بوتين ترامب أردوغان الهجوم بالتشابك
طارق الأحمد
من مضيق البوسفور الذي شهد طيلة فترة الحرب الباردة بين الاتحاد السوفياتي السابق والولايات المتحدة الأميركية المؤشر الرئيسي الذي كان يضبط إيقاع حدوث أو ارتفاع احتمالات نشوب حرب عالمية ثالثة، والذي حُمل بكلّ الاتفاقيات الذي نظمت العبور وكلّ طرف يعتبر نفسه في حالة انتظار تاريخية من أجل تعديل هذه الشروط والاتفاقيات بحيث تنجم عن حالة تعديل كبرى إلى تغيّرات كبيرة لا في موازين القوى فحسب وإنما في موازين السيطرة على منطقة كبيرة وحيوية من هذا العالم.
ومع عودة الحديث القوي بالاستقطاب العالمي الكبير بين الولايات المتحدة الأميركية وروسيا الاتحادية التي ترث حقيقة مكانة الاتحاد السوفياتي السابق بإرثه الجيوسياسي والأطماع فيه من قبل الآخرين لكنها لا ترث نمط التفكير السوفياتي السابق وطريقة التعامل مع دول الخارج بل قد ترث كما تفكر القيادة الروسية الجديدة برئاسة الرئيس فلاديمير بوتين، ونقول ها هنا جديدة نسبة للاتحاد السوفياتي السابق ولكنه يحكم الاتحاد الروسي بخط أكثر وضوحاً اتجاه القوى الأخرى التي ورثت رئاسة يلتسن منذ عقدين من الزمن، هذه القيادة الروسية ترثُ نهجاً براغماتياً عالي المستوى وبعيد النظر في تعلّمه من النهج الغربي والأميركي تحديداً وليس السوفياتي في شبك العلاقات المصلحية والجيوسياسية، وهي أبعد وأبعد عن النهج السوفياتي السابق في طريقة مقاربتها بدبلوماسيتها ولو أنها تعود تقليدياً إلى دولٍ توصف بأنّ العلاقات معها كانت في الماضي هي الأفضل مع الاتحاد السوفياتي السابق، وذلك لأسباب جيوسياسية عميقة وليس لأسباب إيديولوجية منمطة، ومن هذه الدول طبعاً سورية وكوبا وفنزويلا وغيرها من الدول…
لقد شهدت الحرب على سورية منذ بدايتها في العام 2011 نوعاً من التشابكات والتداخل في الوجود التركي الأميركي والروسي… يمكن للمراقبين أن يستهلكوا الوقت الكثير في عدّ مراحله المتنوّعة من ناحية، واستقراء ما سيسفر عنه في المستقبل، لكن اللافت الرئيسي فيه أنّ تلك العلاقة التي تربط القوى الثلاث أميركا وتركيا وروسيا هي أقرب ما تكون في بعض حالاتها إلى مسرح العبث الذي لا يزال يدهش المشاهد والمراقب السياسي في كلّ لحظة تمرّ عليه، وهو يراقب أو يتعاطى مع ما يجري، فعلى الأرض كان هذا التداخل موجوداً حتى عسكرياً في منبج وعفرين ومحيطهما عندما كانت القوات التركية تتأهّب أو تساوم على الدخول، واحتلال عفرين أو تساوم من أجل الدخول إلى منبج، ومع التناقض الكبير في توجهات هذه القوى، فإنّ حالةً من عدم الاشتباك بين القوى الثلاث وسمت تلك الحركة خلال كلّ مرة تصاعدت فيها الأحداث في تلك المنطقة… سواء انتهت بسيطرة طرف ما أو لا…
وهذا ما يعود بنا لنتذكر دقة العلاقة ما بين هذه الأطراف اتجاه التعامل مع مضيق البوسفور أو بشكل مستجدّ اتجاه ما يحدث بين صفقتي شراء منظومة «أس 400» أو «أف 35»، الأولى مع روسيا والثانية مع الولايات المتحدة الأميركية.
