الأوطان المرذولة

نضال القادري

في بريطانيا حجزت المرأة المقامرة «تيريزا ماي» بطاقة التأهل الأخيرة إلى «نادي البكائين» على خروج بلادها من جنة الاتحاد الأوروبي. أما أن يتجادل الأباطرة في بيروت على حالة موازنة الدولة الساقطة لسنة خلت فذلك مردّه لنوبة من الضحك النادر الذي تنتقل حالة عدواه فقط في حالتين: الأوطان المسبية، والأمم المذلولة التي شبعت من جوع أهلها. هذا إذا أردت إفقار شعب أكثر، أكثر له من دور العبادة. مزهوّاً يدخلك من أنبوب السماوات ويتوّجك ربه الثاني! لست أدري لماذا نعبد ربين يتصارعان على كسب محبتنا. ألا يلزمنا للعلاج تشييد بعض المشافي النفسية؟ ربما أقلّ عدداً من المساجد والكنائس ودور العبادة التى لا تُحصى في بلادي. كثيرة هي صروح الله، منازله كثيرة، كتناقض الرب الموحى به في التجلي بأكثر من رسالة، والتكوّر الذي لم يحدث يوماً في هالة واحدة كاملة. هو وطني كذلك بعد لم يتكوّر، ولم يحدث، إنه يتراكم، إنه يوحى به. أعشق أسماء الله الحسنى، لزادي أكتفي بها كلها، وببعض من شخير هذا الوطن. أقدّسه في الموت، وكلما بعث للحياة أكثر. الزهد ولادة كاملة، التصوّف حياة ناهضة، ونحن أقلّ أنسنة في دويلات وماكينات الصقل. نحن لم نولد بعد، نحن لم نعشق، لم نتحسّس تبر ذواتنا بعد، وأكثر.. نحن نتصارع في بركة موحلة من ظلام موغل بالأسود الحاد الذي لا يليق.

ياه..! «يا ظلام السجن خيّم.. نحن لا نخشى الظلام». بتّ أخشى كلّ شيء. العمى يأكل البصائر. البطولات الكبرى تضاهي الخيانات الموصوفة. العمى يقضم من قماشة الإرادة، يوشم أديم الأرض، ويباغت أزمنة التواضع والأودمة والأكابرية. التجميل حالة معاصرة. لكلّ حالة شاذة «بوتوكس» يرد هيولى المقاسات إلى جميل. التورّم والانتفاخ يكبر أحلام العاجزين. العتق من «ترندات» المنتفخين انتصار شاذ في وطن يشذّ عن الانتصار بنا. صار الانتصار عتيقاً أحمر من أعناب حزن اديولوجي ارتكبناه معاً، واغتصبناه ذات يوم معاً، وشركتنا الوحيدة الباقية في عباب الضحية تفاحة جديدة من شجيرات الطريق تسقط في جرح لا يسدّه مقبض أي طبيب. كأني أرى زمان الاشتهاء قد استوى بالتفاحة المنحوسة الأولى. ربما، منذ سقطة آدم لم يعُد لدينا انتهاء أو شفاء.

محن هذه البلاد كثيرة، استهلكتنا بحب فائض من طوافانات، ووصايات وانتدابات، ومقاومات ملوّنة، واستقلالات مبتورة، والبقية تأتي في متعة تتوالى. محن البلاد المرذولة لا أجزم أن لها نهاية عند كاتب، أو لها عقدة مخرج واحد. لا! أجزم أن عقدنا كثيرة. لم نكتف بعاشق واحد، ولم نرتوِ بعد كل هذا الاشتهاء. ها يتمدّد وباء اشتهاءاتنا في جسد المزرعة. الاقتباس يتسع للكثير من جنوننا، وعشقنا المحرّم، وحقارة أحلامه، ومشروعية الإثارة.

الأوطان المرذولة، تكتفي بنا حين يشبع الآخرون من تبخير بنوكها، وتهجير طاقاتها، وسرقة خيراتها الكثيرة، وتلميع نحاسها، وإخفاء ذهبها العتيق، وإفساد منتجيها، وتقديس غلالها الرخيصة، وإعلاء شأن السراقين فيها وإحلالهم بدل الأمناء! ألا من يفتح لنا صفحة كبيرة أو كتاباً كاملاً يتسع لحزننا وجرحنا وندمنا في كتاب «غينيس». حينما تهتز خاصرة الكرة الأرضية لرقصنا فوق محارق النفايات. حينما نصبح أكبر مزبلة في العالم أو في التاريخ لا فرق. حينما تتناسل كبريات السرقات في أفقر بلد اعتاد أولاد الحرام فيه على التسكع في مؤتمرات البهدلة الطوّعية والشحادة الدولية. إذا كان هذا هو القضاء والقدر، فلتكن هذه الأوطان المرذولة مقابر جهازنا المناعي، يا لنقصنا! يا لنقصه! يا لموتنا الجماعي.

