العلم محرّك الأسئلة وصانعها والإنسان فيه قمّة التفاعل والتطوّر

د.عوني الخطيب

الكتاب: أجمل تاريخ للكون.

المؤلفون: هيوبرت ريفز وآخرون.

الترجمة: موسى خوري.

الناشر: أكاديميا انترناشيونال ـ بيروت ـ لبنان.

هذا الكتاب بوصفه كتاباً للثقافة العلمية، يخاطب فئة القراء من غير المتخصصين في العلوم، إلا أنه ينطوي أحياناً على معلومات عسيرة الهضم لغير متخصص. يتألف الكتاب من مقدمة وخاتمة وثلاثة فصول، هي على التوالي: الكون والحياة والإنسان.

يستهلّ المؤلف مقدمة الكتاب لشرح نوعين من المقاربات التي حاولت وصف وتفسير نشأة الكون وصيرورته التاريخية هما العلم والدين. إنهما بالطبع مقاربتان على طرفي نقيض، ولا يحكمان المجال نفسه، فالأول يتعلّم، أما الثاني فيعلّم، والشك هو محرك أحدهما، في حين أن الأيمان هو جوهر الآخر.

العلم إذن هو محرّك الأسئلة وصانعها، ولولاه لم تخترع أدوات استكشاف الفضاء كالمسابر التي تستكشف المنظومة الشمسية والتلسكوبات الفضائية التي تنقب في أعماق الكون والمسرعات الكبيرة للجسيمات التي تعيد رسم أولى اللحظات الكونية بل أيضاً الكمبيوترات التي تحاكي ظهور الحياة على الأرض وتقنيات البيولوجيا وعلم الوراثة والكيمياء التي تكشف اللامرئي المتناهي في الصغر. فعلماء الفيزياء الفلكية مثلاً يترصّدون بداية الكون، ويبحث البيولوجيّون والكيميائيّون عن أصل الحياة ويتتبّع علماء الأحافير الإنسان.

دراما اللحظة الأولى بين الفيزياء والميتافيزياء:

في الفصل الأول من الكتاب يترصّد المؤلف دراما اللحظة الأولى لميلاد الكون. تبدأ الحكاية منذ نحو خمسة عشر مليار سنة. منذ هذه البداية تتراكب المادة المتوهجة تحت تأثير قوى مذهلة لا تزال تسهر على مصائرنا. من أين جاءت هذه القوى التي توجه الآلة الكونيّة الكبرى؟ ولماذا هي ثابتة، في حين أن كل شيء يتغيّر حولنا؟ المسيحيون الأوائل كانوا يتساءلون «عما كان يفعله الله قبل أن يخلق الكون». وكان الجواب الشعبي:»انه يصنع الجحيم لأولئك الذين يطرحون على أنفسهم هذا السؤال». لكن القديس أوغسطينوس كان يجيب، فالخلق من وجهة نظره ليس خلق المادة فحسب، بل وأيضا خلق الزمان، فربما كان العقل الما بعد كوني مشغولاً في خلق الزمن قبل أن يخلق المكان.

الانفجار العظيم ليس حدّ العالم فعلاً، بل هو حدّ معرفتنا، فنحن أنفسنا مكوّنون من غبار الانفجار العظيم، وربما نحمل في صميمنا ذاكرة للكون. تمكن تلسكوب هابل من تحديد حرارة الإشعاع الذي يسبح في مجرّة تقع على مسافة 12 مليار سنه ضوئية، وهي 7.6 درجة مطلقة، وخلال ارتحال الضوء من هذه المجرّة ليصل إلينا انخفضت درجة الحرارة إلى 2.7 درجة، الأمر الذي يبرهن أننا نحيا في كون يبرد باستمرار منذ لحظة الانفجار العظيم.

قوى الكون الأربع، النووية والكهرومغناطيسية والجاذبية والقوى الضعيفة، شكلت هذا الكون الفسيح. القوى النووية تدخلت لتكون أول نواة من الكواركات تعمل على درجات حرارة أكثر من عشرة آلاف مليون درجة مئوية، ثم تدخلت القوى الكهرومغناطيسية بعد هبوط درجة الحرارة إلى 3000 درجة لتشكل الذرات بوضع الكترونات في مدارات حول النواة، ونتجت من ذلك أولى ذرات الهيدروجين والهليوم. ثم تدخلت قوى الجاذبية لتكوين المجرّات والأجرام التي تتصف بقوّة جاذبية هائلة. إن قوى الجاذبية داخل جرم سماوي يتجاوز نصف قطره 100 كيلومتر تتغلّب على القوى الكيميائية وتجبرها على اتخاذ شكل كروي، وأي سرعة انطلاق من الأرض مثلاً أقل من 11 كيلومتراً في الثانية تعيدها الجاذبية إلى الأرض، ما مهّد هذا الكوكب لاحتضان الحياة الأولى.

في هذا السياق يتساءل الكاتب:هل هناك قصد في الطبيعة يصّير الحوادث والأشياء والظواهر؟ لو كان لدى الطبيعة قصد توليد كائنات واعية لكانت عملت تماماً ما قد عملت، فهل أؤمن بالشيء عندما أراه أم أرى الشيء عندما أؤمن به؟

بذرة الحياة الأولى:

الفصل الثاني من الكتاب يخصّصه المؤلف لتتبع بدايات الحياة على الأرض، فالحياة هي القدرة على التكاثر واستخدام الطاقة والنمو والموت.في هذا الشأن يبين الكاتب أن العالم الحي والعالم المعدني-اللاحي- ليسا عالمين متعاكسين فهما متكاملان، بل لا وجود لأحدهما من دون الآخر، إذ لم يكن معروفاً ماضياً أن الجزيئات مكونة من ذرات والخلايا مكونة من جزيئات.

الخليط الكيميائي للأرض البدائية مع مائها السائل وغلافها الجوي الخاص كان على درجة كافية من القرب من الشمس لتلقي إشعاعاتها تحت الحمراء وفوق البنفسجية التي ساعدت في إطلاق التفاعلات الكيميائية، وعلى درجة كافية من البعد عن الشمس بحيث لا تحترق النواتج المصنعة. أمطرت الجزيئات العضوية خلال أكثر من 500 مليون سنة من الزخات الناتجة من تكاثف بخار الماء، وبذلك تحددت صفتان أساسيتان للعالم الحي: تركيبه الكيميائي كربون هيدروجين أكسجين نيتروجين ومصدر طاقة من الشمس، فتكوّنت ضمن هذه الظروف المؤاتية: الأحماض الأمينية والأحماض الدهنية والالديهايدات وحمض السيانيد، فهي اللبنات الأولية للحياة.

لم تظهر الحياة في المحيطات وفق ما ساد الاعتقاد لفترة طويلة، بل على الأرجح في البحيرات الشاطئية والمستنقعات، ففي هذه الأماكن يتواجد الطين باعتباره بيئة ملائمة للتفاعلات الكيميائية، حيث تتحد الجزيئات بعضها ببعضها الآخر. وحيث أن بعض هذه الجزيئات محب للماء وبعضها كاره له فإن هذه الجزيئات تنغلق على بعضها وتشكل أغشية تلامس من جهة الماء وتنعزل عنه من الجهة الأخرى، وهكذا تتحوّل الأغشية إلى كريات. إن تشكيل هذه الأوساط المغلقة والمعزولة عن الماء البدائي وهي تأسر في داخلها مواد كيميائيه تؤلف أخلاطاً خاصة بها وحدها، فمن دون هذه الأغشية لم يكن ممكناً ظهور تجمعات كيميائية جديدة.

بعض القطرات استطاعت إعادة إنتاج مزيجها الداخلي البسيط ومضاعفة حصتها الكيميائية بواسطة جزيئات RNA التي تكونت بتفاعلات بين حمض السيانيد والفورمالدهايد وغيرها من الجزيئات الكيميائية. قبل نحو ملياري سنة بلغ انقسام هذه القطرات والأغشية المحتوية على RNA و DNA بسرعة كبيرة جداً، ولم يكن ثمة شيء على الأرض في تلك الفترة يستطيع تدميرها أو يمنع تكاثرها، أما اليوم فان أي محاولة لظهور حياة جديدة تدمر فوراً من قبل الكائنات الحية الحالية، وما أن ولدت الحياة حتى قطعت الجسور وراءها وبطريقتها لوّثت الأرض ونقلت إليها العدوى.

