حدود المقبول والمرفوض في الصداقات من باب صفقة رفات القتيل «الإسرائيلي»
العميد د. أمين محمد حطيط
لم يكن وقع العمل الذي قامت به روسيا وسلّمت بمقتضاه رفات العسكري «الإسرائيلي» القتيل في معركة السلطان يعقوب إلى العدو «الإسرائيلي»، لم يكن وقع هذا العمل سهلاً لدى المعنيين بالشأن من محور المقاومة عامة ومن سورية خاصة، حيث نظروا اليه بسلبية كبرى جعلت البعض في حال الصدمة والذهول والتساؤل عن خلفية ما جرى وكيف انّ روسيا «لم تقم وزناً لمشاعر السوريين ومكونات محور المقاومة»، وجعلت آخرين يطرحون الأسئلة حول الثمن الذي تقاضته روسيا في مقابل فعلتها، أما البعض الآخر فقد تطرّف ليطرح السؤال عن مستقبل العلاقة بين محور المقاومة وروسيا؟
بموضوعية نقول انّ مقاربة هذا الشأن يجب أن تتمّ انطلاقاً من طبيعة العلاقة بين روسيا ومحور المقاومة من جهة و»إسرائيل» من جهة ثانية، ثم يجب ان نفهم هذه الطبيعة انطلاقاً من فهم سابق مفروض يتصل بطبيعة العلاقات الدولية وكيفية إرسائها وممارستها، فروسيا ليست جزءاً من محور المقاومة، وليست عدواً لـ «إسرائيل»، وليست معنية في علاقتها مع الطرفين إلا بالقدر الذي يحفظ لها هذه العلاقة بما يخدم مصالحها الوطنية، فأمر العلاقات بين الدول يختلف عن طبيعتها بين البشر والعلاقات الإنسانية، وعبارة صديق عدوي عدوي لا تستقيم في فهم العلاقات الدولية…
ويكون مخطئاً برأينا من يحاول ان يفسّر العلاقات الدولية على ضوء العلاقات الإنسانية الفردية والشخصية أو حتى الاجتماعية العامة، ويستسهل إسقاط تلك المفاهيم الإنسانية خاصة ما يتصل بقواعد المبادئ والأخلاق وفيه الحب والكره والمثل العليا ومن يحاول إسقاطه على العلاقات بين الدول وعلى سلوكيات الدول وتعاملها في ما بينها، ويكون أمره في منتهى الغرابة والبعد عن الواقعية.
فالحقيقة وطبيعة الأمور هي انّ هناك خلافاً جوهرياً بين المنظومتين: منظومة العلاقات الدولية ومنظومة العلاقات الإنسانية ومردّ ذلك عائد إلى مسألة جوهرية انّ الإنسان يملك نفسه وأحاسيسه ومشاعره وهو حر في كيفية ممارستها وتوجيهها، بينما لا يملك الحاكم أو المسؤول الدولة بل يديرها ويقلب أمورها من أجل أن يحفظها ويؤمّن مصالحها بصرف النظر عن الجهة التي تكون لديها تلك المصلحة.
وفي العلاقات الإنسانية يكون التصرف تصرف المالك بملكه، وفي العلاقات الدولية يكون التصرف تصرف الأمين أو المدير المؤتمن على ما وضع بتصرفه وأنيطت به إدارته أو ائتُمن عليه، وفي الأولى يكون الإنسان حراً في التنازل والقبول أو الرفض وفقاً لما تمليه عليه مشاعره ورغباته الشخصية، بينما لا يملك رجل الدولة والمسؤول في العلاقات الدولية هامش حركة واسع في أعمال مشاعره وأحاسيسه ومبادئ الأخلاق بشكل عام إذا كانت المسألة تمسّ مصلحة وطنية، ولهذا قيل لا عداوة دائمة بين الدول ولا صداقات دائمة بينها بل مصالح دائمة، بينما نجد في العلاقات الإنسانية إمكانية أبدية العداء أو الصداقة بصرف النظر عن المصلحة والخسارة، وانّ أكبر خطر يحدق بالدولة يتجلى في المزج بين المصالح الوطنية والمشاعر الشخصية وهو السلوك المألوف لدى الدول المتخلفة حيث يدمج المسؤول مصالح الدولة الوطنية بمشاعره وأحاسيسه الخاصة ويجعل عدواً للدولة الشخص الذي يحكم الدولة الأخرى الذي هو على عداء معه ثم تنسحب العداوة لتشمل الدولتين، والمثل الأقرب لنا هو ما جرى بين لبنان وسورية منذ العام 2005 وما استتبع هذا من إهدار للمصالح الوطنية اللبنانية لا يزال مستمراً نظراً لتعنّت بعض من هو مسؤول في لبنان ومزجه لمشاعره وأهوائه بالمصالح الوطنية.
أما لدى الدول المتقدّمة فالأمر على خلاف ذلك كلياً، حيث ينظر إلى العلاقة بين الدول من باب جملة المصالح الوطنية التي تؤثر فيها تلك العلاقات سلباً أو إيجاباً فمشاعر الحاكم وعلاقاته الشخصية يجب أن تبقى بعيدة عن المصالح الوطنية، ولهذا أرسيت في العلاقات الدولية نظرية إلزام الخلف بما يعقده السلف من اتفاقات لأنّ الشخص يتغيّر والمصلحة الوطنية تستمرّ، قاعدة فرضتها نظرية أصولية سبقتها تقوم على وجوب الاستقرار في العلاقات الدولية استقراراً يلزم الدولة بكلّ ما التزمت به رغم تغيّر أشخاص الحكام او حتى تغيّر الأنظمة برمّتها او تغيّر الوضع القانوني للدولة كلياً.
بعد هذا التوضيح نطلّ على علاقة روسيا بسورية وكامل محور المقاومة حيث نجد انّ روسيا ليست عضواً من مكونات هذا المحور بل انّ هناك مصالح مشتركة جمعت بين روسيا من جهة وكلّ من سورية وإيران وحزب الله من جهة أخرى، مصالح أمكن تلخيصها يومها بأمور ثلاثة: الأول مواجهة الإرهاب الدولي الذي هدّد الجميع انطلاقاً من سورية هدّدهم في الأمن والمصالح الذاتية حيث رأت روسيا ولا زالت انّ مفتاح الأمن في موسكو قائم في خزائن دمشق، أما الثاني فكان مصلحة مشتركة في المحافظة على وحدة الدول واستقرار أنظمتها ومنع التغيير السياسي بالقوة، والمصلحة الثالثة كانت ولا زالت تتمثل في كسر احتكار أميركا للقيادة العالمية ومنع تشكل النظام العالمي الأحادي القطبية الذي يطيح بالحريات والسيادة والقرار المستقلّ للدول.
هذه المصالح هي التي جعلت محور المقاومة وخاصة سورية تلتمس المساعدة من روسيا لتعزز قدراتها في مواجهة العدوان الذي شنّ عليها بقيادة أميركا وتوسل الإرهاب الدولي وتوخى إسقاط الدولة واستباحة المنطقة لتكون النواة التي يبنى عليها النظام الأحادي القطبية بقيادة أميركية.