نحن الجاهليين، سنناً بائدة نقتفي، نسوح في بلاد تماثيلها من شمع وماء. في أحداث البلاد الكبرى والصغرى لا تنفع عقاقير التقوى. العقل يغرق في جدلياته، دورانه يحاكي الكلاسيكية، الماضوية عبء شرقي سريالي. الروتينيات القاتلة في جمودها لا ترسم للأحداث المادية أحجاماً صالحة للنمو. بعض الأشكال موت، وبعض الأحجام موت! يقول الأديب نجيب محفوظ: «لا نموت حي تفارقنا الروح وحسب، نموت قبل ذلك حين تتشابه أيامنا ونتوقف عن التغيير، حين لا شيء يزداد سوى أعمارنا وأوزاننا». لكن من قال إن ليس للموتى أحلامهم المشروعة؟!

نعم، حين نقدسهم بأحلام الفاعلين، وحينما نقيم نصباً لهم وتذكاراً. كيف يكون للوطن معنى واحد تحت قباب مزارعنا المقدسة؟ لم يعد لدى الساسة والأحزاب من شيء إضافي لتحشوه في أنوف جماهيرها المتعاظمة سوى الشخير بأحجام مختلفة في حالات الذروة القصوى. هذه هي نماذج النسل العاطلة في الأوطان العاطلة. الأوطان المعطلة عن التفكير في كلّ شيء. في المزرعة السعيدة عينها، إنّ «الفئران» تخاف «القطط» السوداء فوق ضريح الأسئلة. إن «الأغنام» أيضاً لها أحلامها المشروعة بألا تذبح في أعياد المتديّنين والعلمانيين والملحدين وأصحاب ذوي الاحتياجات الخاصة والعامة كلها!

إنّ الأوطان تبلسم جراحاتها المعمّرة بعرق فلاحيها، ودماء شهدائها، وشغف البنائين المنتجين من أبنائها عملاً وغلالاً ومعرفة حرة جميلة. وإذا تفشت بين هياكل البنيان المرصوص سموم الغريب، وصار البنيان ينوح بالمرضى والمجانين، وبالسراقين، وبكذبة القوم ومعوّقي الضمير، لا ترذل البنيان بل أصلح ذات البين، أو ما بين بين. لا تذهب بغريزة الحكم عند مشاهدة بنيان المشافي الكبيرة الشاهقة على أنها دائماً مفتاحك إلى الشفاء والصحة الأكيدة. هي تشبه أوطاننا الكبيرة والصغيرة، وأحياناً تضاهيها في ضآلة الحكماء والأطباء. أما في حالات الحشرة واستعصاء العقاقير، وفساد مفعولها، قل أين العقل. لا تقلْ مات العقل. نحن مجانين هذه البلاد الشرعيون. أما وقد أعطبتنا الحروب.. نعم، وتفنن عند مشانق إعدامنا العبثة من المراهنين والمراهقين.. نعم. لا تقل انحسرنا في العقل الماضوي خرفاناً وزرافات قانعة بما تيسر من مزامير التقهقر وأناشيد من هانوا.

على هامش البلاد المرذولة سأقصّ حكاية مهولة. إن قائد «الأمة النازية – أدولف هتلر» لم يكن معادياً لليهود كما تزعم الرخيصة الكثيرة من الروايات. لقد كان «القائد» صديقاً لكل أعدائه. لقد كان عادلاً بين الأصدقاء فأنصفهم جميعاً بالموت الرحيم. كان الموت أقصر الطرق من أجل تفوّق وانتصار العرق والقضية. الدعاية اليهودية هي الأخرى انتصرت لضحاياها إعلامياً وصورت لكل «العالم» المخصيّ أن النازية عدوة اليهود واليهودية والصهيونية. أما اليهود واليهودية والصهيونيّة فلعبة مملّة واحدة تمارس القتل الجماعي والترهيب في «الهلال الخصيب». هي تشبه كرة «القائد» التي أصاب بها جمهور أصدقائه. أما نحن «قبائل» و «شعوب» هذا «الهلال الخصيب» بعضنا أصدقاء بعضنا، نتناوب العدل في ظلم الرعية، قابعون في عنق الموت الرحيم، وإن ظلم ذوي القربى أشد مرارة.. وحتى لا تتفشى ظاهرة الأوطان المرذولة، تستدعي قضية البلاد سلوك طرائق العقل الحكيم، وبه نقول: كش ملك، وجوب ما سيحدث القضاء على المرض، لا القضاء على المريض.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى