روسيا حليف وليست بلداً عربياً
د. وفيق إبراهيم
يحتاج الموقف الروسي في سورية إلى قراءة متأنية وشاملة، لتفسير بعض اتجاهاته التي تتناقض في كثير من الأحوال مع مسلمات تاريخية يتمسك بها السوريون وإيران وبعض فلسطين ولبنان لناحية الكيان الإسرائيلي المرفوض منهم بالجملة والتفصيل.
من جهتها روسيا تعتبر أن لا شأن لها بهذا الأمر فسلفها السوفياتي كان أول دولة تعترف بـ»إسرائيل» في 1948، ومع تشكل روسيا الحديثة الرأسمالية البراغماتية، ازدادت علاقاتها في مختلف الاتجاهات، فلم تعد هناك ايديولوجية مانعة، أو مشروع معادٍ للإمبريالية.
ما تريده روسيا اليوم، هو استعادة موقعها الدولي الأساسي إلى جانب الولايات المتحدة الأميركية أو على مقربة نسبية منها، مع أخذها بعين الاعتبار للفوارق الكبيرة في القوة الهائلة للاقتصاد الأميركي مقابل تراجع الاقتصاد الروسي المرتكز على النفط والغاز.
تتوجّب إذاً قراءة الموقف الروسي من زوايا عدة، الأولى أنّ روسيا ليست اتحاداً سوفياتياً يعمل من أجل ايديولوجيا كونية، والثانية أن لا محظورات تمنع روسيا من فتح قنوات اتصال وتفاهم مع كلّ ما ترى فيه ضرورة لصعودها أو هاماً فتعمل على تحييده من أمام حركة انطلاقها. والثالثة انّ صراعها مع الأميركيين لا يتطلب دفع التنافس الدولي الى حرب عالمية ثالثة.
أما الرابعة فتعتبر روسيا نفسها متحرّرة من تبعات كلّ الصراعات الدولية القديمة ومنها الصراع العربي الإسرائيلي. لذلك تفضل التعامل مع كلّ نزاع حسب مصلحتها وما يتعلق به من دون أيّ محظورات أو أحلاف ومحاور قديمة.
فالأزمة السورية هي سورية أولاً تسيطر عليها الدولة السورية، لكنها تجابه إرهاباً عالميّ الأبعاد مع التدخل الأميركي والإسرائيلي والخليجي والأردني. هذا إلى جانب إيران وروسيا نفسها، وأوروبا..
فهل كان يجب على القيادة الروسية فتح حرب على كلّ هؤلاء؟ علماً أنها لو فعلت لما كان بإمكانها أن تفوز بها، خصوصاً أنّ التعامل مع كلّ هؤلاء شديد الكلفة على مشروعها. كما أنها تعرف أنّ إمساك الأميركي بكلّ شيء لا يعني استبعاد مشاريع جزئية للأتراك و»الإسرائيليين» ومجمل الآخرين.
لذلك اتفقت موسكو مع الدولة السورية على تحديد «غرب الفرات» مدى مناسباً لضرب الإرهاب، وبالتالي داعميه في مراحل لاحقة.. ما يؤدّي الى تمدّد الدولة السورية على 65 في المئة من مساحة البلاد.. فتزداد قوة ورسوخاً وتتقلص المشاريع السياسية الرامية إلى إسقاط الدولة ورئيسها.
وهذا ما حصل مؤدّياً إلى انسحاب أردني كامل وأميركي وأوروبي نسبي.. وتراجع كبير في الدور الإسرائيلي.. وحدها تركيا استفادت من عاملين اثنين لاحتلال أراضٍ سورية، وهما الجوار المباشر لسورية ورعايتها للاخوان المسلمين والتركمان السوريين وإمساكها ببعض الخلايا الإرهابية في حراس الدين وفيلق الرحمن والنصرة.
وهكذا نقل التحالف السوري ـ الروسي – الإيراني الحرب من حرب عالمية على الدولة السورية، إلى حرب سورية، روسية إيرانية على التورّط الأميركي ـ الكردي شرقي الفرات واحتلال تركي إرهابي في الشمال والشمال الغربي.
لقد أفرزت هذه المعادلة الجديدة، تعميقاً للتفاهمات الروسية مع «إسرائيل» وتركيا، وكان من الملاحظ ما تروّجه موسكو عن سيطرة الدولة السورية على 90 في المئة من أراضيها ولا تقترب من شرق الفرات إلا حين تتعقد مفاوضاتها مع الأميركيين لتفكيك قاعدتهم في التنف غرب الحدود الأردنية ـ السورية.
لذلك من المرجح أن تكون لقاءات الرئيسين الروسي والأميركي بوتين وترامب، توصلت في وقت سابق الى ضرورة التفاوض حول شرق الفرات بديلاً من الحرب بين الطرفين.