من ناحية روسيا فسياستها المستجدة تتمثل بمحاولة وراثة ما أمكن وراثته من العلاقات الأميركية في منطقة الشرق الأدنى الممتدة من تركيا حتى دول الخليج… وهو ما يفسّر السلام الحار اليتيم ما بين الرئيس فلاديمير بوتين ومحمد بن سلمان الشريك الحقيقي لترامب في قضية الخاشقجي، رغم أنّ ترامب نفسه لم يجرؤ على السلام عليه في قمة الأرجنتين الأخيرة كما لم يجرؤ أيّ رئيس غربي بالوقوف بجانبه أو السلام عليه، وكان ذلك مؤشراً على أنّ روسيا مستعدة لنسج العلاقات مع حلفاء الولايات المتحدة الأميركية جميعهم سواء كانت السعودية أو قطر أو الإمارات أو تركيا أو حتى «إسرائيل»، هذا فضلاً عن علاقاتها الاستراتيجية مع سورية والعراق ولبنان وغيرها، وبالتالي فإنّ روسيا ستقوم بملئ الفراغ الذي ستخلفه الولايات المتحدة الأميركية، وحتى لو كان ذلك الفراغ هو تحية دبلوماسية في احتفال رسمي مع ما يرمز ذلك بكلّ أبعاده.
من مصلحة روسيا كما تراها قيادتها أن تصدّر منظومة «أس 400» إلى تركيا ثاني أكبر دولة وقوة في حلف الناتو ما يعني بأنها ستذهب أكثر وأكثر إلى محاولة شق حلف الناتو في خاصرته الأكثر أهمية، وهي ها هنا ستُدخل أكثر فأكثر خبراءها وعلماءها إلى أجواء وسماء الأراضي التركية ليطلعوا على الشيفرات والإشارات الجوية المتحكمة بالسماء في هذه المنطقة ولتصبح على إطلاع وتداخلٍ مع ما يجري في تلك المنطقة، وهو ما ترى فيه الولايات المتحدة خطراً على كلّ منظوماتها التسليحية في تركيا، فإذا مثلنا التواجد الروسي باللون الأحمر على الخارطة وكان اللون الأميركي أزرقاً، فيمكن القول إنّ الخارطة التركية ما بعد منظومة «أس 400» الروسية وتشغيلها طبعاً وليس تخزينها سوف تكون بخطوط حمراء متداخلة مع الخطوط الزرقاء، وهذا ما قد يدفع – في حال نجاح وازدياد التباعد الأميركي مع بعض دول الخليج ومنها السعودية طبعاً وإرهاصاته متوافرة في الأخبار الأخيرة عن إعادة التموضع مجدّداً في قضية الخاشقجي الأميركية باتجاه عزل القيادة السعودية – بما يعني أنّ روسيا ستبدأ في التفكير بنسج خيوط صفقةٍ قد تعقد أيضاً مع السعودية أو غيرها، ما يعني وجود خطوط حمراء جديدة على الخارطة السعودية تتداخل مع الخطوط الزرقاء التي تصبغ الخارطة السعودية بأكملها والمناطق المحيطة بها ما يعني انّ أجواء الشرق الأدنى ستحمل أكثر فأكثر اللون الأحمر بعد أن كان فاقعاً ومحدوداً فقط فوق الأجواء السورية وانطلاقاً من قاعدة حميميم على البحر المتوسط.
بالمعنى السياسي والجيوسياسي وإنْ حققت هذه السياسة الروسية نجاحات، وهي بمنطق القيادة الروسية تحقق حالياً نجاحات – ولو كانت دبلوماسية – في زعزعة الكتلة الصلبة لحلف الناتو الذي يتمدّد على أطراف روسيا وخاصةً في المناطق القريبة منها كأوروبا الشرقية وحتى أوكرانيا التي حاولت أميركا أن تستخدمها كخاصرة أكثر خطورة… مقتربة من العمق الروسي، فإنّ تحقيق كلّ خطوة في مجال بيع هذا السلاح يعني بالنسبة للروس تقدّماً جيوسياسياً وتمدّداً في منطقةٍ كبيرة وهامة وحيوية من مناطق العالم القديم وهي كلّ منطقة الشرق الأوسط، ويعني بالنسبة لهم أيضاً التتويج الحقيقي للنجاح العسكري بعد دخولهم الشرعي والرسمي في الحرب السورية، ومن هنا نستطيع أن نفهم الكثير من النهج الدبلوماسي الذي تنتهجه السياسية الروسية اتجاه القضية السورية أولاً، والتي عبّر عديد المراقبين وأكثر من المراقبين السوريين عن عدم المعرفة بالأسباب التي تمسّكت ودعمت الدبلوماسية الروسية فيه قضية الحلّ السياسي في سورية، بل واستضافت أيضاً ودعمت كثيراً ورفعت من شأنه المعارضات الخارجية التي اتخذت من أعداء الحكومة السورية – وهي تركيا والسعودية وقطر – بشكل أساسي فتمّت لقاءات عديدة بين القيادة الروسية وبين رموز أساسية في هذه المعارضات وحتى أنّ هذا الأمر قد جرى أيضاً مؤخراً في جولة وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف الخليجية ولقائاته التركية قبل ذلك.
