ديوان «عندما غنى القمر» للشاعر محمد حسن العلي.. استدراج للماضي القريب بكثافة حسيّة فائقة
طلال مرتضى
بعيداً عن المقولة النقدية الفنّية التي يستدرجها معمار النصّ الشعريّ والإشارة إلى مجمل علائقه، التي تنزاح تحت شرط التشكيل الفنّي البنائي، لتعطي مدلولات تشي باكتمال النصّ واستيفاء شروط قيامته، والتي تلمّست تحقيق هذا كلّه من دون منازع في مقولات الشاعر السوري محمد حسن العلي، وفق معادلة تدلي بأن بنيان القصيدة الخليليّة أساساً تتكئ على حالة الاتزان العروضي. هذا ما جعلني أنحو بعيداً عن طرائق قياس الكثافات اللغوية داخل معمار هذه القصائد وأنهج عبر مسرّب نقديّ آخر يفك أحجيات العصف النفسيّ العميق ونقاط الضوء التي يمكن للقارئ تهجئتها تباعاً للوصول الحتميّ نحو معراج سدرة النشوة القرائية..
في منجز «عندما غنى القمر» الصادر عن دار «الخير للطباعة والنشر»، يتوقف قارئ الشاعر محمد منذ الدلالة الأولى للعنوان والتي تفتح في ذهنيته دفتر الأسئلة، من باب «عندما»، فالحدث هنا استرجاعي محض وهذا يأخذنا إلى مكان وقوف الشاعر على ظلّ الحبيب لنستعيد معه، قفا نبكِ، وحي المنازل، ووادي القرى كفاتحة أولى للكلام.
ما يتبادر إلى حواس القارئ هو كيفية الوقوف فوق الدفق الكمّي الحسّي بالقصائد الناضح، فالقصيدة الخليليّة وبعيداً عن رنين جرسها الموسيقيّ أو غواية قافيتها التي لطالما تتخذ من الرنين كصدى لقفلتها – كتعبير أولي عن مقولتها – بمعزى إن كانت خطابية أو دافئة تسير على درب الرومانسية كالشوقيات وغيرها.. لكن حال الآن جعلنا نتوقف مجبرين في حضرة نصّ خليلي يكتنف داخل نبضه نبض تال، فالقصيدة إن تقول مقولتها فهذا هدفها ووظيفتها، ولكن أن تقول قول المقولة، هنا أقول: قلة قليلة من الشعراء أن يستنطقوا مقولات قصائدهم، كما فعل الشاعر محمد حسن العلي.
«فتاكةٌ عيناكِ رغم مواجعِ… والسقمُ زاد السحر في جفنيكِ
أسرابُ نحلٍ في دمي مجنونة… لا ترتوي حتى تحوم عليكِ
ورحيقك المعسول سر جنونها… رشفتَ لذيذ الشهد شفتيكِ
إن تطلبي روحي الدواء فإنني… سأقولُ يا أحلى المنى: لبيكِ».
لا أريد الوقف في المكان الذي تحدث عنه عدد من النقّاد حول مسرحة نصوص الشاعر محمد حسن العلي وذلك من خلال خلق الحورايات في المتون فالقصائد كما أسلفت تقول مقولة مقولتها، وهو ما يجعل سقفها عالياً ومتناسباً مع الصوت الكامن في حناياها والرجع الذي يتلقاه القارئ..
قالت: «تغزَّل بي فقلت :… لا تلعبي يا حلوتي بالنارِ
قالوا رحلتِ: وما دروا عن لهفتي… أنّى اتجهت فأنت نجم مداري
قالت: تغزَّل بي.. ولولا حبها… ما سال هذا العطر في أشعاري».
ثمة من يتلمّس في لحظة ما تهادي النصوص كلّها على وتيرة واحدة، من الطبيعي أن نتلمّس هذا، فصوت الشاعر بقي حتى النفس الأخير ضمن السياق المألوف. وهذا ليس بغريب على القصيدة الموزونة من حيث المعيار العام لها، لكننا وبالمفارقة أو الذهاب لمقاربة نصِ مع تالٍ، لا بد لنا أن نضع أصابعنا فوق الكثافة الحسيّة التي اشتغل عليها حينما أتت كل قصائد الديوان ردوداً على رسائل المعشوقة.. وهنا المفارقة الحقيقية والتي يمكننا أن نلج من خلالها جوانية الشاعر والقبض عليه متلبّساً بجرم العشق وإثمه الوبيل كمن سبقوه من أرباب الكلمة. وهذا يأخذنا نحو جديد الحكاية، أدب المساجلات الغرامية عبر رسائل الشعر على عكس ما اعتدنا عليه في أدبيّات الرسائل التي نهجها غسان الشهيد وغادة السمان ومي زيادة والرسول جبران وغيرهم والتي ذهبت رسائلهم نحو النصّ المفتوح.
مما لا شكّ به يتلمّس قارئ محمد حسن العلي مسلماً وهج الجمر المتقد تحت كخميرة شعرية ناضجة قابلة لأن تستحيل لهباً لو عبرتها لفحة نسيم ناعس، وهذا ما يؤكد حدسي حول كثافة اللغة ومخزونها لديه، فقد جرّني كقارئ نحو ورقته الأخيرة، دون أن يسلّمني مفتاح دال قصائده بالسؤال، هل تلك الحواريات القائمة والمساجلة هي مع بنات أفكار الشاعر أم هي واقعه الكلّي القدرة المحسوس الذي جعل من تلك الكثافات صيرورة حياة رمزها أنثى مخيال الشاعر الرحب، وهنا أتوقف أمام قناعة أخرى تقول: كذبة هي حكاية جغرافية الأوطان، البلاد كذبة، الأرض كذبة.. وحدها الحقيقة المطلقة هي المرأة التي تصلح للإقامة الأبدية.
«عذب نسيم الغرب يحمل عطرها… الله ما أحلى وأشهاه
عبث النسيم بشعرها فعبيرها… في كل أرجاء البلاد شذاه
هذا الشميم أعادني لهويتي… ما كنت أعرف من أنا لولاه
خُلقت لتحرق بالحنين دفاتري… مُذ صاغها في العالمين الله».
كاتب عربي/ فيينا