قراءة في «موعِد للفراق» لحسام أبو العِلا… كلمات تُزخرف بِسَهم ليزري أفق فِكر المُتلقي
د. فايزة حلمي
كلمات تسْكب حروفها في مجْرَى القلوب، ماء نهْر بمذاق بَحَرِي، كلمات تُزَخرف بِسَهم ليزري لوحة بأفق فِكر المُتَلقي، لضحكة حُب مُطفَأة المصابيح، كلمات تُجَسّد مَنحوتة رُوُح.. وشميّة الأثر، تغفو لمَدَى سرْمَديّ على أريكة الآلام، ببساطة لأنّها كلمات تحْمِل خيالنا مُحَلّقا لأبْعَد سماء على أجنحة «مَوْعِد».. لتتهاوى أحلامَنا في عُمْق بئر اكتشافنا إنّه.. «للفِراق»!!..
«مَوْعِد للفِراق» عنوان آسر لطيور الأفكار المُحَلّقَة فوْق ضِفاف الأرواح، لتُنَظم أسرابَها وتوزّع الأحاجي عليهم لِفَك أكواد المعنى، عنوان له جَرْس مُوُجِع الصّدَى فوق رؤوس الأحرف، عنوان يخبئ الحَكايَا بِكَف الأسطر، فيغوي القارئ بِفَك أحْرَازها.
هذه براعة الكاتب في غَرْس نبْتة اللهفة السحريّة لدَى القارئ، والتي سرعان ما تمتد أغصانها بشرايين روحه الظامئة للحياة.. بقطرات مَعْرِفة سِر هذا المَوْعِد، المقطوفة ساعاته مِن شجرة الأيام، فكان السعي، لتَلَمّس الفَهْم بأعْلَى مُرتفعات المعاني، لِذا كان خَطْو العَيْن والفِكْر… وَثْبَاً.. نحو أبواب اليقين.
الإهداء: «لا نتخيّل الحياة دُوُنهم، هُم هواء نَتَنفّسه ورُوح نَتَعلّق بها، وجِسر للأمان، ونَهر للحنان، هؤلاء يَحْتلّون المساحة الكُبْرى في حَنَايا القلب، ويَسْكنون مشاعِرنا وأحاسيسنا. يَرحلون وبِرِفْقتهم أجمل الذكريات، يأخذون الفَرْح، ويتركون الجرْح، لأنّهم نسخة واحدة في العُمْر لا تتكرّر».
الإهداء رسائل غَيْر مُعَنونة، لِكل مَن فَقَدَ تفاصيل حياة، وتَوقّف قلبه في محطّات السكون، وأوْقَد شموع ذكريات تُضاء بها الأحلام، وسَكَب الغَفْو بأوردة الحَنين، ورَمّم جِدار الوقت المُعَلّقة عليه لَحَظات ما زالت نابضة، وخَبّأ الألَم بمحارات المشاعِر.
الإهداء سَقىَ، بفَيْض غَيْم الأحزان، نبتات مَنْثور الفَرْح المَكسور، وأقام بأحرف الجروح، طقوس حِداد بطُرُقات المغادرين رَغْمَاً، بتراتيل تلتحِف بدفء الراحلين، تَسْتَجْديهم.. بقاءً… لأنّهم.. نُسْخَة غَيْر قابلة للتكرار.
«مَوْعِد للفِرَاق»، دون تمهيد، جَذبنا الكاتب، مباشرة إلى رصيف الأحداث، ليصافحنا صقيع الهواء المُنْدَفع مِن شبابيك الذكريات بقطار رحلته، لِفائق سرعته، وليُوُقِظ الغَفو مِنّا، بصافرة الأحداث، وليمْتَلك بإحْكام قَبْضِة سَرْدِه…. خيوط انتباهنا، فاستهلّ القصة «فَرَكت عَيْني بِقُوة، هل هذا اتصال مِنها، أم جاء بالخطأ؟!
وكأن الكاتب برنين الهاتف وتساؤله، يحاول أن يستجدي اليقظة مِنّا، ليُسانِد عليها سيقان الزمن الماضي والآني المُلْتَفّة على بعضها البعض، في محاولة خيال الكاتب أن يتسَلّق جِدار الحلم، ليقتطف بعض الثمار التي جَفّت على أغصان الذّكرى، لِعَلّ بها بعض بذور ما زالت صالحة للإنبات.
كاتبنا استطاع بهندسة معمارية، أن يُشَيّد بأبجديّته، بناء متكامل مِن جُمَل قصيرة مُنْبِئَة، تُطلِعنا على فِتنة الماضي «ليست بِصَوْتها الناعِم، ولا إحساسها المتدَفّق شَوْقاً، ولا بأنْفاسِها المُلتَهِبة بحرارة الحُبّ، وقسوة الحاضِر، رَحَلت إلى إحْدَى المُدن السّاحِليّة، وغموض المُسْتَقبل، طالَبَت برؤْيَتي غداً في المكان نفسه الذي كُنّا نَلتَقي فيه، وأشعل شمعات سعادة، تُنير درجات سلّم الوقت المُنساب نحو اللقاء المجهولة أحداثه، أبَت عيناي أن تُغْمِضا، كان بجواري بدلة جديدة، تَعَطّرْت، تَأكّدْت مِن أناقة هندامي، ذهَبْت قَبْل الموعد بساعة.
