الموسيقيّ الألمانيّ الخالد مندلسون سأله غوته أن يوقظ بداخله الأرواح الراقدة وأن يمحو بعزفه الكوابيس
كتب محمد زكريا توفيق: يعتبر جاكوب لودفيغ فيلكس ماندلسون من عظماء مؤلفي الموسيقى الكلاسيكية في القرن التاسع عشر. من عائلة عريقة، معروفة لعدة قرون في الأوساط الاجتماعية والأدبية. جده فيلسوف مشهور. والده من رجال المصارف والاقتصاد. فيلكس نفسه عازف بيانو وأورغن وقائد أوركسترا ومؤلف موسيقي طبقت شهرته الآفاق. كان والده يقول عن نفسه إنه ابن لأب موهوب وأب لابن موهوب.
عندما نتحدث عن مندلسون فإننا نكون تركنا قصص المؤلفين الذين عاشوا يكابدون شظف العيش والفاقة. نحن الآن أمام حالة من حالات رغد العيش والثراء المنعم. أمام فنان وهبه الله كل ما يطلبه ويتمناه إنسان. حتى اسمه «فيلكس» يعني الحياة السعيدة.
ولد فيلكس في مدينة هامبورغ في ألمانيا عام 1809، عندما كان محمد علي باشا الكبير يحكم مصر منذ أربع سنوات. في ذلك الوقت، كانت أسرته تترك الديانة اليهودية وتعتنق الديانة البروتستانتية. وعندما دخل الجيش الفرنسي مدينة هامبورغ، فرت عائلة مندلسون إلى مدينة برلين واستقرت فيها. أطفال العائلة هم بحسب الأعمار: فاني، فيلكس، ريبيكا، بول. كانت أمهم الموهوبة تعلمهم الموسيقى.
لم تكن الحصة في البداية تزيد على خمس دقائق، كي لا يتعب الأطفال ويملوا الدرس. كانت تجلس إلى البيانو، بينما كان الأطفال يعزفون دروسها الموسيقية. كل أسبوعين، كان أحد الأطفال يقود الأوركسترا المكوّنة من باقي أفراد الأسرة. كان الأطفال دائما منشغلين بدروسهم الخصوصية في جميع المواد. المدرسون يأتونهم كل يوم. يستيقظون في الخامسة صباحا، ما عدا يوم الأحد، للاستذكار وعمل الواجب. وقت اللعب، تجدهم في الحديقة يلعبون فوق النجيل الأخضر، يتسابقون في الجري أو يتسلقون الأشجار.
كانت فاني تكبر فيلكس بثلاث سنوات. فاني وفيلكس ما كانا يفترقان. كان فيلكس يهتم برأي أخته فاني أكثر من أي شيء آخر. ورغم أن فاني كانت تجيد العزف بدورها، إلا أنها كانت من أشد المعجبين بموسيقى فيلكس. كان فيلكس يذهب إلى الغابة للتريض، ولدى عودته يجلس أمام آلة البيانو لكي يخبر فاني بكل ما رأى وسمع، لا بالكلام إنما بالموسيقى. كانت فاني تتساءل: هل الطيور كانت تغني اليوم هكذا؟
كان فيلكس صبياً متميز المظهر، جميل الوجه، عينان عسليتان، وشعر مجدل في ضفيرتين مسترخيتين على صدره. كان مظهره جاذباً للنظر أينما يذهب. إلى حبه للموسيقى، كان مواظباً على الرياضة البدنية وعاشقاً للسباحة والرقص. وعندما بلغ سن العاشرة كان يستطيع عزف أشهر أعمال المؤلفين الكبار. بدأ يدرس على يدي مدرسين عظام. مثل زيلتر الذي كان يدرس الموسيقى النظرية لفيلكس، وغليون التبغ لا يفارق فمه. كان زيلتر معجباً جداً بالصبي فيلكس، إلى حدّ أنّه طلب من صديقه الشاعر غوته مقابلته. الشاعر غوته كان يبلغ من العمر عهد ذاك الوقت 73 سنة. استقبل غوته مشكوراً الصبي طويل القامة فيلكس، الذي كان يبلغ من العمر 13 سنة آنذاك. راح مندلسون يعزف على البيانو قطعة وراء قطعة، من دون أي خطأ يذكر.
كانت نصائح الأب إلى ولده فيلكس كالآتي: «راقب سلوكك، وأسلوبك عند تناول الطعام. تكلم بوضوح وباختصار. استخدم الكلمات الصحيحة التي تؤدي المعنى بدقة». وسرعان ما قامت صداقة حميمة بين الشاعر العجوز غوته والصبي فيلكس، مثل الصداقة التي كانت بين أمير الشعراء أحمد شوقي والمطرب محمد عبد الوهاب. كان فيلكس مندلسون يزوره مراراً وتكراراً. وذات مرة، فتح غوته آلة البيانو أمام فيلكس وقال له: «تعال وأيقظ في داخلي الأرواح المجنحة الراقدة متعثرة منذ أمد بعيد. عندما أكون مريضاً أو تعيسا، عليك أن تمحو هذه الكوابيس بعزفك الساحر».
هذه الصداقة لم تنقطع إلاّ بوفاة «غوته» عام 1832. بعد زيارة فيلكس الأولى للشاعر غوته، ذهب فيلكس إلى فرانكفورت لحضور اجتماع جمعية «سيسيليا». هناك أبهر الموسيقيين الكبار بعزفه مقطوعات من موسيقى باخ.
بعدما أمضت أسرة مندلسون بعض الوقت في برلين، انتقلت إلى منزل جديد، كان اسمه «البيت ذو الحدائق الكثيرة». هناك كان يحلو السمر في ضوء القمر، والنزهة بين كميات الزهور والورود الكثيرة، وأشجار الكستناء. غرفة العشاء الصيفية في المنزل الكبير كانت معدة مثل قاعة موسيقى فاخرة. كان من عادة فناني برلين أن يحضروا إلى هذه القاعة لسماع فيلكس وفاني، وفي بعض الأحيان سماع أعمال مؤلفين آخرين. في هذه القاعة يمكنك مقابلة كبار المفكرين، فلاسفة وأدباء وشعراء وسياسيين، مثل عالم الجغرافيا والمستكشف همبولدت، والفيلسوف هيغل، الشاعر هاينه، والكونتيسة متعددة الموهبة بتينا. فكانت حاضرة في كل مكان. إذ كانت ناشطة اجتماعية، فضلا عن كونها أديبة وناشرة ومؤلفة موسيقية ومغنية ورسامة. فيا لها من امرأة. وعندما كان المؤلف الموسيقي الموهوب موشيليس يحيي حفلاً موسيقياً في مدينة برلين، كان يلاحظ بين جمهوره شاباً صغيراً وسيماً.
وفي نهاية الحفل الموسيقي تقدم الشاب إلى موشيليس ليشدّ على يده ويدعوه للعشاء في منزله. هناك استمع الموسيقي المخضرم إلى أسرة مندلسون. نشأت منذ ذلك الحين بينه وبين فيلكس صداقة استمرت طوال حياة مندلسون.
كان فيلكس دائم التأليف الموسيقي لمثل هذه المناسبات. في بعض الأحيان، كان يؤلف أوبرات من فصل واحد. استمع إلى مقدمة العفاريت في «حلم ليلة صيف» التي قدمت للمرة الأولى في القاعة الموسيقية الملحقة بمنزل مندلسون. منذ ذلك التاريخ لم تفقد شيئا من نضارتها وحيوتها.
«حلم ليلة صيف» لمندلسون.
بينما كان فيلكس وشقيقته فاني يجلسان على النجيل الأخصر في حديقة المنزل، يطالعان مسرحية لشكسبير بالاسم نفسه، كانا يتخيلان أثناء المطالعة صور الجان والعفاريت التي تسكن الغابات. كانت تخيلاتهما بقدر ما تسمح به دنيا الخيال.
لم يجد فيلكس مكاناً جميلاً موحياً، يستطيع فيه أن يترجم خياله وتصوراته إلى جمل موسيقية وألحان ساحرة مثل هذا المكان الرائع.
بعدما قضى فيلكس عامين في جامعة برلين ذهب مع والده للقاء الموسيقي العظيم شيروبيني، لكي يستشيره في ما إذا كان يحمل من مواهب موسيقية تسمح له بتكريس وقته وجهده لاحتراف التأليف الموسيقي. كانت كلمات الإطراء من شيروبيني مشجعة جداً، جعلته يسلك هذا الطريق. في الوقت نفسه، حين عرضت أوبرا «عرس كامانشو» لمندلسون على المسرح الملكي في برلين أعجب بها سبونتيني. سبونتيني هو أيضاً أحد أساطين مؤلفي الأوبرا العظام. قال للشاب المؤلف الشاب ابن السادسة عشرة، وهو يشير بيده إلى مبنى الكنيسة المرتفع: «اطلب العلياء دائماً».
رغم أن أوبرا مندلسون حازت إعجاب العامة، إلاّ أنها واجهت نقداً لاذعاً من النقاد. أصيب مندلسن بخيبة أمل كبيرة، لكنه لم يستسلم. كرس جهده بعد ذلك لإحياء موسيقى باخ العاطفية إذ كان معجباً أشد الإعجاب بالعظيم باخ فأحيا موسيقاه، بعدما كان طواها النسيان لمدة قرن من الزمان. درّب مندلسون جوقة موسيقية. وكان يقيم حفلاً موسيقياً بعد الآخر. بعد ذلك بمدة قصيرة، خطبت شقيقته فاني للرسام هنسل. عندما وجد فيلكس نفسه وحيداً بعد زواج شقيقته، أبحر لزيارة إنكلترا عام 1829. استقبل هناك استقبالاً حسناً. قاد جوقة الجمعية الفلهارمونية لعزف عملين من أعماله. استقبلهما الجمهور بحماسة شديدة يشبه الهستيريا، وكان الكل يتحدث عن موسيقاه.
أصل مندلسون العريق وشخصيته الساحرة وسلوكه الراقي، فتحت أمامه معظم الدوائر الاجتماعية المغلقة. كانت لندن بالنسبة إليه مدينة عملاقة. كان يصفها بأنها أعظم المدن وأعقدها على وجه الأرض. وبعدما ترك مندلسون لندن ذهب لزيارة اسكوتلندا إذ كان يحب قراءة أعمال الأديب والتر سكوت. كان يريد رؤية وطن «ساحر الشمال» وهي سيرة ذاتية للأديب. استمتع مندلسون بالجو البارد وبرؤية السماء الملبدة بالغيوم والجبال والشطآن وأشجار الصنوبر. كان يصف البلاد بأنها «سيمفونية اسكتلندية» في بهجتها وعنفها وشجنها.
لكن ما بهره أكثر من أي شيء آخر هو كهف «فينغال» الذي زاره بعد عاصفة هوجاء. وجد فيلكس الكهف شديد العتمة، مليئاً بالصدى الصوتي. الأمواج تئن وتبكي وهي ترتطم بشدة بقباب الكهف وأعمدته.
عندما سألته شقيقته فاني عما رآه قال: «هذا أمر لا يمكن وصفه إلاّ بالموسيقى». ثم جلس إلى البيانو، وبدأت فاني تسمع تنهد الريح والأمواج وهي تضرب بعنف الجدران الصخرية للكهف. أصبحت في ما بعد المقدمة الموسيقية لـ «هيبريدز» أو «كهف فينغل».