وعندما استجابت روسيا للطلب السوري فإنها أيضاً كانت تبتغي تحقيق مصالحها الثلاث تلك ولكن مصالح روسية الوطنية والدولية والاستراتيجية لا تنحصر في ما تقدّم بل هناك مصالح تجمعها مع «إسرائيل» كما هناك مصالح تجمعها مع تركيا، وهما الدولتان المنخرطتان في العدوان على سورية بشكل متعدّد الوجوه والأساليب، وهنا لم يكن وعد من روسيا ولم يكن توقع من سورية ان تقدم روسيا على معاداة «إسرائيل» أو القطيعة معها أو مع تركيا بحجة انّ الدولتين تمارسان العدوان على الدولة التي جاءت لنجدتها، فروسيا مع سورية لتحقيق جزء من مصالحها، وروسيا تحفظ العلاقة مع آخرين ومنهم «إسرائيل» لتحقيق جزء آخر من المصالح، واذا أبقت على العلاقة مع الطرفين فإنّ حجم المصالح المتحققة تكون أكبر بكثير من حجم المصالح التي تؤمّن من باب إحدى الدولتين. لكن المحظور في هذا النطاق هو أن تتحقق المصالح مع طرف ما على حساب الحقوق مادية كانت او معنوية للطرف الآخر، الذي يعتبر عدواً للطرف الأول، وهنا يكون الوجه المعترض عليه.
إذن بمنطق المصالح كماً ونوعاً يجب ان نفهم السلوكيات الدولية، ولا يمكن ان نخيّر الدولة بيننا وبين عدونا خاصة إذا كنا في وضع يلزمنا بالإبقاء على علاقة مع هذه الدولة لتأمين بعض مصالحنا التي لا تؤمّن من طريق آخر. فروسيا توفر الآن لسورية غطاءً دولياً في مجلس الأمن، ودعماً عسكرياً قتالياً ونارياً في الميدان في مواجهة الإرهاب، فضلاً عن كونها أحد مصادر الأسلحة لتسليح الجيش السوري، لا نقول هذا من أجل التخفيف من وقع «الهدية الروسية لإسرائيل»، الهدية التي كنا نتمنى ألا تحصل نظراً لما أحدثته من ألم، ولكن حصولها يجب ان لا يوتر العلاقات مع روسيا ولا يضع علامات استفهام حول العلاقة معها. فروسيا حليف في ملفات لنا وصديق او أكثر لـ «إسرائيل» في ملفات أخرى، وإذا كنا نريد ان نبعد روسيا عن «إسرائيل» فيجب ان نوفر لها في دوائرنا البديل من المصالح، والتي منها سيطرة اليهود الروس على قطاعي المال والإعلام في روسيا وقدرة اللوبي اليهودي في أميركا على التأثير على العلاقة بين روسيا وأميركا، وهي العلاقة التي تحتاجها روسيا من أجل اقتصادها، فضلاً عن انّ روسيا الساعية لاستعادة موقعها كدولة عظمى من الصف الأول تحتاج اليوم لتحقيق هدفها إلى أكبر قدر من التحالفات والصداقات القائمة على مصالح عميقة، فالهدية المشكو منها لا يمكن ان تكون من غير مقابل فالمنطق يقول إنها جزء من صفقة أعلن بعضها وستر الباقي. صفقة يكون مبرّر لروسيا عقدها لتأمين مصالح لها، لكن غير المقبول فيها يتجسّد في كونها تتمّ على حساب مصلحة الحليف، وهنا الوجه المرفوض منها، فلروسيا ان تتصرف كما تشاء دون المسّ بحقوق الآخرين وهنا نتحدث عن حق مركب وليس مجرد إحساس وشعور.
اننا نقول انّ صداقتنا مع روسيا او غيرها من الدول العظمى او أقل من ذلك، لا تعني مصادرة القرار الروسي أو قرار الأخرين، لكن يجب ان يكون التعامل بالمثل ونقول انّ صداقة روسيا او غيرها لنا يجب ان لا تعطي أحداً الحق بتجاوز حقوقنا وقرارنا المستقلّ او كرامتنا الوطنية، فإذا حصل شيء من هذا ووقع تجاوز فتجب ان تكون المعالجة انطلاقاً من أمرين، الأول الحرص على الحقوق والسيادة والثاني الحرص على الصداقة والعلاقة والعمل المشترك لتحقيق المصالح المشتركة التي تجمعنا، وأعتقد انّ ما صدر من إعلان رافق الصفقة او تبعها يفسّر هذا الأمر.
أستاذ جامعي ـ باحث استراتيجي