من ثقافة الطوائف والمذاهب إلى ثقافة التلاقح الوطني
أمين الذيب
لا يُمكن للشوَاذ أن يتحوّل قاعدة فالاجتماع البشري يُجدّدُ ذاته كلما استفحل الترهّل والانحطاط وأعمَلَ في المجتمعات تفتيتاً وتمزيقاً الانبعاث كما في أسطورة طائر الفينيق هو سياق تكرر حدوثه في الأزمان التاريخية التي شهدت تقلبات شديدة الخطورة أحدثت انقلابات في الاجتماع والسياسة والاقتصاد وأيضاً في المفاهيم التي كانت ناتجاً لمنطلقات فكرية تتبدّل أولوياتها بتبدّل الرؤيا الى الحياة والكون والفن.
الذائقة الشعبية أو المزاج الشعبي لا يُمكن أن يُعبّر عن حقائقه وطموحاتهِ وإنسانيته العامّة بظل شمولية الضخ الديني الذي يتصف بالمُقدّس الذي يستحيل تجاوزه مخافة الافتراق عن الجماعة وثقل تبعات ذلك على الفرد أو الأفراد الذين يعتقدون بمخالفة السائد والراهن كما أن هذا المزاج الشعبي الراكن لمُجاراة حالة الرضوخ الكاملة الى حدِّ كبير لم يستطع أن يقاوم الدعوات الأجنبية الاستعمارية النافذة الى عقله والمُهيمنة على وجدانه مستفيدةً من خنوعه وانقياده إلى زعامات مذهبية وطائفية مستندة في زعاماتها على استغلال الدين وتحريض الناس في ما يُفترض أنهم تآلفوا عليه رافعة أي القوى الخارجية شعاراً علنياً تُمارسه جهراً وتقبله الناس طوعاً وهو فرّق تسُد وهكذا تتساقط القيم الانسانية والمُثل العليا تحت مطرقة المُقدس وسندان الاستعمار وترزح المجتمعات تحت صراعات وتناقضات وإرهاصات جمّة تحولها من قوة حيوية الى وجود راكد غير متآلف وغير قادر على الاستقرار والخلق والإبداع وتتحوّل وظيفته الحضارية الى وظيفة ذراع غاشمة عمياء صماء بكماء بيد سياسات داخلية تيوقراطية وسلطوية وبيد الخارج الاستعماري تنفذ مصالحه ورغباته ومشاريعه السياسية والاقتصادية والثقافية على حساب استقرارها وشخصيتها المجتمعية متناسية قضاياها القومية فيختلط عندها الوهم بالحقيقة فتبني مفاهيمها على قواعد مفتعلة ومُعدّة لها سابقاً.
إن استتباب هذا الواقع شكّل عائقاً أمام قدرة هذه المجتمعات على النهوض ودفعها لتكون بعيدة جداً عن حقيقة وجودها الإنساني في غياب فكر جامع مُوحِّد قادر على بث حيوية حضارية استنهاضية.
نحن ندّعي أو نزعم أو نفترض أو نؤمن أن ملتقى الأدب الوجيز هو حركة فكرية تحاول أن تبني منطلقات فكرية تجاوزية نقدية وتسعى لأن تشكل رافعة لحالة الاستكانة التي ما زالت متأثرة بماضويتها لإدراكها العميق أن أي حركة تجاوزية يجب أن لا تكون مُحايدة في مسألة الصراع الفكريّ الوجوديّ بل عليها رمي الحجر في المياه الراكدة لخلق حالة مغايرة ولشعورنا العميق أن التواصل مع الآخر والاحتكاك الفكري مع ثقافات قريبة وبعيدة وتحطيم الجدران التي أُقيمت لتفصل حضارات المنطقة عن بعضها بهدف ترويضها وجعلها رهينة الغزو الثقافي هو واجب أخلاقي يجب تعميمه كان لا بدّ من تجربة عملانية تكون المدماك الأول أو البناء الجديد الذي يسعى لابتكار مسارات تجديدية تستعيد زهرة الخلود الفكري الحضاري من فمِ أفعى النار التي أحرقتنا بلهيبها القاتل فكان حوارنا منذ سنوات عديدة مع أديبات وأدباء تونسيين يحملون الهم الثقافي ذاته ويدركون الأزمات ذاتها أكان في الشعر أو القصة أو المسرح أو السينما فشكّلنا فريق عمل تحت مفاهيم مشتركة جمعها ملتقى الأدب الوجيز اللبناني التونسي وأقمنا مؤتمرنا التأسيسي الأول في 28 29 30 آذار الماضي في العاصمة التونسية أرسى هذا الاشتراك أو التفاعل أو التلاقح حالة ثورية حوارية هامة طرحت مفاهيم الملتقى ومنطلقاته الفكرية بمنطق أكاديمي بحثي نقدي فتشابكت العقول والإرادات والحوافز التي تشكلت منها عناصر الملتقى كمحطة أولى تقود الى ما تستطيع إنتاجه لمستقبل نحلم به يُعبّر عن إرادة المؤتمرين والمتحاورين بدأ يتمدّد ويستحوذ على الانتباه كحالة جديدة تحصل للمرّة الأولى في العالم العربي بما طُرِحَ من محاور وأفكار تنظيرية وتطبيقية في كل من شعر الومضة والقصة القصيرة جداً.
