«الاحتلال الاحتيالي الناعم»… البديل الأميركي لفشل حرب الاستنزاف
العميد د. أمين محمد حطيط
عندما فشلت أميركا في المحافظة على احتلالها للعراق بعد أن دمرته، وبعد أن اضطرت تحت وطأة المقاومة التي نظمت ضدها للخروج منه، وبعد أن فشلت في تركيع العراقيين بالإرهاب الذي جاءت به إليهم عبر تنظيم القاعدة وفرعها المسمى يومها «الدولة الإسلامية في العراق»، بعد أن فشلت في كل ذلك اضطرت للخروج من العراق مكتفية باتفاقية أمنية وبسفارة شكلت شبه دويلة داخل الدولة العراقية، وقد تصورت أن الاتفاقية والسفارة قادرتان على حفظ مصالحها في العراق في السقف الذي تريد، وإبقاء العراق جرماً يدور في الفلك الأميركي ومنصة تستعملها لإشغال محور المقاومة في الشرق إيران وفي الغرب سورية ومنعه من أداء دوره الهادف لتحقيق مصالح شعوب المنطقة.
وعند الاختبار تبين أن الظنون الأميركية ليست في محلها، حيث استطاع العراق وفي أقل من ثلاث سنوات أن يسفه الأحلام الأميركية، ويتجه لاحتلال المقعد الذي تؤهله له جغرافيته السياسية، والمنسجم مع الاتجاه العام لمحور المقاومة، ويمارس دوره الطبيعي كشقيق صديق لسورية العربية ولإيران الإسلامية الجارتين اللصيقتين، ثم كان الاختبار الأصعب مع بدء العدوان الخارجي على سورية، حيث رفض العراق طلباً أميركياً بالانتظام في جبهة أعداء سورية المنتحلة لاسم «أصدقاء الشعب السوري»، مطالباً بالحل السلمي في سورية بما يستجيب لإرادة الشعب السوري الحقيقة خلافاً لما تريد أميركا فرضه على السوريين بتنصيب حكام يلعبون دور حراس المصالح الصهيوأميركية في المنطقة.
هنا علمت أميركا أن احتلالها للعراق فشل في تحقيق غاياته، وأن خروجها منه بالصيغة التي اعتمدت فشل هو الآخر في الاحتفاظ بالعراق في جوقة التابعين المنصاعين لها، فتصاعدت الأصوات الأميركية التي تظهر الندم على الاحتلال والخسائر التي بذلت في سبيله، وأضيفت إليها أصوات تظهر الندم على الخروج بالصيغة التي تمت.
على ضوء ما تقدم، وتقاطعاً مع مصالح دول إقليمية تابعة لأميركا خصوصاً السعودية وتركيا يبدو أن أميركا قررت العودة إلى العراق ميدانياً لتقطع الطريق عليه وتمنعه من متابعة السير الحثيث نحو الموقع الاستراتيجي الذي تمليه جغرافيته السياسية أي الانتظام في الحد الأقصى والتنسيق في الحد الأدنى مع محور المقاومة والابتعاد عن التبعية لأي من دول الإقليم خصوصاً السعودية وتركيا، ورفض التحول إلى مستعمرة أميركية.
ولكن العودة بالشكل الذي تريده أميركا دونها مصاعب جمة، فأميركا لا يمكنها شن حرب لاحتلال جديد، فالأمر بات مستحيلاً لأكثر من اعتبار، كما أن السلطة العراقية وتقيداً بالاتفاقية الأمنية بين الدولتين ذات صلاحية بتحديد حجم المساعدة العسكرية التي يمكن أن تطلبها من أميركا من حيث طبيعتها وكيفية استعمالها، والسلطة هذه وعلى رغم حجم المخاطر الأمنية التي يشكلها الإرهاب عليها لم تكن بوارد طلب قوات أميركية برية لمساعدتها إذ إنها كانت تتعامل مع تلك المخاطر بالمتاح من الوسائل العسكرية الوطنية بما يبقي الأمور تحت سيطرتها.
لكل ما تقدم ابتدعت أميركا خطة شيطانية ترمي فيها عصفورين بحجر واحد، فكانت «داعش» وهي المنتج الإرهابي الأميركي الجسر الذي تعبر عليه أميركا لتحقيق أهدافها في العراق وسورية. وأناطت بها تنفيذ «استراتيجية حرب استنزاف» طويلة، توخت أميركا منها إجبار العراق على طلب المساعدة الأميركية العسكرية وبالشكل الذي يترجم عودة أميركية مباشرة إلى الميدان، ويمكن أميركا من استيعاب نتائج الانجازات السورية في مواجهة الإرهابيين ومنع الجيش العربي السوري من استثمار تلك الإنجازات في مسيرة استعادة الأمن والاستقرار إلى البلاد.
