زينب صالح في «لقاء المنعطف الأخير»: أنسَنة مجتمع المقاومة!
مهدي زلزلي
«أنسَنة مجتمع المقاومة»، لعلَّ هذه العبارة هي أكثر ما يصلح لاختصار ما صنعته زينب صالح في روايتها «لقاء المنعطف الأخير» الصَّادرة عن «بيسان للنشر والتوزيع والإعلام».
ولا يعني إطلاق هذا الوصف أنَّ الكاتبة خلعت على هذا المجتمع ما ليس فيه أو استحضَرت له سِمات من خارجه، إنما القصد منه هو القول إنَّها أعادت إلى أناسه حقَّهم في أن يكونوا بشراً من لحم ودم بعد نزوع معظم ما كُتِبَ من أدبٍ مقاوِم في السنوات الأخيرة إلى جعل المثاليَّة المفرطة شرنقة أبديَّة تكبّل الشخصيَّات، بدافعٍ من قدسيَّة المقاومة كفكرة أوَّلاً، ومن فهم خاطئ للمعايير الأخلاقيَّة التي تحكم سلوكيَّات المنتمين إلى هذه المقاومة والدائرين في فلكها بوصفها «إسلاميَّة» في العقود الأخيرة. وهو ما يفسّر الهوَّة الواسعة بين الأدب «الملتزم» أو المقاوِم في لبنان ونظيره في الجمهورية الإسلاميَّة في إيران مثلاً – من حيث السويَّة الفنيَّة – رغم الجذور العقائديَّة المشتركة.
وهذه «الواقعيّة» في التناول من شأنها أن تدفعنا نحو تقديرٍ أعلى لهؤلاء الأفراد «العاديين» الذين تمكّنوا بفضل إيمانهم وصبرهم وإخلاصهم فقط من صنع المعجزة تلو الأخرى، وقدَّموا نموذجاً استثنائيّاً دون الاستناد إلى خصائص تكوينيَّة فريدة تميّزهم عن غيرهم.
ففي «لقاء المنعطف الأخير» والدةُ شهيد تنتزع من قلبها حبَّاً جارفاً في مطلع شبابها، التزاماً بأوامر العائلة التي قرَّرت تزويجها لابن عمّها، إخلاصاً منها لمن صار زوجها، ولكنَّها لا تستطيع رغم ذلك أن تحبّ الزوج طوال هذه السنوات لأنَّه ببساطة لا يمتلك مواصفات الحبيب، وتقرّر بحزم أنَّها لن تسمح لابنتها بتكرار التجربة ذاتها. وفي الرواية والد شهيد يعيّر زوجته في ثورة غضب أنَّها «لم تُحسن التربية»، ويهدّد ابنته أكثر من مرَّة بالصَّفع على وجهها إذا لم تتماسك إزاء فجيعتها بفقدان شقيقها، ويرفض بصلف زواج هذه الإبنة من رفيق ابنه في النضال رغم إقراره برضاه عن «دينه وخلقه» لمجرد أنَّ والده عميل سابق للعدوّ، وفي الرواية شقيقة شهيد تغرق دون أن تشعر بالاعتزاز المفرط بما منحتها إيَّاه شهادة شقيقها من جاه وشهرة واهتمام اجتماعيّ إلى درجة تدفعها إلى التضحية بمشاعرها الصادقة في سبيل الحفاظ على ذلك كله.
وتدور أحداث الرواية حول «سارة» الفتاة الجنوبيَّة التي تنتمي إلى عائلة مقاوِمة، وتعيش صراعاً محموماً بين عقلها وقلبها على خلفيَّة حكاية حبّ تربطها بطارق زميلها في الجامعة الذي تكتشف متأخرةً أنَّه ابنٌ لأحد عملاء العدو «الإسرائيلي».
ويؤخذ على الكاتبة إسهابها الذي يبدو في مواضع كثيرة متعمّداً، كما لو كان ناتجاً عن الإيمان بقناعة قائمة على الربط بين حجم الرواية وجودتها واستحقاقها الإسم، في زمن تطلّ فيه «النوفيلا» أو الرواية القصيرة برأسها، وتعود فيه القصَّة القصيرة تدريجيَّاً إلى سابق عهدها، فما قالته الرواية في 535 صفحة من القطع المتوسط كان يمكن أن يتسع له نصف هذا العدد من الصفحات.
