ملامح ولادة المسرح العربي بين مصر وسورية ولبنان في الذكرى السنوية للمسرح العالمي
حسام محيي الدين
يرتدي المسرح العربي حلّة متجددة كلما تقادمت الأيام، ويندفعُ مؤزّراً بشخصيات مسرحيّة هامة في التأليف والإخراج والتمثيل كرؤية فنية واعية موائمة لطبيعة المناخ السياسي والاجتماعي القائم والذي تدور حوله بالضرورة نتاجات المسرح الحالي. وهذا جِدُّ مُجْدٍ بعد المراحل التاريخية التي قطعها المسرح العربي منذ عصر النهضة في القرن التاسع عشر وحتى يومنا، بل بالتحديد منذ منتصف ذلك القرن حيث ظهرت ملامح هوية عربية مسرحية انطلقت من لبنان مع المسرحي والمؤلّف المخضرم اللبناني مارون النقاش 1817 1855 الذي استغل مهنته كتاجر وجاب في أوروبا وبالتحديد ايطاليا مطلعاً على الفنّ المسرحي فيها عياناً ومتأثراً به لا شكّ، وهو ما تجسّد لدى عودته إلى لبنان في المسرحية الشعرية العربية الأولى التي ألّفها ومثلها النقاش في بيته في بيروت عام 1848 بعنوان «البخيل» التي حاكى فيها مسرحية موليير الشهيرة «L avare» والتي بدَتْ فيها موهبته الحقة تلتها اعمال أخرى، تأثّر فيها بالمسرح الغربي ولكنه ألبسها الزيّ العربي لغةً ومواءمةً
مع الذوق العام وقتذاك. بعد وفاة مارون النقاش اقتصر النشاط المسرحي في لبنان على حفلات المدارس والإرساليات والمعاهد العلمية في لبنان فانتقل النشاط المسرحي الى مصر، وسافر اليها سليم النقاش ابن أخ مارون وغيره من أبناء وطنه كيوسف الخيّاط، وسليمان القرداحي واسكندر فرح، الذين ألّفوا الفرق المسرحية وقدّموا عروضاً كثيرة جلّها في القاهرة لحقهم أيضاً من لبنان فرح أنطون الذي كان ناقداً ومسرحياً في آن معاً، إلى جورج أبيض اللبناني أيضاً الذي أرسله الخديوي آنذاك الى فرنسا للتعلّم ونقل الفنّ المسرحي إلى مصر، وهو ما حصل فعلاً فكان جورج أبيض كما يقول الدكتور علي الراعي «أول ممثل عربي يتلقى فنون التمثيل بطريقة علمية على يد فنان فرنسي كبير هو سليفان».
أما النصوص التي اعتمدت آنذاك فهي في غالبيتها المترجمة عن الفرنسية، مع بعض النصوص التي تناولت التاريخ العربي، لكنها جميعها انصبّت على الجانب الأخلاقي التربوي في تمجيد الأمة وأبطالها والتعلّق بمآثرها.
بعد هذا العرض الوجيز الذي افتتحناه بمارون النقاش الذي ولد المسرح على
يديه في لبنان والذي اعتمد النصّ الأدبي كأساس في نجاح اللحظة المسرحيّة في
حينه، لا بدّ من الانتقال إلى أحمد أبو خليل القباني 1833 1903 في سورية الذي بدأ نشاطه بعد سنوات من وفاة النقاش وطرْقِه باب المسرح العربي، فقدّم في دمشق العام 1871 مسرحية «الشيخ وضاح ومصباح وقوت الأرواح» ثم عرض مسرحيّات أخرى عديدة قبل أن ينتقل أيضاً إلى مصر لمتابعة نشاطه المسرحي هناك مع فرقته المسرحية الخاصة، دون اعتماد وتفضيل النصّ الأدبي كالنقاش بل مؤثراً الغناء والرقص لإنجاح المسرحية في مواقفها التي طغت عليها الكوميديا بشكل عام، فضلاً عن القصص والسير الشعبية وبعض النصوص التي اقتبسها عن الأتراك، وهو وإن جاء مسرحه أضعف نصّاً من نصوص النقاش إلا أنه فتح الطريق أمام العمل المسرحي الشعبي الساخر والناقد رقصاً وانشاداً وموسيقى ولم يتأخر في اللحاق بنشاط المسرحيّين اللبنانيين الذين سبقوه إلى أرض الكنانة عارضين ما في جعبتهم الفنية المسرحية على الملأ.
ويبقى إلى النقاش والقباني المُبدع يعقوب صنوع 1839 1912 المصري
المولد والمنشأ الذي تهيّأت له الظروف فسافر إلى أوروبا وعاين المسرح
كنظيره النقاش سابقاً، ثم عاد إلى مصر وقام بتأسيس فرقة مسرحية كأقرانه
الذين سبقوه وعاصروه، وعرض أعماله التي وصل عددها إلى اثنتين وثلاثين
مسرحية، معتمداً فيها الأوبريت لأول مرة، ولكنه اصطدم بعد نشاط كبير
بالخديوي الذي اعتبر بعض مسرحياته ضدّ السلطة وقتذاك، فتوقف نشاطه وانتقل
الى باريس وتوفي فيها بعد أن عاش فيها سنوات طويلة ناشطاً أدبياً وسياسياً.
إنّ الرواد الثلاثة مارون النقاش وأبو خليل القباني ويعقوب صنوع هم وبشبه
إجماع الباحثين الثالوث أو «الترويكا» العربية المُبدعة التي قام عليها المسرح العربي منذ منتصف القرن التاسع عشر، فشكّلوا بالتوازي زمنياً ومكانياً وفكرياً تأصيل وريادة الفكرة المسرحية العربية الحديثة:
الأول في مسرحه الجاد المؤسس على النصّ الأدبي، والثاني في مسرحه النقدي الشعبي الكوميدي، والثالث في مسرحه الأوبرالي الغنائي. وهي أنماط ثلاثة وإن تأثّرت بالفكرة الغربية للمسرح وبالنصوص المقتبسة إلى حدٍّ كبير من إبداعات الفرنسيين والإيطاليين وغيرهم إلا أنها رسّختْ أسُس اكتمال فنّ أدبي لا يزال يشكّل الوجه الحضاري للتاريخ العربي في الأدب والدراما، دون إغفال توالي العمل المسرحيّ الخالص تأليفاً وتجسيداً في ما بعد مع تطور مراحل التاريخ المسرحي العربي حتى اليوم، ودون التغاضي عن النشاط المسرحي العربي العام بعد ذلك والذي نشأ وتطور في البلدان العربية الأخرى ولكن بعد عقود طويلة من ولادته في مصر وسورية ولبنان.