ما حدث في مؤتمر الأدب الوجيز اللبناني التونسي التأسيسي في العاصمة التونسية سيطرح عاجلاً أم آجلاً جملة من الأسئلة طالما أُهْمِلت الإجابة عليها منذ زمنٍ طويل ونحن نُدرك أن التجديد في بلادنا ليس مسألة سهلة إطلاقاً ليس بسبب صعوبة فهم التكثيف بقدر ما هو اصطدام بشخصيات شعرية وأدبية بنت حضورها وشخصيتها على نسق ماضوي بات مألوفاً من الباثّ والمتلقي في آن كلاهما ينظر الى الأدب الوجيز على انه سينسف هذا الاستقرار الوجودي الذي اعتادا عليه وتآلفا معه الى أبد الآبدين غير مُكترثين لمسار التقدم الإنساني والابتكارات المتسارعة في العلم والتكنولوجيا والاستنباط والفكر الذي أزاح الوهم القابض على الإخلاص للماضي لكونه ستاراً يقيهم ضرورة العمل الفكري الاستنباطي والبقاء فيما يعتقدونه سدرة المنتهى والبداية والنهاية. فكل ما يرمز أو يدلّ أو يشير الى المستقبل، كأنما هو موجّه ضد كنوزهم الأثيرية المحاطة بأسوار يقينية المساس بها خطيئة مميتة.
الزمان هو أنت والآخر الآخر غير مُحدّد قد يكون إنساناً أو مجتمعاً أو فكرة أو حلماً وهذا ما عناه الفيلسوف الفرنسي باشلار بعدما نضجت تجاربه ومداركه ومعارفه بشعرية أحلام اليقظة.
تندرج الحركية الراهنة التي نعمل لها بمحاولة تفكيك الوهم الطائفي والمذهبي الذي يسعى للبقاء في حالة التجزئة من خلال بناء شخصيته المُستقلة كإطار سياسي اجتماعي اقتصادي ثقافي منفصل بأولويّاته عن فكرة الوطن ووحدة الغايات والأهداف والمصير غير آبهٍ لتبعات هذا التفكك القيمي في الاجتماع البشري فالإنسان مخلوق اجتماعي بكينونته فإذا كان الوطن على سبيل المثال دائرة كبيرة يجتمع فيها المواطنون مشتركين بوحدة الحياة والأهداف مندمجين في فهم ذاتهم الوجودية كحالة تعبيريّة لها شخصيّتها المتكاملة فإن ثقافة الطوائف والمذاهب والإثنيات تشكّل في هذا السياق دوائر صغيرة داخل دائرة الوطن الكبيرة تصطدم بفعل الحركة ببعضها فتنشأ الصراعات والحروب والتفكّك الروحيّ والنفسي في ما بينها ينعكس ذلك حكماً على الوطن الذي ينتفي كأولوية تجتمع فيها الجماعة وتقوم بديلاً عنها أولويات جزئية غير قادرة على صياغة وجودها سوى بالتناقض مع الآخر وهكذا يتحول الوطن أوطاناً هزيلة يعشش فيها الانغلاق والتقوقع والتخلّف والانحطاط.
مؤسس ملتقى الأدب الوجيز.