وها هنا من المفهوم بأنّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يحرك بسياسته حصانين أساسيين باتجاه الانفتاح على العالم الأكثر أهمية وحيوية وهما حصانا الدفاع والخارجية، أيّ الثنائي شويغو – لافروف، مع طاقم وكادر كلّ منهما المتمرس في العلاقة مع كلّ الأطراف في منطقة الشرق الأدنى كما عرفناه من تركيا إلى الخليج بما فيه كيان الاحتلال، وقد استخدم الرئيس بوتين أكثر من مرة عبارة «إنْ لم يفهموا على لافروف فسنرسل لهم شويغو»، وبالتالي ولنفهم هذه السياسة يجب أن ندرك أنّ روسيا تريد اقتحام معاقل الغرب والولايات المتحدة الأميركية وحتى الأنظمة الأكثر رعاية وتريد الحلول مكانها في لعبة ذات نفس طويل جداً جداً وتعمل فيها الدبلوماسية والعسكرة في حالة تبادلية وتتعاطى مع جميع الأزمات وفق ما تراها هي مناسبة.
روسيا تريد أن ترسم سياساتٍ مستقلة خاصة بها وطبعاً أعيد وأكرّر استخدامي لمثال قضية الخاشقجي كأوضح قضية تعبّر تعبيراً دقيقاً عن هذه السياسة سواء لدول الغرب أو لروسيا.
من هنا تماماً يمكن الفهم بأنّ ما يسمّى الحلّ السياسي في سورية هو أولاً ليس حلاً سياسياً للأزمة السورية فحسب، وإنما هو صيغة سياسية تتعلق بالإقليم ككلّ وبجملة تشابكاته الجيوسياسية وعلاقاته مع الدول الكبرى بما فيها روسيا نفسها، ومن هنا أيضاً يفهم بأنّ الحل السياسي ليس فقط رؤية روسية، وإنما حاجة روسية، من أجل التعامل مع المنطقة ولكن وفق المفهوم والثوابت الروسية لطريقة الفهم وهي التي نجحت الدبلوماسية الروسية في ترسيخها في جميع التفاهمات والاتفاقات والقرارات المتعلقة بسورية، ابتداءً من قرارات مجلس الأمن الكثيرة التي قامت روسيا بإبطال كلّ ما يخرج عن هذه الثوابت بالفيتو المزدوج مع الصين وليس انتهاءً بالتفاهمات جميعها سواء التي جرت من جنيف إلى أستانة إلى سوتشي إلى ميونخ وفيينا إلى كلّ ما جرى على هامش الحرب على سورية.
ولكن يبقى المفهوم السياسي الروسي قائماً بأنّ سورية لن تهدأ إلا بإرساء منظومة أمن إقليمي كبير تراعي جملة من التشابكات والعلاقات ومنها بشكل رئيسي العلاقة مع روسيا ووجود نفوذ روسي بكلّ منطقة الشرق الأدنى كما قلنا الممتدة من مضيق البوسفور وحتى خليج عدن، وهو ما يطبخ في مطبخ الحلّ السياسي السوري، كما يطبخ تماماً محاولات نشر السلاح الروسي أيضاً من مضيق البوسفور إلى خليج عدن، من خلال تسايره مع القضية السياسية والدبلوماسية المتشابكة في كلّ المنطقة… وما مشاركات روسيا اللافتة والهامة جداً في معارض السلاح المقامة في دبي، إلا واحدة من المؤشرات الأساسية من هذه السياسة، وللعلم أيضاً فنحن لا نتحدث فقط عن منظوماتٍ كبرى كـ «أس 400» وغيرها، وإنما نتحدث أيضاً عن السلاح الفردي وسلاح الحمايات لكبار الشخصيات والسيارات المصفحة والمقاومة للأحداث الكبرى وحتى الغبار النووي، والتي أخذت طريقها فعلاً إلى تلك المعارض والأسواق، وهذه مسائل لا تقلّ أهمية عن الصفقات الكبرى والتي تباع على هامش الاتفاقات الكبيرة.
