مريانا المراش… «بنت الفكر» التي كتبت تاريخ سورية في أواخر العهد العثماني في كتاب بعنوان «تاريخ سوريا الحديث»

سليمان بختي

للنهضة نساؤها أيضاً وتأتي مريانا المراش 1848-1919 في طليعتهنّ، فليست إذن مئوية وفاتها بل دورها أيضاً في حركة النهضة، إذ تعتبر من أوائل النساء اللواتي كتبن في الصحف العربية، كما كانت أول كاتبة سورية تقوم بنشر مجموعة شعرية. ولها الفضل في إعادة إحياء تقليد الصالونات الأدبية في بلادنا.

هي ديانا بنت فتح الله بن نصرالله المراش، وتنحدر والدتها من عائلة الانطاكي الشهيرة، وعرفت بـ»مريانا المراش الحلبية». ولدت في مدينة حلب لعائلة تتبع الطائفة الملكانية. وتحدّرت من عائلة تعمل في التجارة وتملك ثروة ولديها اهتمامات أدبية. عانت العائلة في حلب مشاكل عدة منها قتل بطرس المراش قريب مريانا على يد الأصوليين من الروم الأرثوذكس في نيسان 1818، كما تمّ طرد الكاثوليك الملكيين من مدينة حلب في تلك الفترة ومن بينهم القس جبرائيل المراش.

حاول والد مريانا، فتح الله المراش، نزع فتيل التوتر الطائفي وعرف باهتمامه بالقراءة والكتابة وجمع مكتبة كبيرة نهل منها اولاده الثلاثة فرنسيس، «الشاعر والأديب المعروف صاحب غابة الحق 1881»، وهي أول رواية عربية بحسب بعض النقّاد، وعبدالله ومريانا ولا سيما في مجال اللغة والأدب. كانت حلب في ذلك الزمان حاضرة ومركزاً فكرياً رئيسياً للإمبراطورية العثمانية وسكن فيها العديد من المفكرين والكتّاب المهتمين بمستقبل البلاد وأهلها.

تعلّمت مريانا المراش اللغات في مدارس التبشير الفرنسية في وقت لم يعرف فيه اتجاه النساء للتعليم. تحدّت عائلة المراش هذا الواقع وسجّل فتح الله المراش ابنته ذات الأعوام الخمسة في مدرسة مارونية وتلقّت تعليمها على يد راهبات القديس يوسف في حلب. ثم انتقلت إلى المدرسة الانجليزية في بيروت واحتكّت فيها بالثقافات الفرنسية والانجلوساكسونية وتفوّقت في مادة الأدب العربي والفرنسية والرياضيات، كما تعلّمت العزف على البيانو والقانون ودرست أصول الغناء. هذا التعب على الذات وطلب الثقافة جعل منها إحدى الشخصيات المميزة في مدينة حلب ويسعى الكثيرون إلى خطب ودّها. تزوّجت بعد وفاة والدتها من حبيب الغضبان وأنجبت فتاتين وولداً. بدأت مريانا المراش بكتابة المقالات والقصائد للجرائد ولا سيما «الجنان»، و»لسان الحال» في بيروت. تميّزت مقالاتها بنقد ظروف المرأة العربية وحضّتهن على السعي للتعليم والتعبير عن أنفسهنّ وقضاياهنّ. نشرت مريانا المراش مجموعتها الشعرية «بنت فكر» في بيروت عام 1893 بعد أن حصلت على إذن من الحكومة العثمانية بطبع كتابها غداة إلقائها قصيدة تمجّد فيها السلطان عبد الحميد الثاني، بعنوان «مناقب العلياء»، كان شعرها أكثر تقليدية من شعر شقيقها فرنسيس وقد رثته في قصيدة بعد وفاته المبكرة. قرأت مريانا الشعر الفرنسي وخصوصاً شعر لامارتين ودي موسيه. وكان لظهور كتاباتها في الصحافة وتأليفها للشعر حدث بارز في تلك الحقبة وعنوان بيّن لدور المرأة في نهضة البلاد.

كتبت مريانا المراش في غير الأدب كتاباً عن تاريخ سورية في أواخر العهد العثماني بعنوان «تاريخ سوريا الحديث».

اشتهرت مريانا المراش بالصالون الأدبي الذي يُعقد في منزلها وكان مكاناً للقاء الكتّاب المشهورين ومنهم عبد الرحمن الكواكبي ورزق الله حسّون ومناقشة القضايا الأدبية والفنية والاجتماعية والسياسية. وكان معظم المشاركين من زوّار وأصدقاء منزل العائلة ومثقفين حلبيين من الجنسين، إضافة إلى سياسيين وديبلوماسيين أجانب. وكان يتخلّل الجلسات الغناء والعزف على القانون. ويصف أنطوان الشعراوي الأمسيات التي قضاها في صالون ديانا بأنها كانت راقية ومختلطة وتُناقش فيها مواضيع أدبية متنوّعة مثل المعلّقات وأعمال فرنسوا رابليه وغيرهم.

واشتملت اللقاءات على الغناء والاستماع إلى الموسيقى عبر الفونوغراف. تركت مريانا المراش أبعد الأثر في عصرها ويصف قسطاكي الحمصي مريانا بأنها كانت عذبة المنطق، طيبة العشرة، تميل إلى المزاح، وقد تمكن منها داء العصاب في آخر سنيّ حياتها. أما سامي الكيالي فيقول إنها عاشت في جوّ من النعم والألم. عاشت مع الأدباء والشعراء ورجال الفنّ وقراءة ما كتبه الأدباء الفرنسيون وأدباء العرب فتكوّنت لديها ثقافة تجمع بين القديم والحديث والشرق والغرب. لبثت مريانا المراش تجاهد في سبيل الكلمة وقيَم الحق والخير والجمال وتقاوم المرض حتى وافاها الأجل في عام 1919 في مدينة حلب المدينة التي أحبّتها عن 71 عاماً. وفي الأثر والسيرة انها كانت دائماً رائدة من رائدات النهضة في الكلمة والثقافة ورمزاً لقدرة المرأة في بلادنا على العطاء والإنجاز والتقدم.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى