إعداد وترجمة: ليلى زيدان عبد الخالق
وسائل إعلام غربية وعربية عدّة حاولت جاهدةً زجّ الفلسطينيين كطرفٍ في الحرب الدائرة في سورية. وعمدت هذه الوسائل الإعلامية إلى فبركة أخبار مفادها أن الجيش السوريّ يقصف المخيمات ويرتكب المجازر بحقّ قاطنيها، ما من شأنه تشويه صورة سورية أمام الرأي العام العربي، خصوصاً أن سورية تُعتبَر الدولة العربية الممانِعة الأقوى في العالم العربي إلى جانب لبنان متمثلاً بالمقاومة وجيشه.
وليس غريباً على وسائل الإعلام المغرضة هذه أن تدق أسافين التفرقة بين السوريين والفلسطينيين، كونها تخدم المشروع الأعمّ… «الربيع العربي» بكل لوثاته.
في التقرير التالي، تتابع شارمين نارواني، وهي معلّقة ومحلّلة تغطّي العلاقات الجيوسياسية في الشرق الأوسط، جولتها على المخيمات الفلسطينية في سورية. فتزور مخيّم حمص، ومن خلال ما وقعت عليه من مشاهدات ومقابلات هناك، عادت بها الذاكرة القريبة إلى مخيّم اليرموك في دمشق، لتبرز بما لا يستدعي الشكّ، فبركة تلك الأكاذيب، وتأكيد الفلسطينيين أنّ سورية بحكومتها وجيشها وشعبها، لم تتخلّ أبداً عن فلسطين ولا عن الشعب الفلسطيني.
وتنقل شارمين نارواني اعتراف بعض المسؤولين الفلسطينيين الموجودين في المخيمات، بأنّهم غُرّروا بدايةً بما يسمّى «الربيع العربي»، وأنّ فلسطينيين كثيرين ظنّوا في هذا «الربيع» صحوةً لإنقاذ فلسطين. إلّا أنّهم سرعان ما اكتشفوا أن ما يحصل مخطّط أجنبي يهدف إلى تدمير الدولة وتقسيم المجتمع. «لقد تفتحت أدمغتنا الآن وعملنا على تطوير أفكارنا، حتى أولئك البسطاء من عامة الشعب غيّروا مفاهيمهم الآن».
وتتطرّق شارمين نارواني في تقريريها أيضاً إلى المساعدات التي يتلقاها الفلسطينيون من الحكومة السورية، وإلى ادّعاءات وكالة «الأونروا»، التي ضُبطت «تكذب» في أكثر من مناسبة.
على الحياد دائماً
تختلف مشاهداتنا في مخيم حمص إلى حدّ كبير عن تلك التي عاينّاها في مخيمَيْ اليرموك وجرمانا لسبب واحد رئيس، ألا وهو ازدحام طرقاته الرئيسة بالمتاجر، فلا بدّ من أن «نناضل» كي نتمكن من شقّ طريقنا وسط الحشود التي تقصد الأسواق للتبضّع يومياً. لم نرَ الكثير هنا ـ الفلسطينيون في حمص محايدون حتى النخاع.
محطتي الرئيسة في مخيم حمص كانت في «مستشفى بيسان»، الذي سمّي بذلك تيمّناً بِاسم مدينة فلسطينية، وتدير هذا المستشفى «جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني». المدير التنفيذي في هذا المستشفى محمود درويش، ليس الشاعر الفلسطيني الثائر، بل رجل آخر، ويضمّ مكتبه أربع صور معلّقة على الجدران: اثنتان لرئيس السلطة الفلسطينية الراحل ياسر عرفات، واحدة للرئيس السوري بشار الأسد وخريطة للمسجد الأقصى في القدس.
أعطى «مستشفى بيسان» وعده بالبقاء على الحياد مع بداية الحرب في سورية، كما عمل على تأمين الدواء للمقاتلين النظاميين والمعادين للحكومة، على حدّ سواء، أي من دون الأخذ بالاعتبار الخلفية التي يأتون منها.
يقع المستشفى خلف منطقة سكنية شهدت عدداً من المناوشات. عندما التقيتُ درويش ـ الرئيس التنفيذي في المستشفى ـ كان يستقبل زوّاراً ظلّوا خلال المقابلة. أخذ الحديث منحىً سياسياً عندما تدخّل بعض الموجودين في عرض أفكارهم وآرائهم. فقد قيل لي إن السبب وراء بقاء المخيم محيّداً خارج إطار الحرب، كونه يقع بين بابا عمر الحيّ الذي يبعد حوالى كيلومتر واحد عن المستشفى ومواقع الجيش السوري، ما منع «المتمرّدين» من دخول المخيم.
فيما أخبرني آخر أنّ لغة الحوار أعانت المخيم كثيراً. فبعض القادة الفلسطينيين تدخلوا في فضّ النزاعات، وجاهدوا لتحقيق المصالحة بين «المتمرّدين» والحكومة السورية. تدخلت حماس مجدّداً. فالبعض تحدّثوا عن رفض أولئك الذين لم يظهروا أيّ شفقة أو تعاطف مع الشهداء السوريين، متأثرين في ذلك بحديث الداعية الإسلامي المتطرّف يوسف القرضاوي. ويقول آخر: «يرفض الحمساويون المتواجدون في هذا المخيم أن تكون لهم أي صلة بالأزمة السورية. فقياديو حماس هم هنا، كذلك عائلاتهم، التي نشأت وكبرت هنا. حتى أن بعضهم أتوا إلى مخيم اليرموك من مناطق بعيدة مثل غزة».
يتدخل درويش لشرح الأسباب التي تدعو الفلسطينيين إلى البقاء على الحياد فيقول:
«نحن نتمتع بكلّ الحقوق في سورية. نعامَل كمواطنين سوريين هنا نتعلم معهم في مدارسهم… قلّة قليلة من الفلسطينيين انجرفت في هذا الصراع، فقط أولئك الذين يعيشون على الهامش».
طرحتُ سؤالاً على الموجودين حول ما إذا كان الجيش السوري قد دخل مرّة مخيم حمص، بهدف الإضاءة على التهمة التي وجّهها الإعلام خلال الأزمة، والسؤال نفسه لم أتعب من طرحه على سكان المخيمات الفلسطينية في سورية كلّما زرتها. ويأتي الجواب دائماً: «لا».
المنظمات غير الحكومية… «لا للتدخّل»
ونعود إلى دمشق، حيث التقيتُ رئيس «الهلال الأحمر السوري»، المجموعة التي تعمل بكامل طاقتها وقوّتها المتوفّرة من اللجنة الدولية للصليب الأحمر داخل سورية. إنها مجموعة محايدة، وتعاني الأمرّين للبقاء على الحياد في منطقة يديرها كلّ من «المتمرّدين» والقوات الحكومية.
يُفترض بـ«جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني» في اليرموك كما في غيره من المخيمات أخذ زمام المبادرة الميدانية، لكن هذه الجمعية نُهبت بالكامل من قبل المسلّحين. فقد وفّر «الهلال الأحمر العربي السوري» سيارات للإسعاف، وأدوية ومساعدين وأبقوهم تحت الطلب. وقد صادفتُ بعضهم أثناء زيارتي، وكانوا يساعدون في إخلاء بعض السكان ممّن أخذوا الموافقة على تلقي العلاج الطبي. يُنقَل عدد من المرضى والمصابين إلى المرافق الطبية التابعة لـ«جمعية الهلال الأحمر العربي السوري»، لكن معظمهم يعالَجون في المستشفيات السورية.
ثم التقيتُ الدكتور عبد الرحمن العطّار، «رئيس جمعية الهلال العربي السوري»، لأستفسر منه عمّا إذا كان الجيش السوري قد دخل المخيمات الفلسطينية بينما كان السكان لا يزالون فيها.
«برأيي، لم يقوموا بذلك، لا». أجابني. ويقول العطار: «كلّ ما يحصل في اليرموك تقع مسؤوليته على الفلسطينيين لا على السوريين… فالدور السوري ينحصر فقط في تقديم التسهيلات».
والسيناريو نفسه ينسحب على كلّ الذين قابلتهم وسألتهم. هناك إجماع على أن الجيش السوري لم يدخل أيّ مخيم لمقاتلة «المتمرّدين» إلّا بعد إفراغه من سكانه كما حصل في درعا وحندارات.
تابعتُ جولتي لألتقي الدكتور شاكر الشهابي، مدير «جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني» في سورية، وعضو المجلس التنفيذي في المنظمة الأمّ، ومقرّها في رام الله ـ فلسطين. تدير هذه الجمعية ثلاثة مستشفيات كبرى في سورية: «بيسان» في حمص، و«يافا» في المزة، دمشق، و«مستشفى فلسطين» في مخيم اليرموك. بينما العيادات الصغيرة التي كانوا يديرونها في النيرب، سبَينه، خان دندون ودوما، دُمّرت بالكامل.
والجدير ذكره هنا، أن «جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني» تبقى واحدة من بين عددٍ قليل من المنظمات الحكومية التي لا تزال تعمل داخل القسم المحتلّ من قبل «المتمرّدين» في مخيم اليرموك. وهي تدير المنشأة الطبية الوحيدة التي لا يسيطر عليها المسلّحون داخل المخيم، أي «مستشفى فلسطين».
يقول الشهابي: «لدينا فقط طبيبان وبعض المتطوّعين ممن يعملون هناك. قُتل طبيبان وخمسة من الطاقم العامل أثناء الأزمة. أحدهم خسرناه منذ بضعة شهور فقط ـ دياب مهنا، وهو طبيب مساعد، أردوه بينما كان خارجاً من المستشفى».
ويتابع: «توقفت المساعدات الطبية عن التدفق إلى داخل اليرموك بعدما سُرقت ثماني سيارات، وست سيارات إسعاف، إبان احتلال المتمرّدين المخيم، كما سُرقت أكبر منشأة لتخزين الأدوية والمستلزمات الطبية لدينا».
وكانت «جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني» قد ساعدت في بداية هذه السنة في إجلاء أكثر من 3000 مدنيّ من اليرموك. وكانت الحكومة السورية قد أعطت الإذن للأسماء التي يُسمح لأصحابها بالخروج، كما كشفت عن أسماء المقاتلين.
قضايا الأغذية
الجوع، يقول الشهابي، مشكلة المخيم الرئيسة، فالمدنيون كانوا يتلقون صناديق الأغذية من «الأونروا» ومن المنظمات غير الحكومية، وقد تحسنت نوعيتها منذ شباط ـ آذار 2014، عندما فتح الطرفان الحدود مع يلدة وغيرها من الأحياء المجاورة، ووصل ثمن كيلو الرزّ حينئذٍ إلى 15.000 ليرة، بينما أصبح الآن 500 ليرة.
تزامنت رحلتي إلى مخيم اليرموك مع وصول سيارة «الأونروا» الغذائية إلى المخيم. فالمنظمة كانت قد أعلنت السنة الماضية عن قصة الجوع هذه، لكنها تغاضت عن تفاصيل كثيرة.
فعلى سبيل المثال، لم تحظَ مسألة ندرة الغذاء بالأهمية ذاتها التي نالتها مسألة وصول الصناديق الغذائية وتكلفتها. السكان الضعفاء داخل المخيم لم يكن في استطاعتهم إعالة أنفسهم، كالأطفال، وكبار السنّ، وتلك المرأة التي اختفى زوجها منذ بداية الأزمة وتعكف وحيدة على إعالة ابنتيها.
لطالما سُرِق الطعام داخل مخيم اليرموك في الأحياء التي يسيطر عليها المسلّحون، غير أن البائعين فقدوا فرصة تسعير مبيعاتهم بأسعار أعلى نظراً إلى عدم استقرار الأوضاع.
وهناك أيضاً مشكلات أخرى. فقد أخبرني عامل مساعد في «جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني» يعمل داخل مخيم اليرموك أن المسلّحين أخذوا من السكان غالبية الصناديق الغذائية في بداية توزيع المساعدات. فما كان من المدنيين إلّا أن أسّسوا جمعيات مناهضة لهذا التصرّف، وعملوا على التخفيف من وطأته.
وبينما كنتُ أجري مقابلة مع بعض الذين تلقّوا المساعدات، اشتكت امرأة لديها طفل، من أن المسلّحين صادروا صناديق طعامهم الأسبوع الماضي، وكانت تسأل عن البديل. غير أن وكالة الغوث رفضت طلبها مبدئياً، بحجة أنها تريد تأمين الصناديق بالتساوي لجميع السكان، وما لبثت أن تراجعت عن قرارها هذا ربما بسبب تواجد الوسائل الإعلامية في المكان.
