إضاءة
مهى عبدالكريم هسي
«كم أحسد المؤمنين الباكين في خشوعهم، والملحدين المرتاحين من رفع رؤوسهم إلى السماء، أمّا أنا فشبيه مركب وسط آكام من الموج، تركه ربّانه وصعد إلى مركب آخر لينفذ بجلده، وتركني أتخبّط بين تلة ومنحدر…»
التلّة الرابضة في الوادي، حيث يتأرجح يوسف بين شجرتَي العمر وهما تتراقصان مع الغيوم والضباب مثل الدراويش، بين أبواب الجنة والجحيم وكأنه يرفض الانصياع للنور الكاشف، لكنه يذهب بالمنطقين الى حد المساواة. ذلك النور الذي يهاب يوسف السؤال عنه والخروج إليه. يوسف المتردّد الذي لا قرار محدّد له في حياته وهذا ما ظهر في صفحات الرواية التي جاء عددها 231 صفحة، والنسر المتردّد في نهاية وادي الغيوم من موت يوسف، فكانت النهاية غامضة مفتوحة على كل الاحتمالات.
علي نسر كما قال على لسان يوسف في روايته الصادرة مؤخراً عن دار المؤلف – بيروت، أنه يكره الدكتاتورية في الرواية والروائيين، كان عادلاً وديمقراطيًّا حقًّاً كما أراد الحياة أن تكون في روايته. فكانت روايته بوليفونية – ديمقراطية متعدّدة الأصوات تعتمد التهجين والمحاكاة والحوار والأسلبة والتكثيف، فقد تركت الحرية للشخصيات للبوح من خلال السرد المشوّق المفعم بالتصوير، فنعيش الأحداث كما لو أنها حقيقية ويتلاعب بذكاء بمشاعر القارئ. وقد أتحدت فيها عن الشخصيات رغم تعدّد وجهات النظر والرؤى الأيديولجية والحوارات الفلسفية والسياسية والدينية والاجتماعية وتركت لنا لذّة للتفكير في جميع الأسئلة والقضايا المطروحة. وتلك كلّها تعبير عن الفكر لدى النسر. فضلاً عن استخدام تقنية الاسترجاع واللغة والمفردات البسيطة المختارة بدقّة وعناية وبالإضافة إلى المفردات البلاغية والتناصّ فجميعها أثرت النص ووسّعت الرموز. ونجده أيضاً يرمي عبارة أو يشير إلى حدث مفتوح على كل التأويلات ليترك للقارئ لذة الاستنتاج. وقد طوّع اللغة العامية أحياناً، كما مزج بين لغات أزمنة متضاربة، بل بين لغة المناقشات الدينية والمواعظ وبين لغة المقاهي والشذوذ ولغة الثقافة والجهل… ومن هنا نلتمس الوحدة الموضوعيّة فلا نستطيع الفصل بين العتبات باعتبارها نصوصاً مجاورة تقف منتصبة شاخصة ما تحمله من دلالات على تخوم النص.
