مستقبل علاقة أميركا وروسيا: انفراج أم تنافس لمزيد من التوتر؟
تراجع الاهتمام الأميركي، الشعبي والرسمي، بتفاصيل تقرير المحقق الخاص روبرت موللر، واحتلت الانتخابات الرئاسية المقبلة المكانة الأبرز لا سيما بعد إعلان نائب الرئيس السابق، جو بايدن، عن ترشحه للانتخابات الرئاسية، ليصبح المرشح الحادي والعشرين عن الحزب الديمقراطي.
سيستعرض قسم التحليل آفاق العلاقات الروسية الأميركية على ضوء نتائج تقرير موللر وابتهاج الرئيس ترامب بأنّ التحقيقات لم تثبت تورّطه مع روسيا أو الرئيس بوتين.
زعم المجلس الأميركي للسياسة الخارجية أنّ الترسانة النووية لم تحظَ «بتمويل كافٍ» منذ نهاية حقبة الحرب الباردة والتي تفاعلت معها إدارة الرئيس أوباما «.. بخفض مخزونه من الأسلحة النووية وأهمّيتها في صون الأمن القومي للولايات المتحدة.. واتخاذ خطوات لتلافي انتشار الأسلحة النووية والإرهاب النووي وفق الأولويات المتضمّنة في تقرير مراجعة الوضعية النووية لعام 2010». كما حمّل المجلس كلّ من وزارتي الطاقة والدفاع الأميركيتين «آفات عدم تنسيق الجهود بينهما، نظراً للمهام المنوطة بهما في حماية الرؤوس النووية ونظم نشرها، مما أسفر عن تردّي الميزة العلمية والهندسية» للبلاد.
اعتبر مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية خطأ تغيير السياسة الأميركية نحو حلفائها ومضاعفة أعبائهم الأمنية بفرضها مساهمات مالية أكبر تصرف على قطاع التسليح والأمن عوضاً عن السياسات السابقة «بتقاسم الأعباء الأمنية، مما أسفر عن تحمّل الحلفاء والشركاء التكفل بالجزء الأكبر لشؤون الدفاع». وحث صناع القرار على مراعاة واشنطن لدورها السابق في بلورة «تدابير الإشراف والمحاسبة وتضمينها في برامج مساعدات القطاعات الأمنية لضمان تحقيق كافة أهداف السياسة الأميركية».
حثت مؤسسة هاريتاج صنّاع القرار السياسي «بعدم الاسترخاء أمام تهديد داعش الذي يعمل على الانتقام من هزيمته المنكرة، نفسياً وعسكرياً، في سورية والعراق». وأوضحت أنّ التنظيم يرتكز إلى إيمانه بأنّ «القوة تعادل الهيبة واستعادته كرامته تستدعي ممارسته قتل الأبرياء وكلما كانت أعداد الضحايا أكبر كلما كان الأفضل».
أشادت مؤسسة هاريتاج بنقض الرئيس ترامب قرار الكونغرس «.. لوقف الدعم الأميركي» عن التحالف الذي تقوده السعودية في حربها على اليمن مؤكدة أنّ الرئيس «استند في قراره على أرضية صلبة من الصلاحيات لتبرير سياساته قانونياً ودستورياً وسياسياً». وشدّدت المؤسسة على «حكمة» القرار كونه يحمي المصالح الأميركية لا سيما أنّ «الولايات المتحدة غير منخرطة في حرب اليمن أو تؤثر فيها».
استعرض معهد واشنطن مسألة التوريث في السعودية ومن بين الاحتمالات المطروحة «عدم تمكن محمد بن سلمان تسلّم العرش.. مما يستدعي التحرك السريع من قبل واشنطن العمل مع ابن سلمان للحدّ من تداعيات تجاوزاته» على الاستقرار الداخلي. وأشار المعهد إلى تدهور الحالة العقلية للملك سلمان لا سيما في ظهوره الأخير في القمة العربية – الأوروبية في شرم الشيخ، شباط الماضي، وارتكابه «أخطاء محرجة» خلال كلمته المعدة، بل «أضاع تركيزه على النص المكتوب مما استدعى تدخل أحد أعوانه لإنقاذ الأمر». واستدرك بالقول إنّ «تغييرات قد تطرأ على ظروف سلاسة التوريث، وينبغي الإعداد لتسلم شخصية قد تكون على عداء مع ابن سلمان لكنها ستحافظ على المصالح الأميركية».
تناول معهد كارنيغي نتائج الانتخابات المحلية التركية التي اسفرت عن «خسارة صافية لحزب العدالة والتنمية الحاكم في المدن الرئيسة لصالح المعارضة مما يؤشر على عصر تغيير آت». وشدّد المعهد على أهمية خسارة الحزب الحاكم لمدينتي اسطانبول وأنقرة، لا سيما أنّ الأولى شكلت «الحاضنة والداعم الأساس لتراث عائلة أردوغان السياسي منذ عام 1994»، مما يطرح جملة تساؤلات أبرزها، حسب المعهد، ما حلّ «من تراجع وخسارة لزعيم لا يُقهر وحركته السياسية، كيف استطاع الاستمرار في تعزيز مفاصل السلطة لزمن طويل».
رؤية الرئيس ترامب للعلاقات الاستراتيجية مع موسكو تعارضت مع توجهات المؤسسات الحاكمة منذ صعوده «السياسي»، وهو الآتي من قطاع العقارات والصفقات التجارية وتكديس الأرباح، ولم يشاطر المؤسسة نظرتها «العدائية لروسيا والمكلفة مادياً» دون مردود ربحي، حسب أولوياته.
باستطاعة ترامب، بعد صدور تقرير المحقق الخاص موللر وعدم إدانته بتهمة التواطؤ مع روسيا، الاستمرار في شنّ هجومه على خصومه الداخليين ولبس رداء العداء لروسيا دون القلق من اتهامه «بالنفاق أو صرف الأنظار»، اللهم باستثناء ما يضمره رؤساء لجان الحزب الديمقراطي في مجلس النواب لمواصلة محاصرته قانونياً علّها تسعف الحزب في ترجيح كفة الانتخابات نحو مرشحيه وطموحه في الإطاحة وهزيمة الرئيس ترامب.
العلاقات الأميركية الروسية من العناوين الثابتة والبارزة في الجدل الداخلي الأميركي، لكنها «مستعصية على الحلّ»، وفق توصيف معهد هدسون اليميني، في معظم الحقبات الزمنية، وتحتلّ مرتبة الأولوية في جدول أعمال الطرفين.
هاجس روسيا في أميركا مستمرّ منذ قرن ونيف من الزمن «لكن دون تحقيق نجاحات كبيرة»، كما يمضي المعهد، باستثناء سقوط الاتحاد السوفياتي ونهوض روسيا القومية مجدّداً في مواجهة الولايات المتحدة بينما «لا تشبه أوروبا الغربية اليوم سابقتها الواثقة من مستقبلها بعد انهيار جدار برلين»..
المشهد الداخلي الأميركي، في ما يخصّ روسيا تحديداً، وامتداداً للقوى الدولية الصاعدة الأخرى كالصين، يتسم بفرضية ثابتة بأنّ مستقبل المؤسسة الحاكمة رهن استمرار عدائها لتلك القوى وتحديث مناخات الحرب الباردة ويرجّح استحداث عقوبات اقتصادية ومالية ضدّ روسيا في المديين الراهن والمتوسط، لا سيما عند الأخذ بعين الاعتبار «سلاح النفط»، من إنتاج وتسعير وتسويق، الحاضر دوماً في جعبة السياسة الأميركية، أقلها لمحاصرة المنتجات النفطية والغازية الروسية على المستوى العالمي وكذلك الأمر مع إيران وفنزويلا.
استناداً إلى التصريحات والمواقف الأخيرة لإدارة ترامب، في ما يخصّ تدفق النفط على السوق العالمية، واتكاله على كلّ من «السعودية والإمارات.. لتعويض حصتي إيران وفنزويلا»، يمكننا القول إنّ أحد الأهداف المرئية في هذا الشأن هو تذليل ما استطاع من عقبات لاستبدال منظمة «أوبك» العالمية بأخرى أميركية للتحكم المباشر بتلك السلعة الحيوية ومحاصرة روسيا من خلال تلك الوسيلة.
ما يعزز ذاك التوجه لدى الإدارة هو تصدّر الولايات المتحدة المرتبة الأولى عالمياً في إنتاج النفط، وتسخير تلك الميزة لبسط سيطرتها الكاملة على الدول الأخرى، منتجين ومستهلكين وترجمة حقيقية للشعور الشوفيني الذي يمثله ترامب «لنعيد عظمة أميركا».
علاوة على ذلك، يمكننا القول استناداً إلى رصد ردود الأفعال داخل أوساط اليمين الأميركي المتطرف، ووسيلته الإعلامية الأبرز، فوكس نيوز، إنّ موجة العداء لروسيا اتشحت برداءة إضافية بعد صدور تقرير المحقق الخاص موللر، قائلة إنّ «الصراع السياسي الداخلي» حول العداء لروسيا سيستمرّ في المدى المنظور، مؤكدة أنّ وسائل الإعلام الرئيسة الأخرى «تغذي مشاعر الهلع والقلق لدى الرأي العام بغية تعزيز العداء لروسيا لديه» 25 آذار/ مارس الماضي .
من بين السيناريورات «الإيجابية» المتاحة لدى المؤسسة الأميركية الحاكمة، في ما يخصّ مستقبل العلاقات الروسية الأميركية، نرصد التالي، دون ترتيب معيّن:
أوّلاً، إعادة الدفء لعقد قمة روسية أميركية قريباً، كما درجت العادة بين الدولتين العظميين منذ وبعد نهاية الحرب الباردة، على ضوء تقرير موللر، ربما العام المقبل قبل موسم اشتداد التنافس الانتخابي وإعادة الأولوية لمناقشة لأسلحة النووية عند الطرفين ورغبتهما معاً في ضمّ الصين لاتفاقية شبيهة بالسابقة للحدّ من انتشار الأسلحة النووية عالمياً. بيد أنّ الرغبة الأميركية قد لا تقابلها حماسة روسية نظراً لطبيعة العلاقة المتينة التي تربطها بالصين وعزمهما مواجهة النفوذ الأميركي. أما الصين، في هذا الشأن، فهي ليست على عجلة من أمرها وتمضي باستغلال موقعها المتحلّل من القيود النووية الدولية في تطوير ترسانتها.
ثانياً، مستقبل العلاقة يعتمد أيضاً على المكتسبات والإنجازات الصينية، كما أسلفنا، خاصة بعد فشل مراهنة واشنطن على لعب ورقة «الصراع الصيني الروسي» مرة أخرى، بل استمرار تقاربهما اقتصادياً وعسكرياً، والفرص الهائلة أمام الدولتين التي ستنجم عن استكمال الصين بناء «طريق الحرير» الجديد، الذي سيشكل ما لا يقلّ عن 30 من الإنتاج السنوي العالمي يستفيد منه مباشرة نحو 40 من سكان العالم قاطبة والأهمّ أنه يضمّ أوروبا ويستثني الولايات المتحدة.
ثالثاً، ليس مستبعداً بنظر بعض المراقبين أن يفاجئ الرئيس ترامب الجميع بترجمة بعض تصريحاته السابقة حول علاقة مستقبلية مع سورية والرئيس الأسد في المدى المنظور، وفق معطيات فرضها الميدان بانتصار سورية على المؤامرة متعددة الجنسيات، مما يعتبر نصراً صافياً في خانة روسيا التي حافظت على سرديتها «بدعم حكومة علمانية مستقرة، والحفاظ على وحدة وسيادة الدولة على أراضيها». ويعتقد بعض خبراء مراكز الدراسات في واشنطن أنّ الطرفين في هذه الجزئية يتشاطران في «تحجيم» النفوذ الإيراني في سورية، وإنْ بدرجات متفاوتة. بيد أنّ سيل العقوبات الأميركية على كلّ من روسيا وإيران حفز موسكو وطهران على التقارب أكثر من ذي قبل في مواجهة العنجهية الأميركية.
رابعاً، توثيق العلاقة بين كوريا الشمالية وروسيا، عبر القمة الرئاسية الأخيرة، ضاعف المأزق الأميركي دون المساس بالصين الحليف الطبيعي لكوريا الشمالية وقد يشكل حافزاً للرئيس ترامب توسيط الرئيس بوتين في الشأن الكوري الشمالي مقابل تنازلات معينة.
ما تقدّم لا يشكل أرضية كافية لعودة دفء العلاقات بين العظميين، لا سيما في عصر تصدّر اليمين الأميركي المتطرف للمشهد والقرار السياسي. بل ستمرّ العلاقات في ثنائية المدّ والجزر بينهما الاصطدام المباشر في أيّ من الساحات الدولية.
السياسة «الواقعية الأميركية محاصرة وتعاني من شحّ فرصها»، وفق توصيف معهد هدسون سالف الذكر، وتجمع النخب السياسية والفكرية الأميركية على استمرارية الوضع الراهن بكلّ ما يتضمّنه من معان وفرص وأزمات. فعلاقة العظميين «لم ولن تكون على ما يُرام، لكنها ليست بمقدار السوء المتخيّل، وشائكة دوماً».
نشرة دورية تصدر عن وحدة «رصد النخب الفكرية» في مركز الدراسات الأميركية والعربية