أخبرني مندوبو «الأونروا» أنهم يقدّمون قرابة 400 صندوق غذائيّ يومياً طوال فترة تواجدهم في «اليرموك». على رغم صعوبة الوصول إلى مكان توزيع الغذاء في الأيام التي يشتدّ فيها النزاع بين الأطراف المتقاتلة. ففي اليوم الذي وصلتُ فيه، لم يكن في حوزة سيارة النقل أكثر من مئة صندوق، وخلال الوقت الذي قضيته هناك، لم أرَ أكثر من بضع عشرات من المدنيين يصطفّون للحصول على غذائهم.
ثمّ قام الناطقون بِاسم وكالة الغوث بإطلاق كذبة كبيرة تشير إلى أنّ المدنيين الـ18000 ممّن يقيمون داخل المخيم، يعتمدون بشكل رئيس على المساعدات الغذائية. فليس لـ«الأونروا» القدرة المادية ولا المالية لتوسيع نشر مساعداتها التي تلبي جميع الاحتياجات الفلسطينية خلال هذا الصراع. فهم استمروا في تقديم المساعدات التربوية والغذائية وكذلك الطبية، لكن أنّى تجوّلنا في المواقع الميدانية في اليرموك وجرمانا وحمص، نجد لجاناً فلسطينية تعمل جاهدةً على أرض الواقع لتعويض النقص الحاصل.
يوضّح لنا ممثل «الأونروا» والمسؤول الرئيسي عن توزيع الغذاء داخل اليرموك حقيقة لافتة: «تقوم الحكومة السورية بما في وسعها لتسهيل حدوث هذه العملية. فهم لا يقومون بتعداد الحصص الغذائية التي تدخل إلى المخيم… ويبدو أن الفضل في هذا يعود ـ تحديداً ـ إلى وزيرة الشؤون الاجتماعية السورية كندة شمّاط».
أين مكمن الخطأ في كلّ هذا؟
ما الأمر الذي جعل الأمور تسوء إلى هذا الحدّ مع الفلسطينيين في سورية؟ فهذا البلد العربي هو الوحيد الذي رحّب بالفلسطينيين واستضافهم وكرّمهم وعاملهم أسوة بمواطنيه وأعطاهم الحقوق ذاتها، باستثناء الجنسية وحق التصويت فقط.
ففي سورية أيضاً، أصبحت الملاجئ الفلسطينية أهدافاً رئيسة لكلّ المسلّحين الذين نجحوا في دخول المخيم. لكن لماذا؟ ما هي القيمة الاستراتيجية لدخولهم وتموقعهم في هذه المخيمات؟
وتثير هذه الوقائع سؤالاً أساسياً: هل قام البعض بجرّ الفلسطينيين إلى قلب الأزمة السورية لأسباب سياسية؟ لتقسيم الولاءات والتسبّب بصراع الفلسطينيين مع الحكومة السورية؟ أم أنهم انجرفوا إلى هذا الصراع لوقوع مخيماتهم في مناطق استراتيجية، كما في اليرموك، بوابة دمشق، أو حندارات الذي يشكل خط إمداد إلى حلب؟ أما الجواب الذي حصلنا عليه وفقاً لكلّ الفصائل السياسية التي التقيت مسؤوليها: «قليلٌ من الأمرين».
لكن دعونا نصحّح في البداية بعض المعلومات المغلوطة.
فخلافاً للمعطيات السائدة، لم يشارك اللاجئون الفلسطينيون في أيّ من التظاهرات الكبيرة سواء مع الحكومة السورية أو لمصلحة «المعارضة». وقد جاهدت القيادات الفلسطينية البقاء على الحياد أثناء الأزمة. فأكبر التظاهرات التي حصلت ضدّ الحكومة السورية لم تسجّل وجود أكثر من بضع مئات من الناس، وغالباً ما يكون المتظاهرون مواطنين سوريين انتقلوا إلى تلك المخيمات.
في الحقيقة، إن أبرز التظاهرات الفلسطينية التي حصلت خلال الأزمة، كانت في مخيم اليرموك في حزيران 2011، بعد مقتل عددٍ من الفلسطينيين وجرحهم بوساطة قوات الأمن «الإسرائيلية» في مرتفعات الجولان الحدودية خلال الاحتجاجات التي قاموا بها في ذكرى «يوم النكسة». كان يوماً مريراً في اليرموك. فالاحتجاجات بلغت أوجّها، وحدثت اشتباكات خلال المواكب الجنائزية، إذ اجتمعت الحشود الكبيرة والغاضبة على موت المواطنين ظلماً وتعسفاً. لامت وسائل الإعلام الأجنبية الحكومة السورية مدّعية أنها من حضّت الفلسطينيين وشجّعتهم للمشاركة في «يوم النكسة»، غير أنهم تجاوزوا حقيقة واحدة: أن الحكومة السورية كما نظيرتها اللبنانية ألغت السماح بالخروج في تظاهرات بسبب القتلى والجرحى الذين أردتهم «إسرائيل» خلال الشهر الذي سبق إحياء «يوم النكبة» على الحدود بين البلدين.
صبّ المتظاهرون الفلسطينيون في اليرموك جام غضبهم على قياداتهم السياسية المسؤولة خلال تشييع القتلى باعتبار أن هؤلاء القادة شجعوا ولم يعملوا على إيقاف أحداث «يوم النكسة». وبعد ذلك، تتباعد أحداث القصة. فالبعض يتهمون الحكومة السورية بإطلاق النار على الجموع المحتجة على الحدود، لكن الحقيقة أن ثلاثة أعضاء من الجبهة قُتلوا في ذلك اليوم وأُحرِقت مكاتبهم.
لكن ما حدث أن أحد قياديّي «حماس» ممن قابلتهم أخبرني سيناريو آخر غير متوقع من القصة. إذ يقول: «ذهب بعض مقاتلي الجيش السوري الحرّ إلى مكتب أحمد جبريل في مجمّع الخالصة إبان الجنازة وبدأ بالصراخ».
فهو لا يعفي جبهة التحرير الفلسطينية من دورها في الأزمة السورية. ويلوم جماعة جبريل لعدم التزامها الحيادية المتفق عليها بين الفلسطينيين منذ البداية. فالجبهة هي التي تشرف على مداخل المخيمات الفلسطينية لحمايتها من تسلّل المسلحين «المتمرّدين». ويصرّ منتقدو هذا النوع من النشاط أن هذا من شأنه تأجيج النزاع بين الفصائل واجتذاب المقاتلين إلى المخيمات.
وفي نهاية المطاف، فإن «حماس» كانت الفصيل الوحيد الذي لم يوافق على التوقيع على إعلان الحيادية في حين وقّعت عليها كافة الفصائل الأخرى.
إجماع
ما من شك في أن قرار تحييد المخيمات عن النزاع السوري، أثار غضب بعض الجماعات الأخرى. ويبدو اليوم أن معظم القادة الفلسطينيين يلتفون حول «نموذج» جبريل في مسألة الصراع في سورية.
ثمّة إجماع كامل على مستوى الفصائل، وحتى بين اللاجئين الفلسطينيين الذين تحدثتُ إليهم، على حقيقة أن المسلّحين قد أخلّوا بوعودهم بإبقاء الفلسطينيين خارج إطار الصراع.
ويقول مسؤول بارز وعضو المكتب السياسي في الجبهة الشعبية ـ جورج حبش وهي مجموعة مختلفة عن الجبهة الشعبية القيادة العامة ، أنه كانت هناك محاولات من جميع الأطراف الفلسطينية للمساعدة على إحلال السلام في اليرموك. «توصلنا إلى اتفاقيات، غير أن المسلّحين لديهم مشكلة في التنفيذ. والاتفاقية قضت بأن يترك المتمردون المخيم ويعود إليه سكانه الفلسطينيين. فالحكومة السورية تتعاون معنا وتضمن إيواء اللاجئين وإطعامهم داخل المخيم. لكن، وعند لحظة التنفيذ، خرق المسلّحون الاتفاقية». حتى أن السفير الفلسطيني في سورية أنور عبد الهادي، والذي غالباً ما يرفع تقاريره إلى السلطة الفلسطينية، أصبح يتناغم في تصريحاته مع تلك التي تصدر عن الجبهة الشعبية ـ القيادة العامة.
«طلبنا منهم أن يتركوا الفلسطينيين وشأنهم فكان ردّ المسلّحين أن هذه أرضاً سورية ورفضوا. حصلنا على وعد من الحكومة السورية بعدم دخول الجيش السوري إلى المخيم، وهذ ما حصل. ولا نزال إلى الآن نسأل المتمرّدين الخروج من المخيم، لكننا لم ننجح بسبب جبهة النصرة، والجبهة الإسلامية وحماس».
قاطعته وأنا أسأل باستغراب: «حماس؟»، أجاب: «نعم، حماس، حماس، حماس، حماس».
قد يكون ما يقومون به خدمةً لمصالحهم الذاتية. فحركة فتح التي تهمين على السلطة الفلسطينية تحاول منذ سنوات تقويض هذه الحركة.
ويتابع عبد الهادي: «لا يزال المتمرّدون يمنعون وصول المساعدات الغذائية إلى السكان، ويستخدمون هذا كوسيلة للضغط على الحكومة السورية… فقد حاولت كلّ الفصائل الفلسطينية في الأشهر الأولى من السنة إرسال 12.000 صندوق غذائيّ وإجلاء 4.000 فلسطينيّ. ويستمرّ المسلّحون في القتال لمحاولة منع إتمام هذه العملية.
ويشرح عبد الهادي الأسباب السياسية الكامنة وراء تصرّفات كهذه: «فقد قتل المسلّحون بعض ضباط جيش التحرير الفلسطيني، لتخويف الفلسطينيين وإجبارهم على الوقوف إلى جانب الثورة السورية، وإلقاء اللوم على الجيش السوري في كلّ ما يحدث. الهدف الأساس من هذه الأزمة هي القضية الفلسطينية. فهم اعتقدوا أنهم باحتلالهم المخيمات الفلسطينية في سورية والعمل على تقسيمها، ستُنسى فلسطين». ويعترف عبد الهادي بأن فتح كانت ضدّ الحكومة السورية قبل الأزمة، لكن يبدو أنّ هناك تفاهماً حالياً بين سورية وإيران والسلطة الفلسطينية.
كذلك، فإن مدير الإعلام في الجبهة الشعبية القيادة العامة، أنور رجا، لديه الكثير ليقوله عن ردود فعل الفصائل الفلسطينية الأخرى في بداية الأزمة السورية. فهو يؤكد «أننا حذّرنا جميع الفلسطينيين عامَيْ 2011 و2012 من المسلّحين القادمين لاحتلال اليرموك، وازدادت وتيرة هذه التحذيرات عندما بدأ هؤلاء المقاتلين باحتلال أحياء في المناطق المحيطة بالتضامن، حجر الأسود، ويلدة. وشدّدنا على ضرورة تسليح المجموعات الفلسطينية لمواجهة المتمرّدين، لكننا لم نلقَ آذاناً صاغية».
ثم يشرح لنا أسباب تكتل الفصائل الفلسطينية الآن حول بعضها: «التطوّرات الحاصلة أصبحت جليّة الآن بالنسبة إلى الفلسطينيين والسوريين على حدّ سواء. فقد اكتشف الناس أن ما يحصل مخطّط أجنبي يهدف إلى تدمير الدولة وتقسيم المجتمع. لقد تفتحت أدمغتنا الآن وعملنا على تطوير أفكارنا، حتى أولئك البسطاء من عامة الشعب غيّروا مفاهيمهم الآن. فلم يكن باستطاعتهم قراءة ما يُكتب بين السطور في البداية. تأكدوا أنه ما من منافع تُكتسب من هذا الصراع، بعد أن خسروا كلّ شيء».
إصرار على عدم التورّط
عندما دقّ ناقوس «الربيع العربي» مهدّداً بالإطاحة بالحكومات الاستبدادية عام 2011، دعم اللاجئون الفلسطينيون كغيرهم من السوريين هذه الحركات الاحتجاجية، بحجة التطلّع إلى مستقبل أفضل.
لا شكّ في أن عدداً منهم كان داعماً طموحات «المعارضة السورية»، التي تتواءم ـ في نهاية المطاف ـ مع طموحات الشعب الفلسطيني بالحرّية والسيادة والحكم الرشيد.
لكنني لمستُ تصلّباً ملحوظاً في معنويات الفلسطينيين الذين عاينتهم في رحلتيّ إلى هناك، عامَيْ 2012 و2014. فهؤلاء الذين تهجّروا من أماكن إقامتهم لمرّات عدّة، غسلوا أيديهم ـ بحقّ ـ من كلّ ما يمتّ إلى «الثورة السورية» بِصلة. بعد أن تعرّضوا للاستغلال والتخويف من قبل عددٍ من المجموعات، غير أن تجربتهم مع المسلّحين «المعارضين» كانت الأسوأ من دون أدنى شكّ.
الحيادية شعارهم الجديد اليوم. فهم يسعون إلى الأمن والسلام أسوة بكثيرين غيرهم من أفراد الشعب السوري في كلّ مكان.