وقد يتأخَّر القارئ قليلاً في اكتشاف إعجابه بالرواية بسبب غلبة اللغة الشعريَّة على فصولها الأولى، وهو ما يعتبره الناقد د. عبد المجيد زراقط في مقدّمته عنصراً من عناصر قوَّة الرواية. ولكن، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار ما تقتضيه كلمات تقديم التجارب الأولى من دعم، وتشجيع، وتجاوز للسلبيَّات، والتركيز حصراً على كلّ ما هو إيجابي، لأمكننا الركون إلى وصف مغاير لهذا التسرّب الشعري إلى السَّرد، يعبّر عنه الروائي الجزائري محمد جعفر بتشبيهه الشعريَّة «البغيضة» التي تقوم على تجييش المشاعر واستفزازها عبر مجازات مفضوحة بجلسة تعذيب متقنة.
واللغة الشعريَّة في الرواية تتجاوز حالات «توهّج الموقف»، لتغطي مساحة كبرى من الحوارات التي تحتلّ بدورها قسماً لا يستهان به من الرواية ، ويعيق هذا الإفراط في إقحام الفصاحة المفتعلة والمكتظة بالصور البيانيَّة في الحوار، والذي لا يقتصر على شخصيَّة دون أخرى بل يسري على جميع الشخصيَّات بمختلف مستوياتها الفكريَّة، قدرة القارئ على تخيّل هذه الحوارات وإعادتها في ذهنه إلى أصلها العفويّ باللهجة المحكيَّة، وتالياً الاقتناع بها، ومن شأنه أن يطيح بالبناء الروائي البديع الذي جهدت الكاتبة في تمتين دعائمه عبر حبكة شائقة. فهل يمكن للقارئ الاندماج في حوار بين حبيبَين يفترض أنَّه حقيقيّ ترِدُ فيه عبارة «هل أنا مجرّد طائر يحطّ على أغصانك أم أنّي ربيعٌ ستسكن فيه أيَّامك»؟
وتعتمد الكاتبة في السَّرد خليطاً غير متجانس من تقنيَّتَي «الراوي العليم» و»الراوي المشارك» الذي تمثله سارة نفسها! وهي قد حاولت أن تتلافى ذلك عبر جعل الفصول القليلة التي تغيب سارة عن المشاركة في أحداثها مقتصَرة على الحوار دون أيّ تدخل سرديً، إلا أنها نسيت الأمر تماماً ربَّما – في مواضع معيَّنة، فسمحت لسارة التي تمثل ضلعاً من أضلاع هذا العالم الروائي بمعرفة ما يجري في غيابها وسرده للآخرين!
ويمكن – مع الإقرار باستناد الكاتبة إلى مخيّلة شديدة الخصوبة في بناء عالمها الروائي والحبكة التي تربط بين أفراده – التماس الكثير من نقاط الالتقاء بين كلّ من «الروائيَّة « و»الراوية» بما يجعل من الثانية «أنا ثانية» للأولى، فَقرية «سارة» الحدوديَّة التي دُمِّرَت بالكامل في عدوان تمّوز وأعيدَ إعمارها سريعاً أفضل مما كانت، ليست سوى «عيتا الشعب» التي تعلن الكاتبة في الصفحة الأولى انتماءها إليها، وصديقات سارة في كليَّة العلوم لسنَ سوى «زهرات كليَّة العلوم اللواتي رصَّعن أجمل سنوات عمري» كما يأتي في الإهداء الذي خطّته زينب، وهذا ينطوي على نقطة إيجابيَّة تحسَب للكاتبة إذ لا معيار يمكن من خلاله اعتبار العمل الروائيّ ناجحاً أكثر من قدرة صاحبه على المزج بين الواقع والمتخيَّل بشكل يجعل التفريق بينهما بعد ذلك مستحيلاً بالنسبة إلى القارئ.
ندوة لمناقشة رواية «لقاء المنعطف الأخير» للكاتبة زينب صالح، بدعوة من الحركة الثقافيَّة في لبنان، الساعة 5,00 من عصر يوم السبت 6 نيسان 2019 في مركز باسل الأسد الثقافي في صور، تتخللها كلمة للكاتبة وقراءة نقدية للكاتبة الدكتورة نورا مرعي ومداخلات للحاضرين، وتديرها الشاعرة مريم عصمان.