أما من ناحية تركيا فهي تعلم تماماً جملة هذه التشابكات وبعيداً عن إعادة استعراض المشاريع المتهوّرة التي دخلت فيها تركيا العدالة والتنمية إبان رئاسة الرئيس الأميركي باراك أوباما وفشلت فيها فشلاً ذريعاً في السيطرة على المنطقة، بالشراكة بين أردوغان وأوباما… فإنّ التحوّل الذي يحاول أردوغان أن يجريه على سياسته هو من أجل أن لا يدفع الثمن لفشل المشروع الأول مع الحزب الديمقراطي، وأن يحاول الاستمرار في الحياة مع ترامب ولو بعلاقة شائكة وتشابكية مع خصومه وأعدائه، خاصةً أنّ هذه السياسة أصبحت سمة السياسة الترامبية اتجاه كلّ حلفائه وأعدائه، وهنا نلاحظ العلاقة الخطية والعميقة ما بين الحكومة التركية والإيرانية والفنزولية والروسية وكلها تقع في دائرة الخصومة المباشرة كبرت أو صغرت لحكومة ترامب، وفي نفس الوقت تستمرّ العلاقة بين تركيا وأميركا نفعية وتبادلية وراسخة، كونها أحد أهمّ أركان حلف الناتو، ونجد بأنّ نظرة أردوغان إلى صفقة الـ «أس 400» أيضاً لا تخرج كثيراً عن منطق المساومة لحليفه اللدود الأميركي حيث يمكن أن يمارس الخداع الاستراتيجي اتجاه الروسي بحيث يحاول اللعب على الحبلين بين روسيا وأميركا، فيبتز ما يستطيع كلّ طرف من الطرفين، ويترك لنفسه الخيار إلى أيّ مرحلة سيصل في إحدى الصفقتين بين «أس 400» وأف 35»، بما فيها احتمال شراء منظومة «أس 400» وتخزينها وعدم استخدامها وما ينذر أيضاً بخطر على فشل الصفقة الروسية إلا من الناحية المالية، وبالتالي إمكانية أن يستولي حلف الناتو على بعض أسرار «أس 400» بدون أن يستطيع الاتحاد الروسي الاستيلاء على أجواء تركيا.
وكلّ هذه الأخطار والتوقعات هي أفكار مشروعة بالإضافة إلى ملاحظة اقتراب هذا الخيار وهذه التفاهمات في ضرب كلّ طرف للطرف الآخر خاصةً أن الانتخابات البلدية التركية الأخيرة قد سبقتها حملة أميركية وغربية لإضعاف الليرة التركية والضغط على أردوغان في مقابل علاقة حميمة بين أردوغان وبوتين والقيادة الإيرانية، وهنا نفهم بأنّ الولايات المتحدة ترفع لأردوغان بطاقة صفراء اتجاه إمكانية شرائه لمنظومة «أس 400» والذهاب بعيداً في العلاقة مع روسيا، وأنها يمكن أن تترك المجال للمعارضة لكي تأخذ حصة أكبر في الحكم وتهدّده في مستقبله السياسي ككلّ، كما فعلت قبل ذلك في دعمها للعملية الانقلابية عليه.
في الخلاصة فإنّ مسرح العبث هذا هو ليس بمسرح عبثٍ… بل حقيقة على كلّ مراقب هادئ يستطيع أن يرى الأمور بمصالح الدول الكبرى والتي تحدّد مسارات العالم باتجاهاته الكبيرة، وأن ينمذج سياساته وفق مصالح شعبه، بما يستطيع تحصيله، دون توهّم أو تجاهل لما يجري خلال هذه المرحلة التأسيسية، لإمكانية الاعتراف الغربي بمسألة التعدّدية القطبية التي طرحها الرئيس الصيني منذ عدة سنوات، وهو ما يعني وجود أقطاب عديدة وليس قطباً واحداً كما هي الحال الأميركية اليوم، أو قطبين كما يعتقد… وانما وجود تعددية قطبية في العالم تعمل هذه الدول وخاصة روسيا والصين… وتحاول تركيا وإيران ودول آخرى كالنواة الصلبة للاتحاد الأوروبي، أيّ ألمانيا وفرنسا أن ترسم ملامح تواجد في هذا المستقبل… وتحاول من جهتها الولايات المتحدة فرملة إمكانية صعود أيّ أقطاب جديدة ولو بالبلطجة التي تتحوّل إلى سياسة علنية تريد الولايات المتحدة – ترامب، أن يعترف العالم الدبلوماسي الجديد بمصطلحاتها، بما يقطع مع السياسات المعتمدة خلال كلّ فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
عضو المكتب السياسي في الحزب السوري القومي الاجتماعي