شيكات أميركية لاستحقاقات انتخابيّة من دون رصيد
د. رائد المصري
بهدوء… وكما أفادنا السفير والدبلوماسي الروسي المخضرم في لبنان ألكسندر زاسيبكين بأنَّ الجوَّ السياسي العام الذي يحكُم القيادة في موسكو ومعها الرئيس فلاديمير بوتين يُشكِّل عامل اطمئنان وارتياح كبيرين بالنسبة لمواقف القيادة السياسية في لبنان بكلِّ تلاوينها، لناحية الجنوح نحو اتخاذ قرارات جريئة واستقلالية بعيدة نسبياً عن التأثير الخارجي وخصوصاً الأميركي. وهذا الكلام كان سابقاً لوصول وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو الى بيروت بعد جولته الشرق أوسطية و»إسرائيل»، خاصة أنَّ هذا الحلف الأميركي الصهيوني المتمثِّل بثنائية ترامب نتنياهو يُعْتَبر حلفاً مصيرياً من وُجهة نظر بعض المراهنين عليه، لكونه يُحقِّق ما تصبُو إليه الولايات المتحدة في بناء شرق أوسط جديد تحت مسمَّى صفقة القرن، والذي بدأه ترامب بإعلان القدس عاصمة للكيان الصهيوني. وها هو اليوم يُعلن ضمَّ الجولان السوري إلى أرض «إسرائيل»، وربما غداً غزة وبعدها الضفَّة الغربية ليصل الى تفتيت الدول العربية تحقيقاً لحلُم إسرائيل الكبرى، حيث تجسَّدت مواقف الأكراد مؤخَّراً في شمال وشرق سورية تناغماً مع الموقف الأميركي الإسرائيلي بإقامة إدارة ذاتية واقتطاعها عن جغرافية الدولة السورية في هذا الإطار، لا سيَّما أنَّهم يروِّجون في أدبياتهم على أعتبار أنفسهم المضحِّين والمخلِّصين شعوب المنطقة من سطوة داعش والتنظيمات الإرهابية ولهُم الفضل في ذلك ويستحقُّون دولة صرفة كمكافأة على تضحياتهم مع الأميركي والتحالف الدولي.. فهل هذا المرْكَب الإسرائيلي يسير وفق ما رُسِم له؟ وما هي حقيقة الموقف العربي؟ وهل بيانات التنديد والشَّجْب والاستنكار على المنوال نفسه ستكون الطريقة المعتمدة كذلك؟؟ أم أنَّه ستكون هناك مواقف ومعها الانتقال لحمل مشروع سياسي موحَّد لمواجهة هذه السيناريوات الظلامية لقوى الغرب والكفِّ عن الوقوف متلقِّين ومواجهين لضربات الأميركي والإسرائيلي ومشاريعهما التفتيتية والتقسيمية؟
يُمكن لنا أنْ نبدأ من لبنان الذي أُفْرِغت فيه زيارة وزير الخارجية الأميركية مايك بومبيو من مضامينها وتمَّ معها تثبيت الموقف الرَّسمي الموحَّد لكافة القوى السياسية بالشكل العام. وهذا حرص كبير ورُبَّما تجربة لما سيتعرَّض له لبنان من ضغوط مالية واقتصادية لحصار المقاومة وبثِّ الفتن وزعزعة الاستقرار السياسي ثم الأمني، وهو غير متاح اليوم كما تنظر وتراهن وتعمل عليها السياسة الروسية ودبلوماسيتها النَّشِطة في المنطقة، بحسب رأي ومعلومات السفير زاسيبكين.
