علاقة روسيا وتركيا لا يحدّدها فقط اتفاق إدلب
د. هدى رزق
الخصومة التاريخية بين روسيا وتركيا، بدأت تزول بعد ان عثر البلدان على وسيلة لتحقيق أهداف أكبر مع الاتفاق على الاختلاف حول العديد من المصالح المتباينة التي ستظلّ دائماً متباعدة بين البلدين.
اتسمت العلاقات في زمن الامبراطوريات بالحروب، اتجهت تركيا بعد الحرب العالمية الثانية نحو الغرب، أما بعد الحرب الباردة فهي بدأت تبحث عن دور للتموضع، اتجهت الى نسج علاقات اقتصادية مع روسيا، ومع بداية الأزمة في سورية كان البلدان في مواجهة بعضهما البعض، دعمت تركيا المجموعات المسلحة كلياً، أما روسيا فوقفت إلى جانب الدولة السورية، ما يعني أنهما على طرفي نقيض. كان ممكناً لهذه العلاقة بعد إسقاط طائرة السوخوي الروسية ان تتدهور بشكل دراماتيكي أكثر بعد وصف بوتين عملية إسقاط الطائرة بأنها «طعنة في الظهر»، إذ لم يحدث شيء مماثل بين روسيا وأيّ عضو في الناتو خلال خمسة عقود.
وبما انّ روسيا كانت سوقاً رئيسية للسلع والخدمات التركية، قامت بفرض عقوبات اقتصادية قاسية على تركيا، لكن تحرك بعض مراكز القوى الاقتصادية في البلدين والعمل على الوساطة والعمل الدبلوماسي من أجل إصلاح العلاقة أدّى الى إعادة العلاقات تدريجياً بعد اعتذار الرئيس التركي وهي أيضاً سابقة. بيد أنها اصطدمت في ما بعد بقيام ضابط شرطة تركي متطرف بإطلاق النار وقتل السفير الروسي لدى تركيا أندريه كارلوف.
أيقن بوتين أنّ هناك من يعمل على توتير العلاقة بين موسكو وأنقرة فتجنّب الصراع وردّ الفعل. وقف الكرملين بشكل قاطع خلال محاولة الانقلاب في تركيا تموز 2016 الى جانب الحكومة حتى قيل انّ المخابرات العسكرية الروسية نقلت إلى الجانب التركي تحذيراً بشأن الانقلاب الوشيك، وأدّى الانقلاب الذي تمّ إحباطه إلى تقريب البلدين.
التعاون الروسي التركي على الأرض في سورية هو بمثابة تطوّر رئيسي لكيفية قيام القوى الإقليمية ببناء علاقات. بدأت أنقرة العمل الدبلوماسي وأقنعت روسيا في الواقع بإقامة منطقة عازلة منزوعة السلاح بين المناطق التي يسيطر عليها مسلحون والمناطق الخاضعة لسيطرة الجيش السوري بموجب اتفاق سوتشي الذي تمّ التوصل إليه في 17 أيلول/ سبتمبر 2018.
كان على جميع عناصر هيئة تحرير الشام الإرهابية مغادرة منطقة التصعيد قبل نهاية عام 2018، لكن هذا لم يحدث. على الرغم من القصف الجوي اللاحق الذي قامت به روسيا والجهود الدبلوماسية المكثفة التي بذلتها تركيا، رفض معظم مقاتلو الهيئة السوريون التسريح أو الانضمام إلى فصائل «الجيش الحر» المدعومة من تركيا.
أخفقت أنقرة في تطبيق اتفاق سوتشي، بدأ صبر الكرملين يتلاشى، تشعر موسكو بالقلق المتزايد إزاء تحركات تركيا في شمال سورية، وهي تعتقد أنّ المحادثات الجارية بين تركيا والولايات المتحدة بشأن شمال شرق سورية قد تؤدّي إلى تغيير ميزان القوى لصالح واشنطن، هي تدعم علناً تقدّم الجيش السوري في جنوب إدلب، معتبرة أنّ وقت الحلّ العسكري قد حان.
تراجعت حدة القصف على إدلب بعد الاجتماع في 8 نيسان/ ابريل في موسكو بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب أردوغان. قرّرت روسيا بعد يومين فقط من اجتماع أردوغان – بوتين سحب قواتها من تل رفعت في خطوة إيجابية اتجاه تركيا، كان واضحاً انّ الكرملين يقدّم بعض التنازلات إزاء اعتراضات تركيا على هجوم إدلب. لكن مجريات الأحداث أظهرت أنّ تركيا قد استنفدت صبر موسكو. وكان من الواضح أنّ استراتيجية أنقرة من أجل الموازنة في علاقتها بين روسيا والولايات المتحدة لم تنجح.
إذ سعت لتطهير القوات الكردية في المنطقة الممتدّة من تل رفعت إلى منبج، حاولت الحفاظ على العلاقات مع روسيا لإحياء جهود التصعيد في إدلب ومواصلة حوارها مع الولايات المتحدة لإقامة المنطقة الآمنة في المناطق التي يسيطر عليها الأكراد في آن معاً.
هذه الاستراتيجية لا ترضي كلّ من الولايات المتحدة أو روسيا. لذلك يأتي هجوم إدلب كإشارة واضحة لهذا الفشل الاستراتيجي التركي وهو أسلوب روسيا لتقول لتركيا إنها لن تسمح لأنقرة وواشنطن بإقامة اتفاقات جديدة في سورية دون موافقتها. توقيت الهجوم جاء مع تكثيف المفاوضات الدبلوماسية بين تركيا والولايات المتحدة حول المنطقة الآمنة، طلبت الولايات المتحدة من تركيا تأخير شراء صواريخ «أس 400» الروسية حتى نهاية عام 2019، لكن تركيا تنفي أيّ تأخير.
امتدّت الاشتباكات إلى مناطق توجد فيها بعض مراكز مراقبة تركية بالإضافة إلى الهجمات على المواقع التركية. تقدّم الجيش السوري سيمكّنه من السيطرة على طريق حلب اللاذقية السريع، ومن ثم المنطقة بأكملها التي توجد بها مراكز مراقبة تركية. الأهداف الرئيسية هي مدينتا خان شيخون ومعرة النعمان، وكلاهما على الطريق السريع M5، الذي يربط حماة وحلب، إذا سيطرت قوات النظام على هاتين المدينتين، فسيتمّ فتح الطريق المؤدّي إلى حلب وستدخل المدينة الثانية الأكثر أهمية في البلاد سيطرة كاملة على دمشق، هذا سيقوّي يد الدولة السورية غرب نهر الفرات.
زادت مخاوف أنقرة بسبب الموجة الجديدة من اللاجئين والهجرة الجماعية نحو الحدود التركية. اتصل أردوغان ببوتين في 14 مايو/ أيار للتعبير عن قلق تركيا بشأن الوضع، مشيراً إلى أنّ قوات النظام كانت تستهدف المدارس والمستشفيات والمدنيين. وألقى أردوغان باللوم على الأسد في تقويض الجهود المبذولة لتشكيل لجنة دستورية في إطار محادثات السلام في أستانا بقيادة إيران وروسيا وتركيا، لم تصرّح روسيا بشأن المكالمة إلا بما يخصّ محاربة الإرهابيين. هل يمكن التكهّن بانّ اتفاق إدلب بين روسيا وتركيا قد سقط؟
ستبقى تركيا واحدة من الدول الشريكة المهمة في السياسة الخارجية لروسيا. لكن يمكن للطرفين ان يكونا في مواقف متعارضة ولن يكون هذا الأمر مفاجئاً – كلاهما يسعى للحصول على مكان خاص به في تشكيل العالم الجديد، لكن التعاون مستمرّ في مجالات عدة تبرز من خلال التعاون العسكري في ما يخصّ الـ «اس 400».
وقطاع الأمن الداخلي حيث أتت زيارة رئيس الحرس الوطني الروسي فيكتور زولوتوف الى أنقرة المقرّب من الرئيس بوتين من أجل تبادل المعلومات بين الحرس الوطني الروسي وقوات الدرك التركية، أراد الروس أن يطلعوا على الهيكل العام لقيادة الدرك التركية وعملياتها والعمل على تبادل المعلومات المفيدة بين دولتين تربطهما روابط وثيقة. يمكن أن يتمّ تقديم خدمات أمنية من «روزغافديا» التي يترأسها زولوتوف في محطة اكيوي للطاقة النووية، التي تقوم ببنائها شركة الطاقة الذرية الروسية، «روزغافديا» تساهم بحماية الشركات الخاصة في روسيا ويمكنها أيضاً حماية خط أنابيب الغاز الطبيعي «توركستريم» بإمكانها أيضاً المشاركة في التدريب والتمارين مع شريكها التركي لضمان النظام العام، كما يمكن أن تكون المدرّب والمنسّق وحتى شريك لشركات الأمن الخاصة في تركيا. يشمل هذا التعاون تبادل المعلومات حول المنظمات الإرهابية والجريمة المنظمة. ولا يمكن التكهّن بردّ فعل الغرب حول هذا التعاون لا سيما في القطاع الأمني التركي؟