«موعد للفراق»… مماحكة النقد ونبض الشارع!
طلال مرتضى
بعيداً عن مشاغلة الكثيرين من النقّاد لنا، عبر مقولاتهم النقدية ومفاتيحهم التي تنحو نحو حجّة قيامة النصّ وفنّيات معماره، هناك نصّ خالص الخصوصية، نصّ قائم بذاته لا ينتظر من يقومه ويضعه فوق سكّة التقويم أو التقييم أو فتح مسارب وبوابات الاستدلال له، كي ينجو بفعالية مختلفة عمّا سواه من النصوص التي تسمع ـ كقارئ افتراضي ـ عن سابع قراءة رنين جرسها الموسيقي وتشعر بمستوى ارتفاع منسوب شعريتها المصطنعة حدّ الطمي..
فيما أشرت بجملة «نصوص قائمة لذاته» لا يعني كلامي أنها خارج مسارب النقد أو مكنونات دواله، فالنصّ الذي لا يقبل النقد، مؤكداً بأنه نصّ كتابي بليد وليس متغيراً. ومن هنا جاءت كلمة النصّ المتغير لتكسر سطوة هذا البليد، لكن السؤال الذي يجرنا نحو استبيان كل هذا وذاك، هو شرح ماهيّة تلك النصوص المتغيرة والنصوص الكتابية القائمة لذاتها، والسؤال التالي يقول، أليست نصوص الحياة اليومية متبدلة، هل يبقى نصّ «الشارع» كما كتابته أول مرة، من خلال النظر إلى تحوّلاته على الأرض، وأسئلة جمّة لا تنتهي؟!
نعم.. نصوص الحياة أو اليومي أو ما أُطلق عليه كتابات الشارع بالفعل هي متغيرة، ولهذا نجدها توارب عن قصد آلية النقد، فهي كل يوم تتبدّل مثل الطقس، لها تحوّلها الخاص الذي يرسمه بطلها أو شخوصه..
من هنا أقول، ليست كل الشخوص التي رصدها المصري حسام أبو العلا في منجزه «موعد للفراق» مجموعة قصصية، ثابتة، فالكثير من أبطالها ذابوا في القفلات ومنهم استطاع التمرّد والخروج من حاشية القصة ذاتها ليكابد الشارع من جديد.
كما أسلفت فإن قصص حسام أبو العلا استوفت شرطها الفنّي من دون إرباك. فالقصص قامت على التدرّج البياني، من حيث التمهيد والمتن الحبكة لتنتهي بخاتمة مفتوحة أو كلاسيكية المعطى والأمر سيان. لكن السؤال الذي دهم الحكاية ـ قبل الولوج في غياهب مكنونات القصص بدل موازين الحكي على الورق ـ ما الجديد الذي قدّمه حسام أبو العلا في مضامير القص في وقت صار الكلّ قاصاً أو شاعراً؟
لعلّ الإجابة على هذا السؤال يجدها قارئ حسام في التفاصيل الصغيرة أو من خلال ما تتضمّنه القصص من مدلولات وإشارات تشي بأن الكاتب ذهب لتأسيس مقولته هو، مع العلم أن هذا الأمر في غاية الصعوبة، فمن السهل أن يؤسس الكاتب مقولة خاصة به من خلال مزاولة القصيدة على سبيل المقال أو الرواية، لكن الأمر مختلف كلياً في كتابة القصص القصيرة، لأن القصة تختلف عما غيرها، فهي تحمل أنفاساً جديدة لبطل جديد في كل مرة ونفسها ضيق وقصير، ومعاناة مختلفة لكل بطل عما سواه في قصة أخرى وإن تساوت قصص الحياة.
نجح حسام أبو العلا حين اقتحم الشارع ودوّنه كما هو بأبيضه وأسوده دون تنميق، فمن السهولة أن يترجم أيٌّ منا مشاعره حول وجعه أو فرحه، فنجد الشاعر الذي يتحدث عن موضوع ما في نصه الشعري قد ترك الكثير من حواسه في النص أو الراوي الذي اشتغل بانهماك على بناء شخصية مروّيته، لا بد له إلا أن يترك أيضاً شيئاً من شخصيته الذاتية في تركيبة بطله المفترض، لكن الأمر مختلف في القصة القصيرة، فتشكيل الشخصية القصصية يحتاج إلى مقوّمات عدة ودعم عضوي داخل تلك الشخصيات لتنفذ بسهولة إلى جوانية القارئ. فشخصية الرواية أمدها طويل واستذكارها يتكاثف مع تعدد الأحداث وتواترها، لكن في القصة التي تقوم على حدث وحيد لا بد لها أن تكون مثل رمية القناص المحترف، فمجرد الضغط على زناد القراءة يجب أن تصيب مقتل القارئ.. نفذ بهذه الميزة حسام أبو العلا، من باب أن قارئه لا بدّ له إلا أن يتلمّس جبينه وقت القراءة ويتوقف طويلاً عند الخاتمة ليتساءل، هل يعنيني حسام أبو العلا فيما أشار أو لمز أو غمز في قصصه؟
وحده هذا السؤال هو الجواب الفعلي للكتابة الناجحة، كتابة الناس، وهنا لا بد لي أن أتوقف عن الكتابة وأختبئ وراء وجهة السؤال الذي باغتني ككاتب عالقَ ولمدة يومين «موعد للفراق» عبر سفري بالقطار لمسافات طويلة نحو عملي، وهي ما فتحت لي باباً للمعاينة الفعلية والموازنة بين ما كتب حسام والشارع الذي أنا ابنه، كيف يكتب الكاتب الناجح نبض الشارع؟
توقفت عند أول السطر ولساني يلهج بالجواب الذي نمقته ككتاب، الجواب السهل الممتنع الذي يشبه لغة المصري حسام أبو العلا، يتحقق ذلك عندما نتخفف من أنانا وننزل طوعاً من برجنا العاجي الخاوي إلا من الهرطقة.
كاتب عربي/ فيينا.