كيف تكون الصحافة حرة؟
واصف عواضة
أخشى أن يأتي يوم ليس ببعيد، تكون فيه حرية صحافة، ولكن لا يكون فيه صحافيون.
ولا أدري ما إذا كان الحديث عن حرية النشر، لا يزال واقعياً ومنطقياً ورائجاً، في زمن بات فيه كلّ مواطن في العالم قادراً على امتلاك وسيلة إعلامية، بالمجان ومن دون ترخيص؟
وأخشى أن أقول إنّ عالم الإعلام والمعلومات، الميديا، ربما يحتاج اليوم إلى ضوابط ومعايير ومواثيق شرف تضع حداً لهذا الفلتان المستشري والفوضى العارمة التي تركت أثراً سلبياً على الصحافة وحريتها والعاملين فيها، في إطار من الحرية المسؤولة.
هنا أسارع إلى القول إنّ حرية الصحافة كمهنة شريفة رسالية، وكمورد رزق لنفر كبير من الناس في جميع أقطار العالم، هي اليوم في خطر، حيث تتعرّض اليوم لشتى صنوف الأزمات والمعاناة على أكثر من مستوى، ليس فقط من جانب الأنظمة التي يضيق صدرها بالحرية، بل أيضاً نتيجة هذا الفلتان العارم الذي لم نعد نميّز فيه بين الصحافي كمهني، وبين المتسلقين على أكتاف أبناء المهنة، وكذلك نتيجة الوضع الاقتصادي وتطوّر الوسائل التي تنقل الخبر والمعلومات للمتلقي، لدرجة باتت الصحافة المكتوبة في محنة مريرة، وسوف تلتحق بها الصحافة التقليدية الأخرى مرئية ومسموعة.
الحرية بشكل عام مناخ متعدّد العناصر: هي مناخ سياسي، ومناخ اجتماعي، ومناخ اقتصادي. وما لم تكتمل هذه العناصر الثلاثة، تبقى الحرية ناقصة. وهذه المعايير تنطبق على حرية الصحافة والإعلام.
المناخ السياسي لحرية الصحافة مسؤولية الأنظمة الحاكمة بما تنتجه من تشريعات وقوانين. وهنا تتعدّد الرؤى بين أنظمة حرة أو موجهة أو فردية.
والمناخ الاجتماعي يتعلق بثقافة الحرية لدى الجمهور الذي يتلقى ما تنتجه الصحافة. وهذا يتطلب أيضاً ثقافة اجتماعية منفتحة، بمعنى قبول الشرائح الاجتماعية لبعضها البعض، وباختصار قبول الآخر. وليس بالضرورة هنا أن نقبل رأي الآخر، المهمّ أن نقبله هو أولاً.
أما المناخ الاقتصادي لحرية الصحافة، فالجانب الأساسي فيه هو الكفاية. بمعنى أنّ الصحافي أو الإعلامي لا يمكن أن يكون حراً ومستقلاً ما لم يكن مكتفياً.
وهنا المعادلة بسيطة في مجال حرية الصحافة. الصحافة الحرة تحتاج أولاً وآخراً الى صحافيين أحرار. ولكي يكون الصحافي حراً يفترض أن يكون مكتفياً، لأنّ الصحافي الجائع يسهل شراؤه وتدجينه، وما أكثر المشترين. فالكفاية شرط من شروط الحرية، مثلما هي شرط من شروط الديمقراطية. والمجتمعات الفقيرة الجائعة قلّما تنتج حريات وديمقراطيات سليمة. وقد يقول قائل إنّ بلداً كالهند مثلاً يشذّ عن هذه القاعدة. أقول نعم هذا صحيح، ولكن لا أجد لذلك تفسيراً سوى أنّ عظيماً من عظماء هذا العالم هو المهاتما غاندي استطاع ان يرسم للهند وأهلها الفقراء طريقاً مميّزاً يُحتذى به.
ولا يُخفى على أحد هنا، أنّ الأزمة التي تمرّ بها الصحافة المكتوبة في العالم أجمع، هي نتيجة التطوّر الذي حصل على صعيد الاتصالات. وقد عبّرت هذه الأزمة عن نفسها بإنتاج بطالة مخيفة في هذا القطاع. يكفي أن نشير الى أنّ الإحصاءات سجلت خلال السنوات العشر الماضية في الولايات المتحدة مثلاً أكثر من ثلاثين ألف صحافي عاطلين عن العمل. أما في لبنان فقد تجاوز عدد هؤلاء الألفين، من محررين وعاملين في قطاع الاعلام، وهذه نسبة كبيرة جداً تبعاً لمساحة لبنان وعديد سكانه.
نحن في نقابة محرري الصحافة اللبنانية توقفنا طويلاً أمام هذه الظاهرة، وقدّمنا الكثير من الأفكار والاقتراحات التي ذهبت حتى الى حدّ تمويل الصحف لكي تحافظ على ديمومتها وديمومة العاملين فيها. وقد أعددنا بالتعاون مع وزارة الإعلام مشروعاً إنقاذياً يكون مدخلاً لضمانات تحفظ كرامة الصحافيين وسبل معيشتهم. هذا المشروع الذي أقرّه مجلس الوزراء لا يزال نائماً في الأدراج منذ 5 آذار عام 2017، مثلما بقيت الأفكار والاقتراحات حتى الآن صرخة في واد.
وعليه قرّرت النقابة التحضير لمؤتمر وطني إعلامي عام، وقد أعددنا الكثير من المقترحات والأفكار والعناوين التي تبحث في المشكلة، وتقترح بالتالي حلولاً ناجعة لها، همّنا الأساسي تأمين الضمانات اللازمة للصحافيين، وأبرزها صندوق تقاعدي وضمانات صحية واجتماعية تصون شيخوختهم وبطالتهم من المعاناة. كما نرمي من وراء هذا المؤتمر الى إنجاز «شرعة وطنية للإعلام» تتحوّل الى قانون يقرّه مجلس النواب، ويحدّد الدور والمسؤوليات والحدود وميثاق الشرف الإعلامي الذي يفترض بالعاملين في المهنة الالتزام به.
أختم لأقول وأكرّر: إنّ حرية الصحافة ستبقى منقوصة ما لم تتأمّن سبل الاكتفاء للعاملين في هذه المهنة، وهذه مسؤولية مشتركة بين الدولة والنقابات المهنية، بدءاً من النقابات الوطنية مروراً باتحاد الصحافيين العرب وانتهاء بالاتحاد الدولي للصحافيين.
كلمة ألقيت في ندوة اليوم العالمي لحرية الصحافة التي نظمتها نقابة محرري الصحافة اللبنانية الجمعة 3 أيار 2019 وعُقدت في قاعة المحاضرات في مبنى بلدية الحازمية.
عضو مجلس نقابة المحررين