إن التركيب الضوئي والتنفس أساسيان لتكوين الخلايا، فالأول يعتمد على الكلوروفيل، والثاني يعتمد على الهيموغلوبين، وهاتان الصفتان ستنتجان العالمين، النباتي والحيواني. استضافت الخلية النباتية جزيئات الكلوروفيل، في حين استضافت الخلية الحيوانية بكتيريا أصبحت تعرف بالمايتوكندريا لإنتاج الطاقة. فاللون الأخضر الخاص بالنبات واللون الأحمر الخاص بالدم وكلاهما ينتجان من جزيئات معدنية في مراكز الجزيئات المذكورة تسمح بامتصاص فوتونات الضوء وإرجاع أطياف معينة خاصة باللونين الأخضر والأحمر.

إنها متتالية من التفاعلات الكيميائية التي تقود إلى أوضاع غير قابلة للانعكاس وإلى خصائص جديدة أسست للحياة، وهذه ليست مصادفات. لنأخذ مثلاً جندياً يحكي لنا قصة حرب رهيبة. كان هذا الجندي موجوداً في مسكن وسقط صاروخ على المبنى، إلاّ أن السرير حماه، وفي إحدى المهمات قفز بالمظلة التي التفت عليه ولم تسعفه، إلاّ أنه سقط في مستنقع ولم يتضرّر، فإذا بدت قصته خارقة فذلك ببساطة لأنه موجود هنا ليحكيها لنا. كانت هناك ملايين القصص لجنود انتهت على نحو مأسوي، لكن هؤلاء لم يعودوا ليقصوها علينا، والحياة شيء من هذا القبيل، فإذا بدت أنها ناتجة من متتالية من المصادفات والتوافقات فذلك لأننا ننسى ملايين السبل التي لم تنجح ولم تصل إلى شيء، إن تاريخنا هو السرد الوحيد الذي نستطيع إعادة تشكيله.

الأمر الآخر الأعظم شأناً هو إدخال الزمن إلى جوهر المادة العضوية، ففي الكائنات الحية كافة تتجدد الخلايا على نحو دائم، لكن الساعة البيولوجية تحدد عدد مرات إعادة إنتاج الخلايا وهو 40-50 مرة، وعندما تصل الخلية إلى هذه المرحلة فإن الساعة المبرمجة في جيناتها تقودها إلى نوع من الانتحار فتموت. كذلك مع انقسام الخلايا تتضاعف أخطاء رسائلها الوراثية التي تتراكم مع مرور الزمن، ما يؤدي إلى موت الخلايا العضوية.

الإنسان قمة الترتيبات والتوافقات:

بحسب وجهة نظر المؤلف، تمثّلت قمة الترتيبات والتفاعلات والتطورات التي لحقت بالخلايا العضوية في الإنسان. ظهر في البداية إنسان نيانيدارتال. اكتشف هذا الكائن الضخم في الحفريات الأفريقية، فهو ذو جمجمة منخفضة ووجه منتفخ وحاجبين مقوسين متباعدين، وهو من الضخامة بحيث استطاع كوفيير، عالم التشريح المقارن، أن ينحت هيكل إنسان كامل من سن واحدة من أسنان هذا الكائن الضخم.

