لا أنصاف مواقف في السيادة الوطنية والقرار الحر
د. رائد المصري
بهدوء… فربما هي قلة العادة أو التعوّد وأغلب الظنّ عن سوء نية بما يتلخص من مواقف لبعض القوى السياسية في لبنان وأغلب العرب حول السيادة ومنطقها في ممارسة الحكم والاستقلالية في القرار الوطني، بعدما خبرنا ولمسنا بأيدينا ومن دون خجل حركة الإملاءات والأوامر التي يطلقها صقور البيت الأبيض وذئاب ترامب وأيائل النظام الرسمي العربي الملكي منه أو الجمهوري الصوَري، من دون حياء وبطريقة العنجهية الخارجة عن أيّ إطار ديبلوماسي يقيم وزناً أو معنى لحسن العلاقات بين الدول. وهذا إنْ دلّ على شيء فإنه يشير لحال الفقدان والفراغ الذي بات يحكم منطق الغرب الرأسمالي وإمبرياليته الذي لم يعد يملك المبادرة أو صياغة القدرة على اتخاذ القرارات ورسم السياسات الدولية، وكذا حال أغلب نظم الحكم عند العرب لناحية التجاسر بإعطاء الأوامر والتجاهر أمام الجمهور والإعلام بها. وهذا بكلّ الأحوال دليل فقدان التوازن والاتزان والمسارات المتبدلة في السياسات الدولية والإقليمية والتي لا ترسو على مستقرّ ثابت حتى اليوم…
في لبنان هذا البلد الصغير لا تحتمل مواقف سياسيّيه أنصاف الحلول والتسويات، وهذا عكس ما هو شائع في الأدبيات السياسية السائدة بالتعامل بين القوى في ما بينها، خصوصاً أننا اليوم أمام مرحلة توسّع وتمدّد لحركة التحرّر على المستوى العالمي للوقوف في وجه الهيمنة والغطرسة والبلطجة الاستعمارية لأميركا وأدواتها، حتى لو كان رئيس الحكومة في لبنان هو من يرسم السياسات العامة للبلد وهو المسؤول عنها. فهذا لا يعفيه من التبعات والتداعيات التي تنتج عن ممارساته السلطوية المتعرّجة والملتوية والتي تدلّ على الجهل والمراهقة السياسية، حيث الأمثلة كثيرة على هذا الصعيد منذ تهرّبه المستمر عن مصافحة السفير السوري في بيروت بمناسبات وطنية عدة وبشكلٍ نافر، الى تقصده عدم اصطحاب وزير شؤون النازحين معه الى مؤتمر بروكسل المنعقد خصيصاً من أجل النزوح السوري والأزمة الاجتماعية المستحكمة، وليس آخرها عدم استقباله وزير الخارجية الفنزويلي الآتي الى بيروت رغم طلبه موعداً مسبقاً.. فكيف يقبل اللبنانيون هذه الإهانات المستمرة والتلاعب بمصير الشعب بهذا الشكل السافر؟ وكيف يقبل اللبنانيون بممارسة البلطجة السياسية والتهرّب والالتفاف على قضية اجتماعية كبرى كقضية النازحين السوريين يمكن أن تخلق توتراً وحرباً نتيجة تفاقم الوضع المعيشي والسكاني؟ ولماذا يقبل اللبنانيون هذه الطرق الملتوية في أداء السلطة التنفيذية في قضايا مصيرية يعرفون سلفاً أنّ القرار أتى نتيجة إملاءات وضغوط وأوامر من الإدارة الأميركية للتنفيذ وهم يسكتون عن مهانات بهذا الحجم؟
هذا بعض قليل من حوادث كثيرة وهناك المزيد من الاعوجاج في ممارسة السلطة في لبنان نتيجة موقف سياسي من سورية أو فنزويلا أو من عودة النازحين أو كلّ ما من شأنه أن يحط من كرامة اللبنانيين وفي كلّ الاتجاهات. فجوهر اتفاق الطائف هو أنّ سلطة مجلس الوزراء عمادها أن يكون مجتمعاً لرسمه السياسات العامة للبلاد، وليس من خلال التفرّد في القرارات وخاصة المصيرية منها.. فكيف إذا كانت سياسات متفرّدة آتية بأوامر ملكية أو إملاءات أميركية غربية؟
البعض في لبنان وأغلب العرب ما زال يقرأ في الكتب القديمة، وما زالت بذهن هؤلاء لازمة مبادئ ويلسون الأربعة عشر، وحمائية روزفلت وميثاقه الأطلسي، ومبادئ مونرو في الرسالة التي سلمها للكونغرس الأميركي عام 1823 بضمان استقلال كلّ دول نصف الكرة الغربي ضدّ التدخل الأوروبي بغرض اضطهادهم أو التدخل في تقرير مصيرهم، ولا زالت عقد النقص الذاتية تلازم الأغلبية العربية وبعض اللبنانيين لناحية قدرة التفوّق الأميركي الدائمة على العالم وسيطرة الصهاينة ودولتهم المزعومة التي لا تقهر، ترافقهم أوهام أبدية لفشلهم في أيّ انتصار، لذلك هم شكلوا وكانوا من ضمن فريق أدوات الاستعمار بملء أرادتهم لتنفيذ سياسات وأوامر الغرب والمزايدة عليها أكثر من دون أن يطلب منهم ذلك حتى. فهذه هي عقد النقص والخوف والانهزام، فهي سلسلة متصلة من حلقات تدور حول نفسها ولا تخرج إلا بنصف موقف ونصف كرامة وكلّ هزيمة، فهذا لا معنى له في سبيل تقدّم الدول ونموها وتحرّرها، إنها السياسات العقيمة التي لا تنتج…
لم تخرج المقاومة في لبنان بنصف انتصار، ولم تتعمّم تجربتها بأنصاف المواقف، ولم تصمد سورية بشبه تسوية ونصف قبول بالواقع الإرهابي البائس أو بنصف الموقف من الصهاينة واحتلالاتهم، فكانت مواقف سورية وصمودها كاملاً وحافظت على سيادتها وقرارها غير منقوص، وهذا ما فعلته إيران بعدم التسليم للأميركي ولا ببوصة واحدة من سيادتها وممارسة استقلاليتها سواء اختلفنا معها أم لم نختلف، ومع هذا الواقع بدأت تتوسع دائرة حركات التحرّر عالمياً رفضاً لأنموذج الاستعمار الغربي الأميركي القبيح، ومعه العنصرية الصهيونية في «إسرائيل»، حتى الاستعمار الكلاسيكي في أوروبا فقد ضجر من هذا الاستتباع والاستلحاق بالأميركي وبسياساته، وبات يخط مساره وحده باستقلالية تامة، إنه منطق المسؤولية السياسية التي تحتمها إدارة الدول وتحقيق مصالح الشعوب وأمنها وسلمها الأهلي. فالمبادرة الأولى أو الخطوة الأولى على هذا المسار الاستقلالي ستكون كفيلة بإنهاء ما تبقى من صعاب لاستعادة زمام القرار السياسي الحر، ربما لم يجرؤ بعد رئيس الحكومة في لبنان على اتخاذها، لأنّ الموروث التاريخي والسياسي الذي يأسره سيأخذ مداه الزمني أكثر، عسى ألا يطول إلا بإرادة حية صلبة تتخذ من نهج المقاومين في لبنان والعالم مثالاً يحتذى كي لا يبقى الحلقة الأضعف في مسيرة الشعوب التحررية.
أستاذ في العلوم السياسية والعلاقات الدولية.