لَمَعَت شمس تساؤلاته «هل تغيّرت ملامحها؟» على سطح نهر ذكرياته المُرْتَحِل لمنابعه المُتَشعّبة»، سبعة أعوام لم أرها، كانت تطمئنني على أحوالها، يفصل بين الرسالتين أكثر مِن عام، لم أنسها، غضب أبي وأمي لرفضي الزواج، ليلتقِط تفاصيل هاربة في دوّامات الزمن المُخَبّأ بمغارات الحنين.
كاتبنا أراد للمُتلقّي أن يحتفي معه بمحبوبته المُرتحلة عِطراً دافئاً في شرايينه، فصحِبه في سفينة أبجديّته، وأدارها ببراعة في موجِزات متتالية، «تتهادى مثل الفراشة، صارت أجمل رغم رحيل زوجها، لَم تتجاوز 35 مِن عمرها، اخترقت قلبي بسَهم ابتسامتها»، ثم، ببراعة فنان، رَسَم لوحة كمُقْتَنى بذهن قارئه يغلق أبواب تساؤلاته، «حاولت تبرير غيابها، بظروفها القاسية، بتحمّل مسؤوليّة طفلين بعد وفاة زوجها، الأطماع التي تحاصرها».
كاميرا مبدعنا مُحترفة اللقطات، فداخل الاستفهام الجليدي منها، «لماذا لم تتزوّج»، أخْفي حريق شوقه، محاولاً أن يلف ألسنة اللهب داخل أيس كريم ملوّن المذاق، «لماذا طلبتِ رؤيتي بعد كل هذه السّنوات؟». ولأن كاتبنا مُتعايش مع قارئه، كأنه يستمع لخطوات فِكرِه تُسابق الكلمات، فآثر أن يُولِم له الأطباق الرئيسيّة مباشرة، دونما فواتح شهيّة، لا يحتاجها مَن يقرأ لكاتبنا جاءت كلماتها كَطَعَنة نافذة، كانت تَشرد وتنظر لساعة يدها، لاحظت استيائي لعدم تركيزها في كلامي، قَصّت تفاصيل مؤلِمة عن حياتها مع زوج قاس.
فَتّح الكاتب أمامَنا حقائب بطلته المملوءة بالخواء، بعد حديث عَمّق جِراحي، لم تتذكّر أي ذِكرى جميلة، أو تُبْدِ تقديراً لحبّنا الكبير، فأيْقظ بَطلَه.. مارد الغضب، الذي حَشَد رغبات السنين منزوعة الأنين، ونثرها كزهرات غافية بسرير الأسطر، تضوّع بَوْح ألَمَها كألوان طيفيّة بفضاء روحه، «بعد أن كنت أتمنى أن تطول الساعات، انتظرت أن تطلب الرّحيل، ليست هي مَن أحببتها، قررت تمزيق صفحتها مِن كتاب أيّامي».
كلمات الكاتب تمضي مُثقلة بحمولتها مِن الشكوك المَدموغة باليقين أصررت على توصيلها.. لكنّها رفضت بِشِدّة، أثار موقفها شكوكي، وتمنّى أن تهرب خفافيش ظلام أفكاره بضوء صدقها، تركتها تركب تاكسي، وتتبّعتها، فاصطدم بزجاج المفاجأة التي باغتته، جاءت سيارة ترجّل منها شاب احتضنها، وغَيْر آسف.. مَزّق شرايين ذكرياته وأسال ملامحها على مسارات زمنيّة كانت نِقاط عَلام تعود به لِدِياره بِمَرافئ عينيها، ونثر رَمَاد جثمان أطيافها المُحتَرِقة بقلبه، قرّرت تَمْزيق صفحتها مِن كتاب أيامي وبمخدّر آلامه.. أزال وَشْمَها مِن نسيج أحلامه.
ضَمّت مجموعة « َوْعِد للفِراق»، 24 قصة قصيرة، وإن تباينت مُتناولاتها، غَيْر أن الخَيْط اللامع بِكل الحَكايا، هو الإنسان، نتبيّنه.. وَمْضَة نجميّة بِفضاء الكُون، سواء الراوي، كاتبنا الراصد.. المُلتَحِف وَهج سَرْدِيّته للأحداث، بدِثار السهل الممتنع، لغة وحبكة قصصيّة، يغزل كشهيق واحد متواصل النَفَس بِغير زفير، فيملأ أرواحنا بأكسجين حياة، أو المَرصود..، سواء بطل أو بطلة، مَنْحوتِة مبدعنا فهو يُشكّل كينونتها بعقيق… مِثاليّة البَشَر.
وقد آثرت أن أتناول بالتعليق، القصة التي تَحْمِل المجموعة اسمها، وإن كان كاتبنا بارع الوصول بقارئه إلى يابسة الهّدف دونما غَرَق في دوامة المَحسّنات، يرتاد الطرق بخريطة تُشير بأسهم نورانيّة، لروض عقل مُتلقّي أفكاره، ناثراً به رسائل تُوُرِق مع الأيام، وتُشرِق سنابل فِكر، تُضيء سهوب السنين، ويجالس القارئ دون إثقال بترانيم حضوره، ويغوي الكلمات بحليب الإبداع، لتغفو طواعية بِمَهْد الوجدان، فيُنمّيها داخل أصداف عُمْرِه كلآلئ معرفيّة تشتهيها جِيِد العقول.
مستشارة نفسية وكاتبة/ مصر