بدأت حرب الاستنزاف الأميركية ضد العراق وسورية بتنفيذ «داعش» مسرحية الموصل التي تمت تحت المراقبة والتوجيه الأميركي، ثم تابع «داعش» تمدده شرقاً في العراق، وحاول الدخول إلى لبنان عبر عرسال وصولاً إلى المتوسط ليتخذ من طرابلس مرفأ لها. وبعد عمليات إجرامية قادها «داعش» شمال العراق ضد الإيزيدين من جهة وضد أربيل من جهة أخرى، «رفعت أميركا البطاقة الحمراء لصنيعها»، وقررت التدخل العسكري ضده مصورة تدخلها بأنه نجدة للإنسانية لإنقاذها من خطر الإرهاب الداعشي، وسقط البعض في فخ الخدعة الأميركية، لكن من يعرفون طبيعة السياسة الأميركية أدركوا منذ البداية أن في الأمر مكيدة أو قل مسرحية توسلتها واشنطن للتهويل على العراق وسورية ولتبرير التدخل العسكري أولاً ثم العودة الميدانية ثانياً.
لقد اختارت أميركا في البدء نمط الضربات الجوية ضد «داعش»، مدعية أن هذه الضربات ستؤدي إلى اجتثاث «داعش» من العراق وتحجيمه في سورية، ادعت ذلك على رغم أنها تعلم يقيناً بأن أي عمل عسكري ناري لا يكون مصحوباً ومنسقاً مع عمل بري ميداني، لا يمكن أن يصل إلى مرحلة التدمير والاجتثاث الكلي أو التطهير الفعلي، ومع ذلك اعتمدت قصف الطيران في شكل أدى في مراحله الأولى إلى إنعاش «داعش» وتمكينه من الاستحواذ على تعاطف الكثيرين من المضللين المعتقدين بأن «داعش» حركة إسلامية حقيقية خلافاً لحقيقته بأنه حركة إرهابية أنتجتها أميركا لتقويض الإسلام وتدمير المنطقة خدمة للمشروع الصهيوأميركي .
شكلت الضربات الجوية التي أحاطتها أميركا بتحالف دولي أنشأته في ظل حرب نفسية صورت «داعش» بأنه ذا قدرات أسطورية تمكنه من السيطرة على العالم حتى روجت أن «داعش» قد يكون امتلك القنبلة النووية، شكلت هذه الضربات فرصة لأميركا للعودة عسكرياً إلى المنطقة، ولـ»داعش» لكسب التعاطف يعزز عديده الذي ارتفع بعد مسرحية الموصل من 25 ألفاً إلى ما يناهز الـ 80 ألف إرهابي.
لكن سورية لم تقع في الفخ الأميركي وأدركت منذ البداية أن من صنع الإرهاب وتعهده لا يمكن أن يحاربه ويقضي عليه طالما أنه لا يزال بحاجة إلى خدماته، وأميركا ما زالت بحاجة إلى خدمات «داعش» ليعيدها إلى العراق ولتستنزف سورية وتمنعها من تطوير انتصاراتها، ثم لإسقاطها كما كان مشروعها منذ البدء، لذلك اتخذت سورية الموقف الذي لا يعطي لأميركا براءة ذمة في قصفها لما تدعي انه مواقع لـ«داعش»، كما أنها لم تنبرِ للدفاع عن «داعش» وهو الذي ترتكب الجرائم على الأرض السورية، وتابع الجيش العربي السوري عملياته الناجحة التي شكلت رداً واضحاً على حرب الاستنزاف الأميركية.
أما العراق فقد تنبه كما يبدو للأمر وعلى رغم أنه طلب من أميركا العمل بالاتفاقية الأمنية وتقديم مساعدة وإسناد جوي للقوات العراقية ضد «داعش»، فانه رفض في شكل قاطع عودة القوات العسكرية البرية الأجنبية إلى العراق مهما كان حجمها وكانت جنسيتها بما في ذلك الأميركيين، ترافق ذلك مع تنظيم قوى عراقية رسمية وشعبية للعمل ضد «داعش» في شكل فاعل، وحققت هي الأخرى إنجازات مهمة ومن طبيعة استراتيجية كان أبرزها تنظيف جرف الصخر وبيجي.