أوضح داروين أن أفريقيا قد تكون مهد الإنسانية، واكتشف لويس ليكي جمجمة الإنسان، وتبين من دراستها أنها تعود إلى 1.75 مليون سنة، أي نحو ضعف عمر أقدم أحفورة مكتشفة للإنسان حتى ذلك التاريخ، ثم تواصلت الاكتشافات حتى الوصول إلى عمر ثلاثة ملايين سنة.وبعد حدوث حفرة الانهيار الأفريقي بطول 6000 كيلومتر من نهر الأردن والبحر الأحمر وحتى بحيرة طنجانيكيا، انقسم العالم بين شرق وغرب، وأثر ذلك في المسلك التطوري للإنسان المنتصب erectus، وظهر الإنسان العارف Sapiens والماهرHapils وكلّها تعود إلى جنس homo، ويخلص لويس ليكي إلى حقيقة: إن جميع البشر أفريقيو الأصل ولدوا منذ ثلاثة ملايين سنة، فنحن أحرار بشكل رائع لكننا أيضا شديدو الهشاشة، فلو نشأ أحد أطفالنا بعيداً عن المجتمع فسيكون أعزل، ولن يستطيع حتى المشي على قدميه ولن يتعلم شيئاً».

في خاتمة الكتاب يتحدث المؤلف عن مستقبل الكون فيقول إن النجوم التي تضيء سماءنا لا تشارك في التوسع وهي لا تبتعد عامة عنا فالتوسع يتم بين المجرات وليس في داخلها. وعندما ينفد وقود الهيدروجين من شمسنا تصبح عملاقاً أحمر ويتسع غلافها الجوي ويمتد حتى مئات ملايين الكيلومترات وسيراها من ينظر إليها من الأرض تحتل جزءاً كبيراً من السماء، وسترتفع درجة الحرارة على كوكبنا وتختفي الحياة وتتبخر الأرض. فما عساه يكون مصير الإنسان والحالة هذه؟ يعتقد الكاتب أن الإنسان في مثل هذه الظروف سيتنقل بين النجوم. فخلال مئة سنة انتقل الإنسان من سرعة 50 كيلومتراً في الساعة إلى 50000 كيلومتر في الساعة في المركبات الفضائية، فربما تمكّن السرعة بعد بضع مئات من السنين الإنسان من الانتقال بين الكواكب «فالأرض هي مهدنا لكننا لن نبقى للأبد في المهد».

يتحدث الكاتب عن الوعي الجماعي : فبعد المرور من الجسيمات الى الذرات والجزيئات الى الخلايا والأحياء الخلوية ثم الى الإنسان أي المرور في المراحل الكونية ثم الكيميائية فالبيولوجية، ندشن الفصل الرابع في هذه الرحلة وهو الوعي الجماعي أن هذه المرحلة الجديدة تشمل التحوّل من المادة الى الطاقة بين العالم الحقيقي والتخيلي الى العالم الأفتراضي virtual وانفجار الروح المتحررة من المادة. وبمعزل عن الزمان يمكن للنقطتين أن تندمجا. يجب ألاّ ننسى ان عمر حداثتنا لا يساوي شيئاً اذا قارناه بثلاثة ملايين سنة هي عمر نوعنا. إن البشرية الحالية لا تزال تبدو فتية رغم وصولها الى درجة تفكير معينة. إن عدداً من الصعوبات التي يواجهها زماننا يتأتى من أن عدداً كبيراً من الشعوب ليس لديه سوى معلومات مختزلة عن العالم.

يتساءل الكاتب: لماذا يكون سير الأمور حسناً إلى هذا الحد في العالم الفيزيائي وسيئاً الى هذا الحد في العالم الإنساني؟ اخترعت البشرية طريقين للتدمير الذاتي، هما التسلح النووي وتدمير الطبيعة والبيئة. هل من يمكن أن يتعايش على كوكبنا الصغير عشرة مليارات شخص من دون إتلافه؟ هذا يقتضي التخلي عن النمو الاقتصادي والاكتفاء بالنمو المستدام، وهذا أمر يصعب إفهامه للحكومات، فالجسم الإنساني كله يستنفر لدى وجود جرح، وعلينا أن نخترع منظومة مماثلة على مستوى الكوكب وإلا ستستحيل الحياة عليه.

أستاذ الكيمياء غير العضوية – فلسطين

هذه القراءة القيّمة التي أرسلها الدكتور عوني الخطيب هي الاستجابة الأولى لدعوة «البناء» إلى المبدعين من قرائها للمساهمة بقراءة أو مراجعة كتاب، أو بنصّ إبداعي قصة، شعر، نقد فني، موضوع فكريّ… .

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى