رئيس الجمهورية: من روّاد الدعوة إلى فصل الدين عن الدولة وتوريث العلم والمعرفة بدل التوريث السياسي
أكد رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، أنّ المعلم بطرس البستاني، ما زال مدرسة وطنية مشرقية عربية أممية، وقيمة خالدة، معتبراً أنه كان طليعياً في فكره السياسي والوطني والاجتماعي، ومن رواد الدعوة إلى فصل الدين عن الدولة، معتبراً أنّ أمتنا تحتاج إليه كي يزرع فيها غرس الحوار والتسامح والانفتاح واحترام حقوق الانسان.
ودعا الجيل الجديد إلى الاستلهام من المعلم بطرس البستاني تحديثه للغة العربية، وحب المعرفة، والثقافة، وتوسيع أطر الفكر، وتنمية الحسّ النقدي والمصداقية في الإعلام، والتجرّد في التعليم، وشغف التعلم، كي يبقى المعلم البستاني نابضاً في حضارتنا، ومدارسنا، وثقافتنا، وخالداً في وجدان الوطن.
كلام الرئيس عون جاء خلال رعايته احتفالية الذكرى المئوية الثانية لميلاد المعلم بطرس البستاني، بدعوة من جمعية المعلم بطرس البستاني والهيئة الوطنية لإحياء ميلاده، في سي سايد ارينا، عند السادسة من عصر أمس، وحضرها إلى جانب رئيس الجمهورية رئيساً مجلسي النواب نبيه بري والوزراء سعد الحريري، نائب رئيس مجلس النواب إيلي الفرزلي، الوزراء: أكرم شهيّب، جبران باسيل، علي حسن خليل، محمد داود، جمال الجراح، غسان عطالله، سليم جريصاتي، فادي جريصاتي، محمد شقير، وصالح الغريب ممثلاً بجاد حيدر، النواب: فريد البستاني، مروان حمادة ممثلاً رئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط، ادغار طرابلسي، روجيه عازار، رولا الطبش جارودي، علي بزي، عدنان طرابلسي، علي درويش، فيصل الصايغ، محمد الحجار، ميشال معوّض، قاسم هاشم، أنطوان بانو، مصطفى علي حسين، سليم عون، علي عسيران ممثلاً بالدكتور داود رعد، سامي الجميّل ممثلاً بجوي حمصي، نقولا الصحناوي ممثلاً بسليم سعادة وأنور الخليل ممثلاً بجوزيف الغريب.
ومن السلك الديبلوماسي حضر سفراء: سورية علي عبد الكريم علي، العراق علي عباس بندر العامري، فلسطين أشرف دبور، تونس كريم بودالي، المغرب محمد كرين، قطر محمد حسن جابر الجابر، روسيا ألكسندر زاسيبكين، وأوكرانيا ايهور أوستاش، ممثل السفير الأرميني صاموئيل ماكرتشيا دايفد ألافرديانن، ممثل السفير الصيني وانغ كه جيان السكرتير الأول تشاو شن شيون، رئيسة البعثة الأردنية القائمة بالأعمال وفاء الأثيم.
ومن رجال الدين، شارك رئيس أساقفة بيروت للموارنة المطران بولس مطر ممثلاً البطريرك الماروني الكاردينال بشارة بطرس الراعي والكاردينال نصرالله بطرس صفير، ممثل بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس يوحنا العاشر يازجي راعي أبرشية صيدا وصور وتوابعهما للروم الأرثوذكس المطران الياس الكفوري، ممثل مفتي الجمهورية اللبنانية عبد اللطيف دريان الشيخ خلدون العريمط، ممثل شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز نعيم حسن الشيخ سامي عبد الخالق، وممثلو عدد من المطارنة وحشد من رجال الدين.
وحضر رئيس تحرير «البناء» النائب السابق ناصر قنديل والمدير الإداري زياد الحاج وعدد من الوزراء والنواب السابقين، ومن المدراء العامين، وضباط عسكريين وأمنيين، رؤساء بلديات ومخاتير، وحشد من الشخصيات.
البستاني
بدأ الحفل بالنشيد الوطني، ثم ألقى النائب فريد البستاني كلمة شكر في مستهلها الحضور، فقال: «شكراً لحضوركم وبكم يكتمل عقد الوطن، واسمحوا لي أن أشكر أيضاً زملائي في جمعية المعلم بطرس البستاني، والهيئة الوطنية لإحياء المئوية الثانية، لميلاد المعلم بطرس البستاني، رئيساً وأعضاء، وأخصّ بالشكر عائلتي الصغيرة آل البستاني، وأهلي في منطقة الدبية، مسقط رأس المعلم بطرس البستاني».
أضاف: «أن نجتمع حول اسم المعلم بطرس البستاني، يعني أن نجتمع لإعلاء شأن الوطن، وقد حرص المعلم على توقيع مقالاته باسم محب للوطن، وإعلاء لشأن الحرف واللغة، وقد وهبها المعلم عمره عقله وروحه، فصار بحق، أحد آباء عصرنة اللغة العربية، وإدخال علوم الموسوعية إليها وإعلاء لشأن المرأة، وقد منحها لقب أمّ الخليقة، وإعلاء لمفهوم المواطنة والتمدّن، حتى تحوّل بمعرفة أقرانه أباً للتنوير».
وتابع: «وقد كان المعلم، الذي له بصمات في ترجمة الكتاب المقدس، من اللغة العربية، صاحب القول: الدين لله والوطن للجميع. وهو الشعار الذي اتخذته عنه الثورة المصرية عام 1919 والثورة السورية الكبرى عام 1925، مما يؤكد أنّ التنوير حبل متصل من جيل إلى جيل ومن بلد إلى بلد».
وأردف: «يجمع المؤرّخون والفلاسفة، على ربط تعريف الوطن، بالذاكرة الجماعية، برموز مادية كالآثار، ورموز أدبية وثقافية، فلبنان وطن جبران خليل جبران، وطن فيروز والأخوين الرحباني، وطن الحرف والأرز وقلعة بعلبك، ولكنه أيضاً، سيداتي سادتي، وطن بطرس البستاني».
وختم متوجهاً إلى رئيس الجمهورية: «فخامة الرئيس، بجدارة أنت بطرس المعاصر، أنت مجدّد نهضتنا، وفيك بعض الكثير منه، وعهدنا لك أن نسعى، لأن يكون فينا، بعض منك، تكريماً له ولأنفسنا وللبنان. شكراً فخامة الرئيس، وشكراً لجميعكم، وشكراً للمعلم بطرس البستاني».
داود
وبعد فيلم عن السيرة الذاتية للمعلم بطرس البستاني، ألقى وزير الثقافة محمد داود كلمة استهلها متوجهاً بالتحية إلى الحضور الرسمي، وقال: «مأثرة ثقافية حضارية أن نتحلق اليوم، إكباراً وتقديراً، حول قامة ثقافية – موسوعية – هو المعلم بطرس البستاني، في مئوية ولادته الثانية. الكاتب، الباحث، الإعلامي، المترجم، المصلح الاجتماعي، داعية الوحدة الوطنية».
أضاف: «فضله على لبنان كبير هذا الرجل… ذاكرون جميعاً إنشاءه المدرسة الوطنية في العام 1863، وأثر رواسب فتنة ذلك الزمن، مع الشيخ يوسف الأسير والمتنوّرين، وقد جمعت المدرسة طلاب لبنان، تحت شعار الولاء للوطن، كما نستذكر دعوته الرائدة إلى المساواة بين الرجل والمرأة في خطابه الشهير سنة 1849: «خطاب في تعليم النساء».
وتابع: «إذ تكرّم دولة لبنان أحد أعلامنا الكبار، نستحضر عبره من ذاكرتنا الوطنية، معاصريه النهضويين السابقين واللاحقين، الذين أطلقوا شرارات أفكارهم الريادية – الإصلاحية والأدبية في لبنان والعالم العربي».
وأردف: «هذا الطموح الثقافي، الذي نعتبره نموذجاً إنسانياً، والذي عبّرت عنه «اليونسكو» من خلال استحداث المركز الدولي لعلوم الإنسان، في جبيل سنة 1970، عبر بيان أممي، اعتبر لبنان من خلال خاصيته الجيو سياسية – الثقافية، جسر التقاء بين الشرق والغرب».
وأعلن الوزير داود «في هذه المناسبة، عن إسهام وزارة الثقافة بواجب تكريم هذا العالم الكبير، من خلال استحداث جناح خاص في المكتبة الوطنية، يحتضن أعمال المعلم، إلى وثائق ولوحات فنية، إضافة إلى إطلاق تنويه رسمي سنوي يحمل اسم «جائزة المعلم بطرس البستاني للإبداع».
وختم «واجبنا أن يبقى لبنان رائداً في مسار بناء دولة الإنسان – المواطن، وتحية لمعلمنا بطرس البستاني، في ذكراه، تحية لأهل الحرف والثقافة عاش لبنان وطن المبدعين».
شهيّب
ثم أدّت الفنانة باسكال صقر أغنية «بطرس الحرف»، شعر حبيب يونس ولحن الأب البروفسور إيلي كسرواني، ألقى بعدها وزير التربية والتعليم العالي أكرم شهيّب كلمة قال فيها: «نعود بذاكرتنا الوطنية، إلى بطرس البستاني. المعلم، المؤرّخ والصحافي، واللغوي، فنشعر كأنّ الزمن ما زال متوقفاً بنا عند محطاته. هو الذي انطلق من الدبية في الشوف، في الربع الأول من القرن التاسع عشر، قرن الفتنة الداخلية والتدخلات الأجنبية، الى بيروت معرّباً ومترجماً. ثم الى بلدة عبيه، في عز الفتنة الداخلية سنة 1860، معلماً وموجهاً، ثم إلى المدرسة الوطنية التي أنشأها: جامعة وموحدة، في ظلّ الانقسام القائم آنذاك. ثم إلى الصحافة، فأسّس جريدة «نفير سوريا»، التي دعا فيها إلى الألفة ونبذ الأحقاد، ومن بعدها إلى الجنة والجنينة والجنان، الصحف التي أنشأها مع ابنه سليم، وكان فيها كلها داعياً للوئام والتعاون، والبعد عن التعصّب والإنغلاق».
وأردف: «ما أحوجنا إلى وطني رؤيوي كالمعلم بطرس، يسعى إلى وحدتنا وتضامننا، ويوجه البوصلة إلى المصالح الوطنية الكبرى، لا، الغرق في زواريب السياسية الداخلية الضيقة، فنبني لنا بلداً لا فساد فيه، ولا طائفية، ولا تدمير للاقتصاد، ولا تهجير للشباب، ولا تخريب للبيئة في المحميات الطبيعية، ما أحوجنا إلى أخضر لبنان؟ ميزة تاريخية وثروة وطنية. ما أحوجنا إلى مفكر رؤيوي، كالمعلم بطرس، يدعونا إلى الحداثة والتطور، ومواكبة العصر».
واستطرد: «أما نحن في التربية فسنكون أوفياء. سنولي المدرسة الوطنية، كما سماها كلّ الاهتمام، لأنّ التعليم الرسمي هو الملاذ لكلّ اللبنانيين، كمهل للعلم، ومصنع للوحدة».
وختم «تحية للزميل النائب فريد البستاني لمبادرته، والشكر والتقدير لفخامة الرئيس ميشال عون، لرعايته هذا الحدث الحضاري، وهو الحريص الدائم على لبنان الوطن، الذي نطمح جميعاً إليه».
الفرزلي
وأدى الفنان جهاد الأطرش والشاعر حبيب يونس، مشهدية محاكاة المعلم بطرس البستاني، ثم ألقى نائب رئيس مجلس النواب إيلي الفرزلي كلمة، فقال: «سئل التاريخ عن المعلم، فقال: بعد المسيح وسقراط، هو البستاني، جمعت اسم العلم وبطرس معاً. وما اجتمعت لسواك آيات الزمان، يا دائرة المعارف فينا، ومحيطاً في محيط التفاني. كم أحرقت من العمر زيتاً، تضيء ليل الجهل وتعاني، إليك الحروف تسابقت، وأنت ترسم المبنى، كم أنشأت من الحروف مباني».
أضاف: «عرّبت المقدس من الكتاب، وأشبعت آلاف الكلمات شرحاً للمعاني، فصرت أنت الدرب، وأنت النور، وأبو التنوير، وفي لغة الضاد رفيق الأصفهاني. أنشدت فينا نشيد التمدّن، وأضأت مصابيح التحضّر، وكم أنشدت للحضارة فينا من أغان».
وتابع: «في عيدك المئتين جئنا، فجاء الشرق وجاء الغرب. لا تسأل العلوم عن الأوطان. فقلت: لا، أنا ابن لغة الضاد في هذا الشرق. وأنا ابن وطن الحرف ووطن الحرف لبناني، أنا بطرس معلماً، وأنا البستاني دوحة. فقم أيها الشرق موحداً، وحقق ما فات من الأماني.
في المئتين جئتم، وإلى الوراء عدتم، فأين النهضة؟ وأين الوحدة؟ وأين فكرنا العلماني؟ زدتم على التعصّب تعصّباً، وعلى التفكيك تفككاً، وها أنتم لا سفينة نوح بين طوفان وطوفان. نجحتم وأبدعتم، وصرتم في السماء نجوماً كأفراد، لكنكم، فشل مستديم في التجمع الإنساني».
وأردف: «إسألوا دعاة النهضة فيكم، حتى في اللغة تقاتلتم وتباهيتم، لكم جبرانكم ولي جبراني. اسألوا فيروز وإيليا عن وطن النجوم، وكم كتابا في العلم ألفتم، وكم أضفتم للحضارة من عنوان. إسألوا القدس عن غدكم، واعلموا أنّ التعصّب يخدركم، فتمرّدوا على الإدمان. واعلموا أنّ التطرف يدمّركم، ولم يكن التطرف ديناً، ولا كان من الأديان».
واستطرد: «جئتم إلى عيدي فأهلاً وسهلاً. فكونوا للعيد صحفاًً حرّرتها. كالنفير والجنة والجنان، بشروا بالنهضة في العيد، أو عودوا كما كنتم، ودعوني حيث أنا، مجهول الإقامة والمكان. لا يربطني بالعيد معكم، إلا نداء التغيير. لا كان عيداً، إن كان العيد تبادلاً للحلوى والتهاني. كرموني بأنتم. فأنتم بعض أنا، وبعض المسيح، وبعض محمد، وبعض الشرق، وإلا خير لكم نسياني».
وأكمل: «لن ننساك أيها المعلم، وها جمعنا هنا، ننفض عن كنوزك النسيان، ونعلن أمامك عهودنا، وإليك مختصر البيان. سنطوف الدنيا، لنجعل اليوم العالمي للغة العربية، يوم رحيلك في الثامن عشر من تشرين الثاني. وسنعلن ميثاقنا بنبذ الطائفية في الأول من أيار كلّ عام، مع العمال في عيدهم. في يوم رحيلك: نعلي قيمة الوطن لين الناس، ونرفع في الوطن قيمة الإنسان».
وفي هذا المحور، ختم «في المئتين جئناك باسم وطن حر، ينشد عروبة حرة ومشرقاً حراً وعالماً حراً. وقد تحرّر الوطن بأمثالك من الاحتلال، ومن قبله تحرر من الانتداب ونحرر من العثماني. سنبني وطن النجوم، ومن غفوتنا نستفيق، كطائر الفنيق، لنباهي العالم بقوة البنيان، ونرفع اسمك واسم لبنان، وباسمكما نتعاهد أن الدين لله والوطن للجميع وأن حب الوطن من الإيمان. التوقيع: جميعنا، كلنا، كل لبنان وكل لبناني».
واستأنف الفرزلي كلمته، فقال: «لأنّ المعلم بطرس البستاني، ليس عالماً نكرّمه وحسب، بل هو صاحب مشروع متكامل للنهضة ورؤية مستقبلية للوطن، فإنّ تكريمه لا يستقيم إلا بالإضاءة على رموز، أكملت من بعده على الطريق، في جانب من جوانب فلسفة التنوير وركائزها الخمسة:
– الدولة المدنية ونبذ التعصب والتطرف والطائفية.
– التعليم الوطني وتعميم المعارف العلمية الحديثة كشرط للتمدن.
– الاستثمار على إعلاء شأن المرأة وتعليمها كركيزة للنهوض.
– ترسيخ مكانة اللغة العربية بين الأجيال الشابة كحامل للهوية.
– التمسك بإعلام حر ومسؤول يعمم الفكر ويدور عبره الحوار».
أضاف: «فخامة الرئيس… مراعاة لمعايير البروتوكول الرئاسي، لن نوزع دروع التكريم في الاحتفال، وسنتشرف بزياركم لشكركم على رعاية هذا الاحتفال، وتسليم درع المعلم البستاني، لأنك أنت صاحب مشروع الدولة المدنية بنسخته المعاصرة، ونصير المرأة واللغة والتعليم والإعلام، ولأنك من عمود خيمتنا الوطنية لنهضتنا المنشودة، ولإصلاح لا ينتظر، أنت رمز وحدة الوطن، وقائد مسيرته، ولكم في الفكر والرؤى ما يجعلكم الامتداد الحي للمعلم، الذي نكرّم، فاستحققتم بجدارة حمل الراية».
رئيس الجمهورية
وألقى الرئيس عون الكلمة الآتي نصها:
«أيها الحفل الكريم: هو، المعلم بطرس البستاني، حامل هذا اللقب السامي عن جدارة، معلم ظلل بعطاءاته السخية لبنان والمشرق العربي وكلّ أرض الناطقين بلغة الضاد وصولاً إلى الأممية. وليس غريبا أن تكون المئوية الأولى لولادته قد احتفل بها في الجامعة الأميركية في بيروت.
واليوم، في المئوية الثانية، ما زال مدرسة وطنية مشرقية عربية أممية، وقيمة خالدة، وكرماً معرفياً مجانياً على درب اللغويين العرب، ومعلماً لكلّ علماء اللغة وطالبي البحوث ودعاة عصرنة لغة الضاد.
بطرس البستاني، مؤسّس المدرسة الوطنية، أول مدرسة لبنانية أهلية مختلطة غير طائفية وبعيدة عن النفوذ الأجنبي، منها تخرج عشرات المتنورين وكانت لهم اليد الطولى في التوعية وبث الروح الوطنية والدعوة إلى التحرر والتلاقي، ومنهم سليمان البستاني الذي نقل إلياذة هوميروس إلى العربية، وسليم تقلا مؤسس صحيفة الأهرام.
بطرس البستاني، الزارع بذور اللغة والعلم، الذي يتقن تسع لغات، سطر كنوز محيط المحيط، ودائرة المعارف التي اعتبرت أول موسوعة حديثة. وقمة إبداعه كانت في ابتكار المصطلحات واشتقاق المفردات والتسميات وتبسيط المفاهيم، ما أغنى اللغة العربية ومنحها قوة التجدد والصمود في وجه التتريك.
أنقذ لغة الضاد من طغيان التعريب الزائف والترجمة الهزيلة، كما أنقذ الكتاب المقدس من الترجمات العقيمة المشوهة، وأخرجه بالمسحة المسيحية المقدسية الأممية.
بطرس البستاني، اللبناني العربي المشرقي، أقام لغتنا من قبر عصور الانحطاط إلى فجر النهضة والقيامة. وهكذا شكل جسراً لعبور اللغة العربية إلى العالم بنسخة لبنانية رائدة.
واستشرافات بطرس البستاني ليست فقط في ميدان اللغة، فهو كان طليعياً في فكره السياسي والوطني والاجتماعي صاحب مقولة «الدين لله والوطن للجميع»، وشعار «حب الوطن من الإيمان»، ومن رواد الدعوة إلى فصل الدين عن الدولة، رفض التوريث السياسي ودعا إلى توريث العلم والمعرفة عوضا عنه، قال بالحرية الاجتماعية والسياسية والدينية وبالعدالة والمساواة ونبذ التفرقة وزرع الروح الوطنية والانتماء بين أبناء الوطن الواحد، مركزاً على حقوق الانسان، وعلى اعتماد النزاهة والكفاءة والصدق معياراً في العمل السياسي والشأن العام.
وسعى إلى تحرير المرأة والعبور بها من أزمنة الذلّ والقهر، إلى فسحة المساواة والعصرنة، وهو القائل «ليست المرأة صنماً ولا أداة زينة بل هي أم الخليقة»، وكان من أوائل الداعين إلى تعليمها، والمناصرين لقضاياها.
وجعل من الصحف والجمعيات الفكرية، التي كان من مؤسّسيها منبراً لنشر هذا الفكر الرؤيوي المتنور، الذي سرعان ما بسط ظله على الصحافة، بشكل عام، ليحرّرها من عقد الخوف والجمود، ويطلقها إلى رحاب الحرية والجرأة والتجدّد. ودعا بكلّ جرأة إلى الاستفادة من الغرب وأخذ ما يلائمنا منه وأقلمته مع مجتمعنا، تماماً كما استفاد الغرب من الشرق في زمن تقدّمه عليه.
بطرس البستاني استطاع منذ أكثر من قرن ونصف، أن يضع الأصبع على جرح مجتمعاتنا ويحدّد مكامن الخلل فيها، فهذا الرؤيوي الذي كان شاهداً على الأحداث المؤلمة، التي جرت بين عامي 1840 و1860 وبذل جهوداً لإطفاء نارها لكنها كانت أقوى منه، كتب عنها مفنداً أسبابها عازياً إياها إلى التدخل الخارجي والجهل والأمية والتعصب والكراهية وضعف الإيمان، أوَليست هذه الآفات لا تزال السبب في معظم حروبنا وخراب مجتمعاتنا؟
اليوم وبعد ما يقارب القرنين من الزمن، كم تحتاج أمتنا إلى معلم بستاني؟ كم تحتاج إلى من يزرع فيها غرس الحوار والتسامح والانفتاح واحترام حقوق الانسان؟ كم تحتاج إلى أن نترك الدين لله وننصرف معا الى هموم الوطن؟ كم تحتاج إلى أن يرقى «حب الوطن» فينا إلى درجة «الإيمان»، إيمان لو كان بقدر حبة الخردل لنقلنا الجبال من أماكنها؟
نعم، يحتاج الجيل الجديد اليوم إلى الاستلهام من ثمار المعلم بطرس البستاني. يستلهم منه تحديثه للغة العربية، بعدما هزل الاهتمام بها، وضعف شغف طلابنا في الغرف من جمالياتها، واتقانها، والتعبير الفكري والعلمي والأدبي من خلالها. ويستلهم منه حب المعرفة، والثقافة، وتوسيع أطر الفكر، وتنمية الحسّ النقدي في مختلف المستويات والمجالات، فلا ينجرف سياسياً، وفكرياً، وعقائدياً، خلف الضجيج والشعارات الفارغة. ويستلهم منه المصداقية في الإعلام، والتجرد في التعليم، وشغف التعلم.
هكذا نبقي بطرس البستاني نابضاً في حضارتنا، ومدارسنا، وثقافتنا. هكذا نجعل منه منارة مكرّسة على دروب الوطنية، والعلم، واللغة، والثقافة، وواحداً من رجالات لبنان الخالدين في وجدان الوطن».