وإذا كان الموقف السوري متوقعاً من قبل الأميركيين، فإن الموقف العراقي كما يبدو فاجأهم، ولذلك اتجهوا للالتفاف عليه والسير قدماً في عملية إرسال القوات البرية الأميركية إلى العراق، وتشكيل منظومة ذات قابلية للتطوير مستقبلاً لتصبح قوات ضغط وسيطرة على القرار العراقي بما يمنع تحقق هواجس أميركا من تحول العراق إلى عضو في محور المقاومة أو جسر واصل بين أطرافه.
لقد أدركت أميركا أن استمرار إنجازات كل من سورية والعراق سيؤثر سلباً في حرب الاستنزاف التي بدأتها منذ أربع سنوات، ما دفعها وفي لحظة من الشعور بالفشل، إلى التصريح بما كانت تخفيه يوم تشكيل التحالف الدولي والبدء بالضربات الجوية، حيث جاء على لسان أحد كبار ضباطها «أن العراق بحاجة إلى 80 ألف جندي أجنبي ليجتث داعش» أي عودة عسكرية أجنبية إلى العراق بقيادة أميركية ، أما في سورية «فلا اجتثاث لداعش ولا إمكان للتغلب عليه إلا بعد إسقاط الدولة السورية القائمة برئاسة الرئيس الأسد» على حد ما نقلت «سي أن أن» عن أحد المسؤولين الأميركيين.
استبقت هذه المواقف بقرار إرسال 1500 عسكري أميركي بمهمة تدريب القوات العراقية لينضموا إلى عدد مماثل سبقهم، وأميركا تعلم أن هذا العدد لا يمكن أن يحصر في مهمة تدريب، فتدريب الكتيبة المؤلفة من 500 عنصر لا يحتاج إلى أكثر من 15 عسكرياً مدرباً وخبيراً، فهل أن أميركا ستقوم بتدريب 200 كتيبة عراقية أي 100 ألف جندي عراقي في نفس الوقت؟ طبعاً هذا أمر مستحيل، ومن جهة ثانية يطرح السؤال لماذا تريد أميركا القواعد العسكرية وتدعي أنها للمدربين، ثم تختار 5 مناطق متباعدة لإقامة ما سمّي «معسكرات تدريب» تستأثر القوات الأميركية بالسيطرة الكلية عليها خلافاً للاتفاقية الأمنية مع العراق؟
كل هذه الوقائع والمواقف تؤكد شيئاً واحداً كنا قلناه منذ اللحظة الأولى لتشكيل التحالف الدولي وهو أن أميركا أعلنت للتحالف أهدافاً مزيفة وأخفت الأهداف الحقيقة، واضطرت الآن لكشف الأهداف الحقيقية بعد أن حققت سورية والعراق كل في ميدانها من الانجازات العسكرية ضد الإرهابيين ما أفهم أميركا بأن خطتها ستفشل ما أجبرها على نزع القناع والتصريح بحقيقة ما تريد من أهداف وهي بكل دقة اثنان:
في العراق: العودة في احتلال ملطف وتثبيت قواعد عسكرية دائمة، هي ذاتها القواعد الخمس التي رفض المالكي إقامتها سابقاً، قواعد يستوعب كل منها ما بين 15 إلى 25 ألف جندي، تكون مدعومة بطيران وبحرية الأسطول الخامس في الخليج، في مهمة منع التحاق العراق بمحور المقاومة وجعله برزخاً فاصلاً بين مكونات المحور هذا.
في سورية: الدفع باتجاه استمرار الإرهاب ضد الدولة لمنع استعادة الأمن والاستقرار لربوعها، حتى تستسلم وتقبل بمشاركة أميركا بالقرار السوري عبر عملائها.
انه «الاحتلال الاحتيالي الناعم» هو ما تريده أميركا إذن في كل من سورية والعراق، ولكننا نرى الفشل ينتظرها كما كان حصادها سابقاً من الخطط الماضية، لأن لمحور المقاومة ومعه العراق في حكومته ومعظم شعبه من القدرات والإرادة الرافضة للاحتلال والمصرة على اجتثاث الإرهاب ما يمكنهم وبقدراتهم الذاتية وبتحالفاتهم من تحقيق ذلك حتى ولو استلزم الأمر بعض الوقت.
أستاذ في كليات الحقوق اللبنانية