زها حديد في ذكراها الثالثة.. «سيمفونية» العمارة التفكيكيّة!
نظام مارديني
حلّت علينا في 31 آذار، الذكرى الثالثة لوفاة المهندسة المعمارية زها حديد، وهي التي نقشت اسمها بأحرف من نور ورسمت أعمالها في أبعادها الأربعة.. لتؤرخ بذلك طريقة جديدة في فن العمارة، من الممكن تسميته بـ «العمارة الفيزيائية» التي تجمع بين الجمال والسحر والفن، وهو ما يمكن مشاهدته في ساحات الأمم «المزروعة» بلوحاتها المعماريّة الجميلة والمعبرة، التي تؤكد أنّ فنون ما بين النهرين مازالت تتسيّد الساحة العالمية.
وتعتبر زها حديد من الرائدات في مجال العمارة وهي أول امرأة تحصل على جائزة بريتزكر للهندسة المعمارية عام 2004 الجائزة الأكبر والأهم في مجال العمارة في العالم التي تعادل في قيمتها جائزة نوبل، كما كانت أول امرأة تحصل على الميدالية الذهبية الملكية من المعهد الملكي للمهندسين المعماريين البريطانيين.
لعلها كانت، تستذكر وهي على فراش الموت، تمثال كهرمانة في قلب بغداد، الذي تعدّه الرمز الأجمل لمدينتها الأولى، واختارته كأفضل عمل فني في دلالته عن بغداد، حيث يرمز إلى العصر الذهبي لمدينة السلام وقصص ألف ليلة وليلة المرتبطة بالمخيال الجمعي العالمي عن بغداد الإرث والأثر، والذي ظل مرآة في مخيلتها، بعد أن حزم والدها محمد حديد وزير المالية الأول في العهد الجمهوري حقائبه راحلاً إلى بيروت لتدرس زها الرياضيات. لكنها غادرت من غير رجعة. وظلت تحلم وهي على آخر وسادة لها أن يكون لها عمل لوطنها الأم، ولكن ما جدوى الأمنيات أن تأتي متأخرة؟ على حدّ قول ماركيز، فقد رحلت، وعينُها على بغداد، تنزف كما نزفت رئتاها، وماتت، وهي تُنعى من مئات المشاريع والمواقع الـ950 الموزعة على 44 دولة في العالم.
صحيح أن زها حديد ظلت مخلصة للمدرسة التفكيكية كأسلوب في فن العمارة، التي تهتم بالنمط والأسلوب الحديث، إلا أنها طوّعت الحديد في مشاريعها موظفة قوته وصلادته في ارتكاز مبانيها، وقد عدت من العباقرة النوادر في مجال الأبعاد في الفضاءات وتناغم الضوء مع أحجام الكتل الكونكريتية واستغلال الأرض لأكبر قدر ممكن للمنشأ المراد تكوينه.
وقد وُصفت أعمالها بأنها سمفونية من الخيال وهي التي تمكنت من تحويل الأشياء الصلبة إلى مرأى تتوق النفس إلى رؤياه بل بثت فيه الحياة، كما في جسر الشيخ زايد بأبوظبي، المصمم على شكل موجة تتناغم مع موجات البحر من تحته، وهو الثالث من نوعه في العالم. ويُعتبر من التحف الفنية والفريدة في الهندسة المعمارية.
تأثرت حديد تأثراً كبيراً بأعمال أوسكار نيمايير، وخاصة إحساسه بالمساحة، فضلاً عن موهبته الفذة، حيث إن أعماله كانت قد ألهمتها وشجعتها على إبداع أسلوبها الخاص، مقتدية ببحثه عن الانسيابية في كل الأشكال.
لقد شبّهها البعض بـ مايكل انجلو العصر، فهي تساهم في خلق عالم أجمل بتصاميمها للأبنية وقطع الأثاث والمنحوتات المختلفة، وقد اتسمت أعمالها بالقلق واللااستقرار والامتداد إلى الفضاءات الخارجية بشكل يعكس الخلفية المحمدية الإسلامية لنشأتها حتى أن بعض النقاد ربط بين انسيابية وتجريدية أعمالها وبين انسيابية الخط العربي وتجريدية الزخارف المحمدية.
كما ارتبطت مقاربة حديد المعمارية بالاهتمام وتأكيد خصوصية المكان، وثقافته، وروح إنسانه كمفردة أساسية في عملية الخلق التكويني المؤسسة لعمارة جديدة، كان من ضمن مقوماتها تأويل وإعادة قراءة المنجز المعماري المحلي، ذلك المنجز، الذي تشكل عبر أزمنة طويلة، وإضافات مبدعة، تعاقب معماريون وبناة مبدعون على إثرائه وديمومته. إن فعالية التأويل، التي تبنّتها تلك المقاربة الخلاقة، وإعادة القراءة للموروث المعماري التي وسمت نشاط حديد التصميمي، كانا يجريان ضمن مستلزمات وقيم عمارة الحداثة، وهي التي ما فتئت أن أصبحت عنواناً من عناوين الممارسة المعمارية الحداثوية العالمية السائدة، وإحدى مرجعياتها النظرية. ولعل هذا الأمر، هو الذي يجعل من مقاربة حديد المعمارية أن ترتقي، لتكون حدثاً مهماً، ومؤثراً، واستثنائياً بأهميته، في الخطاب المعماري «السوراقي» والعربي والإقليمي والعالمي.
قال عنها أندرياس روبي: «مشاريع زهاء حديد تشبه سفن الفضاء تسبح دون تأثير الجاذبية في فضاء مترامي الأطراف، ليس فيها جزء عالٍ ولا سفلي، ولا وجه ولا ظهر، فهي مبانٍ في حركة انسيابية في الفضاء المحيط، ومن مرحلة الفكرة الأولية لمشاريع زها حتى مرحلة التنفيذ تقترب سفينة الفضاء إلى سطح الأرض، وفي استقرارها تعتبر أكبر عملية مناورة في مجال العمارة».
هكذا هي زها حديد، المعمارية المعروفة التي باتت من رواد مدرسةٍ قائمة بذاتها، لا انتظامية، قائمة على التفكيك، وتعتبر أحد تجليات مفاهيم ما بعد الحداثة، المفاهيم القادرة، تبعاً لخصوصيتها المعوّمة، على استيلاد مقاربات جديدة ومتجددة.
زها حديد.. أي فراغ في الابتكار المعماري للدهشة والخيال والمتعة وحاجات الحياة أحدثه غيابك؟