هذا الخوف الأميركي الإسرائيلي من التطورات الجارية في المنطقة وإعادة التشبيك الاقتصادي بين سورية والعراق وإيران في منطقة متناغمة خالصة، هي وقائع يقرأها ترامب المأزوم سياسياً في الداخل الأميركي والمتخوِّف من تقارير المحقِّق مولر في ارتكاباته عمليات مالية مشبوهة وبطريقة وصوله البيت الأبيض والتدخُّلات الروسية ومحاولاته الفوز بولاية رئاسية ثانية، وكذلك نتنياهو وهو على أبواب استحقاق انتخابي في نيسان المقبل والمتورِّط أيضاً بقضايا الفساد والسمسرات تعكس هَلَعَ الرجلين بإعطاء بعضهما البعض الآخر خدمات ومواقف سياسية وضمّ أراضٍ عربية وتهويد المقدَّسات الإسلامية والمسيحية كعوامل انتصارات تبدو الى اليوم وهميّة ومن دون رصيد ولا تُصرَف على الأرض، حيث تجميد التسوية بل خربطتها في سورية والإعلان عن ضمِّ الجولان وصفقة القرن والقدس وتصفية القضية الفلسطينية كعناوين جذابة للناخِب الصهيوني المتطرِّف داخل «إسرائيل» وتسليفة للُّوبيات الصهيونية في الداخل الأميركي لمساعدة ترامب انتخابياً ومنع حبْل التحقيقات والاتهامات من أن يلتفَّ حول عنقه، فكِلاَ الرجلين أيْ نتنياهو وترامب بعيدين كثيراً عن مؤسسات الدولة الأميركية العميقة وخطوط استراتيجياتها، ويتصرَّفان بالكثير من الخِفَّة والهشاشة مع موضوعات حسَّاسة وخطيرة كتقسيم جديد للمنطقة والإِضْرار في الأرض والمقدَّسات الفلسطينية وتصفية القضية، حتى أصبحنا أمام جيل أوسلو الجديد الذي كَفَر ونَبَذَ بكلِّ التسويات والمفاوضات وبكلِّ الوجود الصهيوني والغربي الأميركي على الأرض العربية..
إنَّه سياقُ المواجهات الذي يتطلَّب منَّا الشروع بطرح فكر اقتصادي واستراتيجي لمواجهة الفكر الغربي الاستعماري طالما عملياً قد انتهت مشاريع الاستثمار بالإرهاب التكفيري كمشاريع بديلة أرادها الأميركي والصهيوني، وطالما أنَّ بعض الرجعيّات العربية من الدول الوظيفية تكبَّلَت أياديها وانكشفت سياساتها المشبوهة بالتسليم للإسرائيلي وللأميركي لكلِّ مقدَّرات الأمة ومقدَّساتها وثرواتها ونفطها وغازها، وطالما أحلام التقسيم والتفتيت لكيانات النُّظم العربية الحالية صارت بعيدة عن المتناول إلاَّ من بعض مِمَّنْ لا يزال يُراهِن على الغرب الاستعماري، كالكرد مثلاً في سورية، فلا يجوز أنْ يبقَى محور المقاومة متلقِّياً ومتصدِّياً لمشاريع الهيمنة والتقسيم الغربية والصهيونية، بل عليه أنْ ينقل المعركة الى الداخل ويطرح مشاريعه التقدمية الموحَّدة وعبر التقدم سريعاً بإعادة الثِّقة في ما بين دوله لبناء توحد إقليميٍّ اقتصاديٍّ ومالي وتبادليٍّ يُبْعِدُ التأثيرَ الأميركي وعقوباته ويَعزِل الإسرائيلي ويُفرِّغ مشروعه من مضمونه، وبالتالي تصبح دولنا بتوحُّدها مطلباً للآخرين على غرار ما تطلبه السعودية من العراق في إعادة رسْم وربْطِ ما انقطع من خيوط العلاقة… إنَّها المبادرة والشروع بطرح المشروع العَلَني مع الحلفاء فلا خوف بعدها من الأميركي، لرُبَّما تجربة لبنان تكون الفاتحة في هذا الإطار كما كانت المقاومة هي الفاتحة في تعميمها كمشروع رافض للهيمنة والذلِّ المفروضين على شعوبنا.
أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية