«غاسل صحون يقرأ شوبنهاور» عمل روائيّ متميّز، وقلم أدبيّ متفرّد

د. لؤي زيتوني

رواية جديدة صدرت عن دار الآداب، للكاتب الفلسطينيّ الشّابّ، ابن رام الله، محمّد جبعيتي مغطّيةً نطاق الضّفّة الغربيّة بوصفه حيّزاً للأحداث وقد حملت عنوان «غاسل صحون يقرأ شوبنهاور». وهي روايةٌ تتراوح بين الواقعيّة والهذيانيّة، تنظر إلى الواقع من عين الذّات وتصوّراتها الخاصّة، غير أنّها لا تقع ضمن تصنيف الرّوايات الفلسطينيّة التي تكرّر الغوص في مواقف مقيّدة بوضع الاحتلال والتظلّم والأسى المعاش، بل تشكّل أنموذجاً من النّماذج التّجديديّة الخارجة على مألوف الرّواية الفلسطينيّة وتكراره، وبالتّالي على نهجٍ وُسِمَت به، لينهج الكاتب مساره الخاصّ في السّرد الرّوائيّ.

من هذا المنطلق يمكن الشّروع في رصد مفاصل الرّواية ومحاولة تحليلها، ولعلّ العنوان يشي ببعض هذه المفاصل. فالعبارة التي تكوّنه قائمة على محوريّة ذاتيّة لشخصيّة «غاسل الصّحون»، بما يعنيه ذلك من ممارسة عمل قد يُصنَّف بأنّه «وضيع» من حيث شكله ومردوده. بينما تُستكمَل العبارة بفعل القراءة التي يمكن أن تشمل مجرّد المطالعة السّطحيّة، كما يمكن أن تفيد الغوص في عمق النّصوص ومعرفة كنهها، وحتّى التّحليل. أمّا الجزء الأخير منه، فيتجلّى في اسم الفيلسوف شوبنهاور، المعروف بسوداويّته المطلقة. وهنا يبرز التّعارض بين طرفي العبارة: قراءة شوبنهاور في مقابل غسل الصّحون، ما يعني حضور تناقض حادّ بين رفعة القراءة ووضاعة هذا العمل.

من هذا الباب، يمكن أن نرى تمرّد الرّواية في كون العنوان لا يلخّص بقدر ما يفسح مجالاتٍ للتّساؤل والتّفكّر معاً ولعلّ هذا ما ينسحب على الإطار الرّوائيّ كذلك عموماً. فالتّمرّد لا يبقى عند هذا الحدّ، بل يتعدّاه إلى تقنيات الرّواية إذ إنّ بنية الرّواية تستقيم في مرحلتين: أولى تتّسم بالتّشظّي والتّشتّت على نطاق واسع، حيث نرى كثافة في الشّخصيّات والأحداث المتسارعة التي تجعل القارئ يغوص في زواياها على تنوّعها، ما يعني منحًى تفكيكيّاً يوقع القارئ في ضياع، خصوصاً عبر ربط نظر الرّاوي بعمليّة الاتّصال بنبض الشّارع وحكاياته. أمّا المرحلة الثّانية، فتدخل في إطارٍ أكثر وضوحاً وثباتاً عبر هرب الرّاوي – البطل مع حبيبته، ما يوحي بدخول نفقٍ من التّوتّر والخوف مداه 40 يوماً ينتهي بمنفذٍ إلى الضّوء.

هذا الانقسام يحيلنا إلى دمج الرّواية لمذهبين روائيين: الأوّل تجلّى في المرحلة الأولى، يفيد من المدارس ما بعد الحداثيّة في الكتابة من حيث التّفكيك والتّشتيت، يبرز فيها نظرته النّقديّة تجاه كلّ ما يحيط به: السّلطة والمعارضة، الدين والمتديّنون، الانتهازيون المنتفعون على حساب الشّعب، وحال هذا الشّعب في ظل الوضع الاقتصادي والاجتماعي المغرق في عوزه بينما نجد الثّاني في المرحلة الثّانية يُعيدنا إلى الكتابات الواقعيّة في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، والقائمة على خط روائيّ واضح ومتسلسل ويسير التّعقيد، يبدي فيه تماسه المباشر مع حال التّوتّر التي توجّه مسيرته وتفكيره ومصيره.

من ناحيةٍ أخرى، يمكننا أن نجد حضوراً غنيّاً للجانب النّفسيّ الذي تمكّن من التّحكّم بالكثير من مفاصل الرّواية، وهذا ما يمكن أن نجده في الحضور الفاعل للحلم الذي بلور حضور الشّخصيّة المحوريّة ونظرتها العلنيّة والباطنيّة لما يدور حوله.

ومن ذلك حلم نوح بأنه قتل الجنود اليهود دون تذكّره للحادثة في الواقع، وآثار الدّماء على ثيابه وفي يده، ما أكّد تهمة فعلته المقاومة. على أنّ هذا أدّى إلى إحداث صراعٍ داخليّ في ذات الكاتب حول حقيقة ارتكابه هذا الفعل، وقد انعكس ذلك تساؤلاً حيويّاً مفتوحاً أُثير في القارئ مستهدفاً إعادة الاعتبار لخيار المقاومة من جهة، ولإظهار الصّراع النفسيّ الذي يعاني منه «الضّفّويّ» بين كونه مقاوماً أو مهادناً…

على أنّ إعادة الاعتبار تلك تتبلور بشكلٍ أوضح عندما نرى أنّ العمل المقاوم كان في النّهاية سبيلاً لخلاص البطل من الموت المحقق بسبب العادات القبليّة، وذلك نظراً إلى أنّ جدّه المقاوم كان قد آوى عمّ حبيبته، وهو ما تشفّع له.

نجد كذلك الحلم الآخر المتعلّق بمحادثة البومة وكشف أسرار خفية عنها تقع خارج عالم البشر، إذ أظهرت الحرب بين الغربان والبوم، وهي حرب مثّل فيها العنصر الأوّل الغربان جانب الشّرّ والعدوان، في إيحاءٍ إلى كلّ قوّة شكّلت عاملاً سوداويّاً في حياة بطل الرّواية من احتلال وسلطة ومعارضة دينيّة وقيّمين على الدّين وانتهازيّين… بينما كان العنصر الثّاني البوم ممثّلاً للخير مع كونه مظلوماً بالنّظرة إليه وبهذه الحرب. وقد اعتمد الكاتب في ذلك على لعبة اللون أسود/أبيض ليوضح هذا الصّراع، فكانت الغربان إشارةً إلى الواقع الشّوبنهاوريّ في حين كانت الغربان هي الأمل، خصوصاً من خلال إقامة مشابهة مشروعة بينها وبين الشّعب الفلسطينيّ الذي طاله الظّلم أيضاً، مع أنّه يشكّل الأمل في الخلاص.

وتأتي النّهاية عبر مقارنتها بالإهداء الذي افتتح به الكاتب الرّواية، لتبيّن التّحوّل الذي أصاب البطل نوح. فهو ينبّه إلى عدم الانجرار وراء المظاهر، ويحذّر من التّعاطف حتى مع البطل، وهو الأمر الذي نفهمه في النهاية التي تعاكس السوداويّة الشّوبنهاورية والتي حقّقت مقولة الإهداء.

ينتج عن هذا السّياق بروز ثلاثة أوجه لشخصيّة البطل: نوح الاسم الأصليّ الذي أطلق عليه بالولادة، وهو يوحي بمرجعيّةٍ دينيّةٍ واضحة له، إلاّ أنّ إقرانه بالسّياق العامّ للرّواية أظهر رمزيةً مقاوِمةً في مواجهة طوفان التّهديدات والأزمات. الوجه الآخر تمثّل باسم «كافكا» الذي فضّله على الأوّل، بما يعنيه ذلك من اتّجاهٍ نحو الوجوديّة العبثيّة التي اختارها لحياته ومسيرته، أو الكاليجوليّة من حيث الغوص في مصيرها الذي ظنّه محتوماً، وقد خالفتها النّهاية كما رأينا. أمّا الوجه الثّالث فنجده في شوبنهاور من خلال سوداويّة الرّؤية والأحداث معاً في معظم الرّواية، والتي ناقضها في الختام.

يبقى أن نشير إلى أنّ الرّواية تعدّ عملاً جديداً من حيث التقنية التي اتّبعتها، وعبر توظيف أسلوب التّداعي الحرّ في النّص الأوّل من الرّواية بشكلٍ ناجح، خصوصاً عبر سرد الحكايات التي التقطها من محيطه على نحو نقديّ. هذا فضلاً عن عامل التّرميز العالي الذي اختلط بالواقعيّة في السّرد ما أعطى إطاراً أكثر تشويقاً، وعمّق من الحضور النّقديّ الرّاديكاليّ داخل العمل دون أن ننسى عامل الجذب المتمثّل في تشويق عالٍ وفي مساراتٍ مفتوحةٍ على تأويلات لا نهائيّة. وانطلاقاً من ذلك، يمكن القول بكلّ صدق، رواية «غاسل الصّحون يقرأ شوبنهاور» رواية ذات مستوى عالٍ، وتعدّ عملاً أدبيّاً متميّزاً وبذلك نستطيع أن نصرّح بأنّ «محمّد جبعيتي» روائي رائد وواعد، يستحقّ كلّ تقدير، كما يستحق كلّ قراءةٍ واعيةٍ وثاقبة.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى