عندما ينبض قلب القدس كلّ أوراق التفاوض لا قيمه لها
جمال العفلق
إنها القدس من جديد، أيّ تحرك فيها يزعج دول الاعتدال، وأي نشاط مقاوم يوقظ أقلام المعتدلين. تخيفهم عندما تنتفض، وتخيفهم عندما تتكلم. في القدس كلّ أسرار فلسطين وأهل فلسطين، بل كلّ أسرار المنطقة في القدس، حيث التهويد والاعتداء اليومي العلني والسري، وحيث كلّ شيء مباح للصهاينة ولا يحقّ إلا لمن هم فوق سنّ الخمسين الوصول إلى جزء منها أو إلى باحة المسجد الأقصى.
عدي وغسان أبو جمل، كان لهما رأي آخر بعيداً من الوفد المفاوض ومن قرار رئيس السلطة أو مناورات حماس في تعطيل الاتفاق والمصالحة الوطنية الفلسطينية، وبعيداً من استعراضات أردوغان وعرب المال المتباكين على المقدسات الإسلامية والمسلمين المستسلمين لرغبة الحركة الصهيونية في خنق القضية الفلسطينية. كان قرارهما أن يعلم تيار الرابع عشر من آذار في لبنان أنّ المقاومة ليست خياراً، إنما واجب وطني وأخلاقي، وأنّ محاربة «إسرائيل» والحركة الصهيونية، لا يمكن أن تنتهي بقرار وفد مفاوض يرضى بالقليل ويعطي الكثير ويقول انتصرنا، في وقت كان فيه النائب اللبناني مروان حمادة يبعد التهمة عن «إسرائيل» في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، ويدلي بشهادته وكأنه خمسون قمراً اصطناعياً عسكرياً تعمل بانتظام، وكأنه كان جالساً أثناء التخطيط للعملية، يتحدث بثقة أنّ المتهمين هم الذين قرّرتهم الإرادة الدولية وفرضتهم على المحكمة.
كان في القدس من يريد أن يصرخ ليصمت بعدها كلّ العالم، ويربك المسؤولين الأمنيين ويشدّهم إلى شاشات التلفاز بانتظار الأخبار العاجلة، علها تأتي بخبر ينفي وقوع العملية.
إنها عملية نوعية، وإن أراد البعض توصيفها ونقلها إلى مربع الخوف، ورغم بيانات الاستنكار والشجب خوفاً على عملية سلام لم تكن يوماً موجودة، إلا عناوين أخبار وخطابات استهلاكية لم تعطِ الشعب الفلسطيني حتى اليوم أي حقّ من حقوقه.
قد يكون الدخول في تاريخ القضية الفلسطينية متعباً، لأنّ المنعطفات التي أدخلت فيها قضية فلسطين لا يقبلها عقل عاقل، فمنذ مؤتمر مدريد والانحدار مستمر، حتى جاء اتفاق أوسلو واضعاً الحدّ لطموحات شعب فلسطين بالحرية، ولن أدخل في تقييم وبحث وإدانة، لكنّ ما يحدث في فلسطين اليوم من أعمال عنصرية وقمع وجدار فاصل وحصار وتهويد للقدس، يفرض على الذين يتحاورون مع ما يسمى «إسرائيل»، إعادة حساباتهم فالعدو «الإسرائيلي» لا يؤمن بالمفاوضات ولا يهتم لها، وكل هذه الاستعراضات الإعلامية ليست إلا عمليات ابتزاز وكسب للوقت، فالتطبيع العربي مع ما يسمى «إسرائيل»، لا ينقصه سوى رفع العلم «الإسرائيلي» في العواصم العربية علناً، والاستثمارات العربية تضخّ المال في الشركات الصهيونية، لتأتي عملية القدس معرّية كل هذا ومعلنة أنّ في القدس نبضاً لا ينتهي وروح مقاومة لم تستسلم بعد.
لقد جاءت هذه العملية في وقت صار الحديث عن المقاومة تهمة، وأصبحت الخيانة مجرد وجهة نظر، وصار قتال الإخوة أقرب إلى الله من محاربة الصهيونية، فبعد سنوات من التطبيع الإعلامي وتغيير الخريطة وفرض كلمة «إسرائيل» على عقول الأجيال، على أنها واقع وليست احتلالاً، اختصرت عملية غسان وعدي أبو جمل كلّ العبارات والمقالات والخطابات، لتقول إننا سنقاوم ولا يجب أن يعيش من سرق أرضنا في سلام ونحن مشرّدون ومبعدون. والغريب أنّ أعوان ما يسمى «إسرائيل» كانوا أكثر مبالغة وأكثر حزناً من المجتمع «الإسرائيلي»، ولا ننسى أنّ الرئيس الأميركي باراك أوباما ناشد الفلسطينيين و«الإسرائيليين» الاستمرار في عملية السلام التي لم نفهم حتى اليوم، ما هي وإلى أين تتجه. فأي سلام مع كيان يدعم الإرهاب في سورية ويقيم المستشفيات لعلاج الإرهابيين ويسعى إلى إنشاء منطقة عازلة يجمع فيها المرتزقة لضرب الشعب السوري وقتل أكبر عدد منه؟ أي سلام مع كيان يقوم كل يوم بسرقة أراضٍ عربية، ويوقع على إنشاء مستوطنات جديدة؟ أهذا هو السلام الذي مازال المفاوض الفلسطيني يتحدث عنه، وهو يحتاج، كلما أراد السفر، إلى موافقة الأمن «الإسرائيلي»؟
إنّ القدس تزفّ اليوم إلى العالم أنها بخير، ومازال قلبها ينبض بالكرامة والمقاومة، وأنّ الانتفاضة الثالثة لن تكون كما تريد «إسرائيل» أو دول الاعتدال العربي المزعوم، فما يحدث اليوم في فلسطين يثبت أنّ «إسرائيل» أوهن من بيت العنكبوت وأنّ المقاومة ستنتصر، وسوف تشرق شمس الحرية الحقيقية من جديد، وتغرب شمس من دفع المليارات لربيع عربي لم تحمل إلا رياح السموم.