همسة في أذن نوادينا الثقافية: غربلوا!
حسين فاعور الساعدي
عندما تغيب المقاييس وتنعدم المعايير ولا تتوفّر الضوابط، تصبح الفوضى سيدة الموقف. فوضى في كل شيء. فوضى بين أفراد الأسرة الواحدة. فالأب لا يظلّ أباً والأم لا تظل أماً والابن لا يظل ابناً. فوضى في السياسة، فوضى في الثقافة وفوضى في اللغة التي هي آخر وأعز ما نملك.
لم يعد ولم يكن خافياً على أحد أن من أهم أهداف العولمة، حتى تحقّق مآربها، هو سيطرة لغة واحدة هي الإنجليزية والقضاء على باقي اللغات ومنها اللغة العربية. لأن اللغة هي الهوية وهي الوسيلة والأداة التي تنهض بواسطتها الشعوب وتتطور. وعندما نقضي على اللغة ونذيبها أو نضعفها فإننا نقضي ونذيب أو نضعف الأمة.
ما نشهده في ساحاتنا الأدبية ونوادينا الثقافية على مختلف أنواعها وانتماءاتها ومشاربها من مساواة بين السيئ والجيد وبين الهابط الرديء والهادف المبدع، هو مدعاة للتساؤل الملحّ: ما الذي يجري؟ وهل هي الصدفة؟ من كل قلبي آمل ذلك.
في كل يوم يظهر لنا كاتب أو شاعر جديد. وهو أمر عادي وطبيعي. لكن غير العادي وغير الطبيعي أن ينال هذا الكاتب أو الشاعر وخصوصاً إذا كان أنثى المديح والثناء وتتسابق نوادينا في نفخه وتلميعه، وبغض النظر وبتجاهل تام لجودة وقيمة ما كتب وأصدر. في الفترة الأخيرة كم من شاعر أو كاتب وفرت له نوادينا المنصة وحشدت له «الأكاديميين» و«النقّاد» ليس لتقييم ما كتب وإنّما لكيل المديح والثناء على ما كتب حتى لو كان ما كتب مضرّاً للعربية وللإنسانية. ما يحدث لهذا الكاتب أو الشاعر الهابط والرديء أنه يصدق نفسه فيزداد هبوطاً ورداءة فيخرّب ما حوله. لنتصوّر بائع خضار أو فواكه يرى بين بضاعته ما أصابه التلف فتعفّن. وبدل أن يأخذ هذا الذي تلف وتعفن ويرميه جانباً، يتركه بين بضاعته ويحافظ عليه كمحافظته على الجيد. ماذا سيحدث لبضاعته؟ طبعاً سيصيبها التلف والفساد وستخرب جميعها وتفوح رائحتها ويلتهمها الدود. لأن التالف والمتعفّن يخرّب ما حوله.
ما يحدث في نوادينا الثقافية يتطابق أيضاً مع ما جرى للزجل الشعبي الذي كان متداولاً في أعراسنا التقليدية. قبل عقود كان هذا الزجل في أعراسنا من أجمل وأروع ما قيل في الأدب الشعبي. إلا أن التردّي والعفن في أحوالنا السياسية والاجتماعية والأخلاقية ألقى بظلاله على هذا الزجل وجره إلى مستنقع الهبوط والتردّي. فقد كان الشاعر الشعبي يأتي مع زميل له إلى العرس ليتبارزا في موضوع اجتماعي أو سياسي أو ثقافي. كلّ واحد يحاول بلغته البليغة وبثقافته وموسيقاه وإلمامه بالموضوع وبمقدرته على الإبداع، أن يثبت للجمهور أنه الفائز. تلك الحواريات أنتجت أدباً شعبياً من أرق وأجمل ما يكون. وساهمت في إثراء الجمهور وتثقيفه. هذه العادة بدأت بالتلاشي والانقراض تدريجياً وبموازاة الهبوط والتردّي الاجتماعي السياسي والأخلاقي الذي أصابنا. صرنا نرى ظاهرة لم تكن موجودة من قبل: يذهب صاحب العرس أو واحد من طرفه ويهمس بشيء ما في أذن الزجال. بعد بضع دقائق تسمع هذا الزجال يمتدح أحد المشاركين في العرس ببيت أو بيتين من الشعر فيشتعل تصفيق المنافقين في الجمهور. في البداية كان صاحب العرس يطلب مدح زعماء وقادة في مجتمعنا وبهمسة في أذن الزجال ليرضي غرورهم أو لأنهم يستحقون المديح والثناء. وربما ليفتخر هو أيضاً بوجودهم في عرسه. إلا أن الأمور تطورت مع التردي الذي أصابنا فأصبح صاحب العرس وحتى لا يغضب أحداً، بعد أن أصبح كل واحد فينا يرى نفسه زعيماً وقائداً، يقدم للزجال قائمة بأسماء كل المشاركين في الحفل ليقوم بمدحهم والثناء على بطولاتهم ومنهم من تظلم الحذاء إذا ضربته به. بهذه الطريقة تحول زجالونا إلى مداحين رخيصين كناقدينا في هذه الأيام. ولم يعد لديهم الوقت للتطرّق لشيء ذي معنى، غير بطولات فلان وصولات أبي علان. المصيبة أننا نحن من طلب ذلك ونحن من شجع ذلك وأشاعه فأصبح زجلنا الشعبي مدعاة للسخرية.