وهذه «واحدة» جديدة تضاف الى شيء من التصرف الروسي المستقلّ من مصالح الدولة السورية.
كما أنها لم تتجه إلى وضع حدّ لمراوغات الأتراك حول موضوع إدلب.. فآثرت الاستمرار في تفاهمات مع أنقرة امتدّت لتشمل تأسيس علاقات اقتصادية بين الطرفين تصل إلى مئة مليار دولار سنوياً بينها أهمّ خط لنقل الغاز من روسيا الى تركيا فأوروبا.. الا تفسِّر هذه العلاقات الاقتصادية بين الطرفين صمت الروس عن مراوغات الأتراك في سورية؟
لذلك تظهر البراغماتية الروسية بوضوح في علاقات عميقة مع الكيان الإسرائيلي وتركيا مع تفاهمات غير معروفة من الأميركيين ودخول في صراع غير مكشوف مع الدور الإيراني في سورية، الأمر الذي عكس إصراراً روسياً على التموضع العميق في غربي سورية بكامله، وإرجاء المختلف عليه إلى مراحل لاحقة.
فالغرب السوري يوفر لموسكو منصة الانطلاق نحو شرق أوسط ليس معادياً لها، والدليل علاقاتها العميقة بالسعودية وقطر وتركيا وإيران أيضاً، وصولاً إلى أميركا الجنوبية، وهي بصدد التوغل في اتحاد عالمية أخرى.
هذا ما يفرض على روسيا دراسة عميقة لمجمل خطواتها ومواقفها، فهي تستعمل سلاحها المتقدم لإقناع منافسيها بضرورة التنسيق معها وليس للقضاء عليهم.
كما تدخل في النزاعات الدولية من دون أية أبعاد ايديولوجية وتعترف بالدول كافة من دون تأثير تاريخي قديم من النزاع.
بالنتيجة فهي تتحالف مع دول أخرى لتحقيق مصلحتين مترابطتين، مصلحتها أولاً ومصلحة الحلفاء هي التالية، لعلّ هذا ما يجيب على كلّ المتعاملين مع الروس أن يدركوه، فقد تتجرأ موسكو نفسها على سؤال منتقديها: لماذا يرفضون تفاهماتها مع «إسرائيل» أو الأميركيين وتركيا فيما ترتمي الدول العربية في أحضان الأميركيين والإسرائيليين معاً ومن دون أي مساءلة؟
يتبيّن بالإيجاز انّ روسيا «السورية» تمرحل خطتها تدريجياً انطلاقاً من تأمين تموضع كبير وقوي للدولة السورية، بما يؤدّي إلى إقناع الأطراف الإسرائيلية والأميركية والتركية خسارتهم في مشروع تفتيتها، وإجبارهم على بناء تفاهمات حول هذا الموضوع مع القيادة الروسية حصراً.
إنّ هذا التخطيط يؤدّي طبيعياً إلى تعارض مع الدور الإيراني الذي يريد الاستمرار في القتال لأنّ المعركة مع الأميركيين حسب رأيهم، هي حرب محور سوري إيراني مع حزب الله لإنهاء النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط وفك الحصار على إيران.
هذا نوع من التعارض، لكنه لا يؤدّي الى صدام إيراني روسي، فهناك إمكانية لتعميق التحالف الإيراني الروسي لأنّ العدو الأميركي الاساسي مشترك.
ضمن هذه التفاهمات يجب تحليل خطوة موسكو بإعادة رفات جندي إسرائيلي من مخيم اليرموك في سورية الى «إسرائيل».. لا شك في أنها خطوة سيئة سورياً وعربياً، لكنها ليست كذلك بالنسبة للمشروع الروسي الذي كانت تتوجّب عليه دراسة الأبعاد السلبية لهذه الخطوة، وهذا لا يمنع من القول إنها أقلّ سوءاً من العلاقات البحرينية الإماراتية السعودية الفلسطينية، العثمانية الأردنية مع العدو الإسرائيلي.
وهذا ما يؤكد على أنّ المشروع الروسي غير قابل للتخلي عن سورية «الأسد» وله مصلحة في التحالف مع إيران في إطار صراع غير حربي «إلا عند اللزوم» مع النفوذ الأميركي، ولا شك في أنّ التحالف لا يعني أبداً الانسجام الكامل وإلا فما وجه الضرورة إليه؟
هذا منطق التاريخ الذي يكشف أنّ سورية المستقلة والقوية هي الطريق إلى شرق أوسط بعيد عن النفوذ الأميركي ويتمتع بتحالفات متوازنة مع إيران إلى روسيا.