«قواعد العشق الأربعون»… ما بين خبايا «شمس» ونهج الكاتبة!
محمد رستم
هي رواية إشكاليّة في تفاصيلها وقفلتها، كما في شخصيّتها الرئيسيّة «شمس التبريزي» ومن العنونة «قواعد العشق الأربعون» للكاتبة التركية إليف شافاك، نلحظ كيف ولجت الكاتبة ذائقتنا الأدبيّة من باب الإيمان والقداسة حيث يرفع المتلقي الراية البيضاء استسلاماً خشيّة تخطيه الخطوط الحمراء وتصدمنا بقوة إذ تكبّلنا بالقواعد التي فرضتها وتحاصرنا بالعدد أربعين، الذي سنتحدث عنه فيما بعد كما تشير إلى العشق، وهو مرحلة شاهقة من الحبّ حيث العشق الإلهي.
والحدوتة في الرواية بسيطة إذ تتناول حياة «شمس التبريزي» وبحثه عن رفيق يعالقه فتنة الخالق، فالكاتبة مزجت مع قصة معاصرة حكاية عشق «إيلا وعزيز» وذلك بتقنيّة القطع «الكات»، فكانت تعرض بالتناوب مقطعاً من قصة التبريزي وآخر من قصة «إيلا وعزيز» وهذا ما اعتمد قبلها هذا الأسلوب كتّاب آخرون، مثل جيمس جويس في «عوليس» وأمين معلوف في «سمرقند» وطلال مرتضى في «نزاز» وغيرهم… وبلغة سرديّة شفافة وبطريقة الخطف خلفاً تعرض أحداث مرويّتها حيث يتلبس الراوي الشخصيات ويتحدث بلسانها، وعلى شراع العشق المبحر برياح الإيمان ألقى شمس بنفسه مغمضاً عينيه عن مغريات الحياة هدفه الوصول إلى الله، بوصلته في ذلك قلبه لا غير. وكل ما عداه مما يفرزه العقل من مناهج وفلسفات وأقانيم ما هي إلا خداع فكري ومتاهات في ظلام الحياة.
زاده في ذلك زهده والكثير من التهيؤات والادعاءات ولعلّ موضة البحث عن الخالق كانت سائدة، فالرواية تشير إلى الكثير من الدراويش الجوّالين سعياً وراء لقائه.. من هنا سأتناول شخصيّة التبريزي كما وردت في الرواية، فالتبريزي تلطّى برداء الصوفيّة، وهي منه براء، مهّدت له الطريق بيئة متخلّفة تنز جهلاً وفقراً وضعفاً وخوفاً وزمن هلامي رخو يحتضر وخلافة إسلامية متهالكة ينهش الأعداء جسدها من كلّ حدب وصوب. ومن الرواية «احتلّ الصليبيّون القسطنطينية وعاثوا فيها فساداً وانتشرت جيوش المغول في الشرق وفي الوسط تقتتل القبائل التركيّة فيما بينها، بينما يحاول البيزنطيّون استرجاع ما فقدوه وانتشر اللصوص وقطاع الطرق وتفاقمت الموبقات من دعارة وجريمة وفساد»… هو عالم يوشك على الانهيار في مثل هذه الأجواء الرماديّة يلوذ الناس بالوهم ويتوقون لأن تتحقق معجزات الحكايا كتعويض عن عجزهم فيعتلي الدجّالون موجة الأمنيات ليكونوا أبطال تحقّقها، وليكونوا سفينة إنقاذ تمرّ بمحاذاة تائه في بحر، وما ورد من صفات للتبريزي في المرويّة تجعله مغسولاً من كل ما له علاقة بالنهج الصوفي. فالصوفيّة اعتبرت في حينها ردة فعل على المبالغة والتمحّل في تفسير النصوص تحت إرهاب الفلسفة وكان الردّ بإلغاء دور العقل في معرفة الذات الإلهيّة واعتماد القلب بوصلة…
لذلك قام التبريزي بإلقاء الكتب الدينية في الماء ومنها كتاب «العلوم الإلهيّة» والذي ألفه والد جلال الدين الرومي ثم عاد وانتشلها دون أن تبتل، وبذلك تصنّف الكاتبة التبريزي بين السحرة والمشعوذين كما أن الرواية تدين الرومي، فالرومي يدعو في خطبه إلى جهاد داخلي، جهاد النفس ولم يدع إلى جهاد الغزاة الذين يفتكون بالناس .
ومن الرواية أيضاً: «ماذا يعظ الرومي، إنّه يدعو إلى السلام والاستسلام والخنوع إذ يعظ أن نكون مستسلمين» ص277 ص285 ، ومن هنا كان لا بد من تناول الأنساق الصوفيّة والمعطيات التاريخيّة والاجتماعيّة بل والتحليل النفسيّ لفكّ أكواد هذه المرويّة. فالرواية وإن تبدّت رواية باطنيّة هي رواية فكرة تمطّت على سرير السيرة الذاتيّة المتعالقة مع التاريخ والبطل الحقيقي هو الفكرة الصوفيّة في سعيها إلى التحقق، فهي من حرّك الأحداث تاركة انعكاسها على الشخصيّات التي بدت كحوامل لإنجاز تحقّقها على أرض الواقع وقد أكّدت الكاتبة انتصار الصوفيّة على المؤسسة الدينية المرتبطة بقداسة المدوّنات من خلال تأثيرها على «إيلا وعزيز»، حيث يقدّم عزيز كنموذج للمتأثرين بالصوفية ويأتي من أقص اليسار من الملحدين، ولعلّ سرد الرواية على لسان التبريزي، وهو قتيل يؤكّد أن الكاتبة تريد الإشارة إلى أنّ الصوفيّة باقية حتى لو قتل التبريزي والرواية بنيت على مقاس القواعد الأربعين مما حدا بالكاتبة لأن تفتعل الحدث أحياناً لتذيّله بالقاعدة. مثلا: «التبريزي يحلق لحيته وحواجبه لينطبق عليه منطوق القاعدة»، «إنّ السعي وراء الحب يغيرنا فما من أحد يسعى وراء الحب إلّا وينضج أثناء رحلته»، وهنا أقول كم يبدو فهم الكاتبة لهذه القاعدة ضحلاً، فالتغيير المقصود داخليّ وليس حلق اللحية والحواجب ولعلّ من الأفكار الخلبية أيضاً، التركيز على العدد أربعين «القواعد أربعون» ظلّ التبريزي والرومي أربعين يوماً في الخلوة، الأربعون أجمل عمر للمرأة والرجل، الوحي نزل على النبي في الأربعين من عمره، المرأة تحتاج لأربعين يوماً بعد الولادة لتنتهي من النفاس، طوفان نوح استمر أربعين يوماً، وهذا يذكرني بـ»علي بابا والأربعين حرامي» والتبريزي يضع نفسه في مصاف الرسل» ص. 120 ، إنه «لم يأت من أجل الناس العاديين بل أتى ليضع إصبعه على نبض شخص يرشد العالم إلى الحقيقة»، وعبارة «لم يأت» تشير إلى أنّه موكل بتبليغ أمر ما ولعلّ أهم صفات التبريزي أنّه كان منجماً يقرأ الطالع ويتقاضى أجراً، وهو بذلك مشعوذ دجّال وورد وصفه «هو الدرويش المميّز المجهول المليء بالفضائح ذو تصرفات غريبة وآراء هرطقيّة ووصفه الذين قتلوه بأنّه زنديق عنيد جامح، درويش مارق يكتنفه الرجس والكفر.
وقد وضعته الكاتبة في مرتبة الجنون والهلوسة، حيث يقول: «منذ طفولتي كنت أرى رؤى وأسمع أصواتاً وأكلّم الله وكان يردّ عليّ على الدوام وفي بعض الأيام كنت أصعد إلى السماء السابعة». «كأنّ أبواب السماء مفتوحة له دائماً». بمعنى آخر هو مريض وهم، مما جعل القوس العاطفي له شديد الانحناء حيث تملّك شخصيته بوادر مرض نفسي تبدى على شكل تهيؤات انعكس سيكولوجياً على تعالقه مع محيطه، فبدا ما يطرحه غريباً.
ومما يؤكّد اختلاله العقلي أو كذبه، إذ يضع نفسه في مرتبة تفوق الرسل والأنبياء يقول: «أنا لا أرى أحلاماً، إنّ هذا جزء من عهد بيني وبين الله»، والتبريزي يتنبأ ويعلم المستقبل يقول عن المومس: «ستنطلق ذات يوم في رحلة روحيّة بحثاً عن الله». أما علاء بن الرومي فيرى فيه ساحراً يقول: «إن شمساً سحر والدنا» وشمس يسيطر على الرومي فيتعلّق به إلى درجة الجنون وهذا ما يثير الريبة، يطلب من الرومي أن يذهب إلى الخمارة ويحضر الخمر لهما فيفعل .
لعلّ جريمة زواج العجوز التبريزي من الشابة كيما تلطخ وجه الصوفيّة التي يدّعيها فهرمه وحالته النفسيّة لم تمكّنه من الاستجابة لإغراءات جسد كيما الذي قدمته له على طبق من شبق.
وكأنّ شمس قد خلق مصلوباً على خشبة الحلم، عالمه الخيال ودربه العاطفة فأطفأ شمعة العقل حين تملّكته عزّة العشق وبعد أن تأبط هوى وهياماً مضى إلى نهايته يسخر من البروتوكول الوظيفي لحياته.. دون أن يدرك أنّ فكرة أوجدت الأهرامات وأنّ عاطفة هدمت طروادة..
لقد شكل العشق الإلهي لديه فاتحة لشبهات رجيمة وذلك حين جبّ أكوام الكتب والمؤلفات الدينيّة واعتبرها كلاماً في مهبّ الريح وبذلك ارتكب معصية مخالفة السائد فكانت نهايته القتل كما كل من يقترف هذا الدرب.
كاتب سوري.