هذا بالضبط ما يحدث لنوادينا الثقافية. فالقيّمون على هذه النوادي، وربما بضغط من مرجعياتهم، لا يريدون إغضاب أحد. وما يهمهم هو عدد اللقاءات التي يُجرونها بغض النظر عن القيمة الثقافية لما يقدمه هؤلاء المشاركون. المصيبة الأكبر هي هؤلاء «النقّاد»، مرضى الجنس، الذين تحوّلوا إلى أدوات لكيل المدائح والثناء على ما لا يسوى الحبر الذي كتب به.
هذه المساهمة من نوادينا ونقادنا في إشاعة الفوضى ربما تكون غير مقصودة وآمل أن تكون كذلك. إلا أنها، كما هو بيّن وجلي، مدعومة من أطر وأحزاب واتحادات. وعلى هؤلاء أن يعرفوا أنهم، بعملهم هذا إنما يقترفون جريمة نكراء بحق ثقافتنا ولغتنا وأجيالنا. لأنهم عندما يحتضنون الهابط الرديء ويمجدونه إنما يخونون لغتهم ويغدرون بها وينفرون القارئ العادي ويحبطونه. إنهم كبائع الخضار والفواكه الذي يصر على حفظ التالف والمتعفّن بين بضاعته. أو كزجالي أعراسنا يكيلون المديح للجميع وحسب القائمة التي يقدّمها صاحب العرس الذي لا يستثني أحداً من ضيوفه!
إن معظم الكتب الثقافية التي تنشر عندنا في هذه الأيام تسيء للأدب وللثقافة وتحط من قدر اللغة العربية، ولا ترقى إلى مستوى ما يكتبه طلاب مدرسة ابتدائية. ما يزيد من خطورة هذه الكتب أن هنالك من يترجمها إلى لغات أجنبية، من منطلق علاقات شخصية أو فئوية وليس من منطلق قيمتها الفنية الحقيقية. إن هؤلاء المترجمين بعملهم هذا لا يسيئون للأدب فقط وإنما يسيئون لأمتهم لأنهم يعطون لها عند الشعوب الأخرى وجهاً غير وجهها الحقيقي.
إننا أمام واقع خطير ومؤلم يتم فيه بشكل سريع القضاء على الدور الذي كانت تقوم به الثقافة في صهر مجتمعنا وإعادة تشكيله وبلورته، ليحافظ على بقائه وخصوصيته. إن تحويل الفرد مهما عظم شأنه رقماً، مجرد رقم، لا فرق بينه وبين ما يحيطه من أرقام رديئة، إذا جاز في مجالات ما فلا يجوز في المجال الثقافي. وهو بداية الغربة المطلوبة لضعضعة كل شيء. هذا الواقع الخطير بدأه سياسيونا عندما أفرغوا أحزابنا من مضامينها ومبادئها وحوّلوها قوائم انتخابية همها الأول والأخير هو الوصول إلى البرلمان. لذلك تلجأ إلى تجميع أكبر عدد ممكن من الأرقام الأصوات حولها. ففي الصندوق صوت العالم أو المهندس كصوت الجاهل أو الغبي المتخلف. بهذه الطريقة يتم تحويل الفرد مهما عظم شأنه إلى رقم أو إلى لا شيء أمام غول العولمة والانفتاح، ليقف متفرجاً على ما يحدث أو ليسير مع القطيع عاجزاً ومشلول الإرادة. إذا صح ذلك في السياسة فإنه لا يصح ولا يجوز في الثقافة…غربلوا ما يصلكم.