نسر الشاعر الذي لم يخرج عن لغته الشعرية التي كانت تظهر كموسيقى سلسة بين حادثة وأخرى ولم يزح عن مكانته، ويوسف الشاعر العلماني الذي استهلّ به الرواية وهو في أمسية شعرية. الشخصية أو الراوي العبثي المتمرد السكير والمثير للجدل الذي يشبه كامو في الغريب ، يوسف الذي يشبه يوسف النبي في جماله فتستسلم النساء له، والذي يشبه نرسيس في نرجسيّته فيغرق في بئر الأوزار وهو يمسّد شيبته التي يهابها، يوسف الذي ترك له علي نسر حرية الاعتراف بالحاجة الى وجود الأنا الأعلى، فردّ صداه من خلال صلاح النفس اللوامة ليوسف الذي يبحث عن صلاح النفس والذات. وهو المقاوم القديم الذي جسّد مقاومته بشخصية صلاح المقاوم الجديد فقد تعب واعتراه الجرح والألم من المشاهد التي تركت أثراً في نفسه من حيث مشاهد الجثث والصراخ والأنين مذ كان مقاتلاً. فيقول: بينما كنت أترنّح فوق أرجوحة الماضي المقاوم والحاضر المقاوم، ورشقات النبيذ تزيدني انتماء إلى طرفي العلاقة … كل تلك الجراح جعلت منه ذاك الإنسان الثائر على الحياة والله، فنجده يعاتب الله حيناً من خلال تصويره مشاهد البؤس من التسوّل إلى الفقر والحروب والكوارث الطبيعية اقتلاع الخيام وتكسير الأوتاد إلى السيول وزرع الرعب في الأطفال… فيظهر صوت ضميره صلاح الملتزم والمتديّن ليقنعه ويشعره بالذنب حيناً آخر، فيقول: … نخلّص الله من تهمة القتل . تنخطف أنفاسنا وتنهمر الدموع حين نقف عند مشاهد أم يوسف التي شكّلت الحلقة الأقوى المبدّلة للأحداث، ويظهر تقاطع بينها وبين أم صلاح فكانت أم يوسف تؤنّبه وتدعوه للعودة إلى الطريق الصحيح ضاربة المثل بصلاح. فضلاً عن ذلك، كلتاهما تمثلان الأم القروية، والأم التي تخاف على أولادها، والأم الصابرة التي تنتظر ابنها المقاوم. أما صورة الأب فهي متزعزعة، إن كان ذلك من خلال والد صلاح الذي تعرّض للإهانة وقُتل أمامه فشكّل ذلك عقدة نفسيّة لديه أو من خلال والد يوسف الذي اتّهم بقتل ابنته لغسل العار، وهنا نجد تفريق بين ما يدعو الدين إليه وما تدعو إليه عادات المجتمع.
يفاجئنا النسر في تقاطع وادي الغيوم مع رواية أخرى رقص على موسيقى الرصاص يحملها يوسف بشغف ويتنقل النسر بينهما بسلاسة ورشاقة لنكون أمام مدرسة أدبية جديدة وأسلوب جميل ألا وهو رواية داخل رواية. وتظهر بين الروايتين قضية المقاومة ومرحلة نضالية وإضاءة على زمن الهزائم وأسبابها، فيقول: أنت وجلال توأمان، وأنت مَن يعرف قيمة أن يكون المرء مثل صلاح وجلال… . جلال المقاوم الفلسطيني الذي اغتُصبت والدته أو بالأحرى اغتُصب وطنه وهو الذي انتظرته حبيبته وفاء المناضلة الوفية له، ويشكل الفئة المهزومة المستسلمة فغدر بحبيبته واغتصبها انتقاماً لوالدته. ومن هنا يشرّع النسر الباب للحديث عما هو محظور ومستور ولكن دون تجريح، ولم يطرق مواضيع كانت في الظل في بيئة اجتماعية سكونية مكبّلة بتابو المحرّمات بل وعمل على توحيد أصناف شتى من المتناقضات.
وأما وفاء فهي الشخصية التي تعلّق بها يوسف وأعجب بها، وقد ظهر ذلك في مشاهد عدّة، فيقول: فأنا اليتيم الذي لا يعيد له جمال الحياة بعد فقدان الحماة والأحبة سوى امراة مثل وفاء . وكأنه كان يبحث عن الوفاء بسماته المختلفة، فما كان منه إلا أن جسّدها بوفاء: أولاً، الوفاء للوطن والأرض كما ظهر في شخصية وفاء. ثانياً، الوفاء للمقاومة والدفاع عنها ورفضه القاطع لطعنها بالظهر من الداخل. وقد ظهر ذلك من خلال رفضه للتدخل في قضية ماجدة زوجة صديقه صلاح التي لم تكن وفية مع زوجها المقاوم. ثالثاً، الوفاء في العلاقة الزوجية، فقد احتقر أسرار التي كانت تفصح له عن أسرار حياتها الزوجية وعيوب زوجها فرفض الانصياع لطلبها انتقاماً منها لزوجها رغم حبه للنساء و دونجوانيته . الوفاء في الصداقة التي ظهرت بينه وبين صلاح رغم الاختلاف، والوفاء إلى الله رغم عتبه عليه… يوسف الذي كان يلمّح لنا بين الفينة والأخرى عن حنينه لمرام فشوّقنا لمعرفتها حتى تبيّن لنا أنها الحب الأول، رغم أنه كان ساديّاً معها وترك جرحاً في قلبها إلا أنه كان وفيًّا لذكراها. فنغوص معه في حالة من العشق والذكريات المثيرة ليبعدنا قليلاً عن الجو الضبابي السائد.
فمَن هي مرام التي أثارت فضولنا منذ الفصل الأول للرواية؟
مرام المرأة المتزوّجة عادت لتحدثه عن طريق العالم الوهميّ الفايسبوك وثم اختفت فجأة، هي مرام الهدف الذي يودّ الوصول اليه، مرام هي الغاية، وهي الجواب لكل أسئلته، هي الولادة والموت، هي الجرح والطبيب، هي العدل والظلم، هي المحجبة والعارية، وهي الدين والدنيا، هي الماضي والحنين والمستقبل والخوف، هي الحب المفقود والكره السائد، هي الشرف والعرض، هي الأمل والكآبة، هي الجنة والنار فيقول: فتدفّق النيران من مشكاة نهديك يجعلني أحب الموت وأعشق اكتشاف سوط النار في لسعة القناديل . وهي وهم البقاء والأبديّة وهي السؤال الذي لا جواب له…. اللغز الذي يبحث عنه، مرام هي فكرة معبّرة عن الضلال الذي حاول صلاح إبعاده عنه. مرام هي وهم رجل أربعيني مطلّق يرفض الشيخوخة ويدخل في متاهات شاب مراهق يسأل ألف سؤال للوصول إلى وجهة محددة. مراهق يشعر بالوحدة والعدمية والكآبة والملل، رغم تذوقه كل ملذات الحياة فلا يجد متنفّساً سوى التفريغ في دفتره الخاص.
يوسف الذي مات ضميره بموت صلاح بعد الصدمات المتتالية والأحداث المتسارعة في نهاية الرواية فصُدمنا بمشهد أبي رياض ووجه صباح لنجد أنفسنا أمام مشهد تراجيدي. لم يتبدل حال يوسف بل بقي متارجحاً لا قرار له، حاملاً كل أحداث وهموم الشخصيات عقدة ذنب، لم يجد مَن ينادي له سوى والدته ووفاء، وصدى ضحكة زوجته سهى الشامتة بمصيره وكأنها تلومه على كل ذلك الخراب والعبثية في الحياة، رغم أن صوتها لم يصدح في الرواية إلا أن صورتها مع ولديه تبقى معلقة في ذهن القارئ ملوّنة بكل ألوان الاحتمالات. ثم أنه لم يجد لغز الحياة والموت.
ظلم، تضحية، شرف ووفاء، أمامه وخلفه… وهو يقف بسيارته على ميزان الحياة باحثاً عن العدل. يختفي وجهه النرجسي عن المرآة ليرى الحقيقة بوضوح.
إنّها رواية غرائبية، أشبه ما تكون بعربة أحلام تجرها الخيول بجنون. يمكنني القول إنني أصبت بارتجاج وجداني لذيذ من أولى صفحاتها، الأمر الذي جعلني أقضم صنارة الحبكة التي رمى بها الروائي علي نسر ليصطاد مخيلة القارئ على الفور، ليلقي بها عنوة إلى عوالم غرائبية وكهوف عجائبية وانحدارات روحانية عميقة، لا تبقي ولا تذر من غبار الواقع المقيت. الروائي قد يفاجأ بشخوص روايته تخرج إلى ارض الواقع حية من النصّ، بينما القارئ يفاجأ بأنه دخل إلى الرواية قسراً!