الطوائف والنفوذ الخارجي ورثة دولة لبنان
د.وفيق إبراهيم
دولة لبنان في مرحلة تخلٍ عن أدوارها الاستراتيجية لأنها لم تتمكن في موازنتها من الإجابة عن مسألتين: ماذا ننتج للاستمرار في تطوّر المجتمع ودولته؟ وما هي الوسائل والاساليب الداخلية والخارجية التي تؤدي الى ذلك؟
يمكن هنا الجزم بأن مشروع الموازنة الحالي، ليس إلا «حسبة» رجل مقامر ومتهتك يريد تخفيف نفقات بيته من خلال التضييق على أسرته في حركة استهلاكها للعلم والغذاء ومجمل شؤون الحياة فيسرق ما استطاع توفيره وما قد يأتيه من ديون الخارج و»الغاز» المقبل بدعوات حميمة من آلهة الطوائف وبالتالي الحكومة وموازناتها العجائبية.
ألا يحق لهذا اللبناني المهموم سؤال واضعي يدهم على بلاده، ماذا فعلوا في مرحلة ما بعد اتفاق الطائف من 1992 وحتى الآن ببلد يخرج من العصر بأسوأ حكم ترك كل شيء على غاربه وسطا على موازناته، فلا كهرباء وماء وعمل وأمن مقابل تضخم غير طبيعي، وبطالة تفاقمت مع انسداد أسواق الخارج أمام الشباب اللبناني ودين عام أدرك المئة مليار وحركة فساد غير مسبوقة في تاريخ الأمم وقادة طوائف تنهش الإدارات وتستعبدها لمصالح تقوية زعاماتها.
إنها «حريرية سياسية» اجتاحت البلاد لتجعله مستتبعاً للنفوذ الإقليمي السعودي والاميركي، ففتحت صناديق الدولة اللبنانية المملوءة من الديون الخارجية لزعماء الطوائف.. ورهنت لبنان للمصارف والخارج حتى يوم الدين.
فهل تطابق هذه الموازنة مصلحة لبنان؟
للإجابة عن سؤال «ماذا تنتج» كان يجب على الحكومة دراسة إمكانات لبنان وتفعيلها. فتكتشف أن البلد تعتاش من ثلاثة موارد: قطاع الخدمات، الاغتراب، والغاز في مراحل لاحقة.
لجهة الخدمات فهي حركة الترانزيت والسياحة والمصارف بين لبنان والدول العربية، بما يفترض وجود حدود لبنانية مفتوحة مع البلدان العربية الى الأردن والعراق والخليج عبر سورية المنفذ البري الوحيد؟
لكن حكومة لبنان تواصل استعداء سورية وتتحوّل أداة لتنفيذ سياسات الخارج في منع النازحين السوريين من العودة الى بلادهم والتنسيق في علاقات الترانزيت والاستيراد والتصدير والسياحة.
فهل جهزت حكومة الحريري بنى تحتية وأمناً في مناطق الاصطياف، ورفعت الزبالة من الطرقات وبنت مصافي لتكرير المجارير التي تصب في بحر لبنان وأنهاره حتى تجذب السياح والمصطافين الى واحدة من أهم نقاط قطاع الخدمات اللبناني.
وهل لحظت الموازنة الحالية هذه الأمور؟
ولأنها لم تقترب منها فلا لزوم للاقتراب من الوسائل والأساليب التي تؤدي الى ذلك، انه اذاً اسلوب المحافظة على الامتيازات الطائفية باساليب الخفة والرشاقة.
بذلك تحافظ الموازنة على مفاهيم الإمساك الطائفي «بالاتفاق العام» بموازنة احترافية تنأى فيها عن إقرار معالجة اساسية للهدر والفساد والواسطات والمحسوبيات.
هناك استمرار إضافي في «أسر» مؤسسات عامة يجب أن تحظى باهتمام وطني وتحصين قطاعات أخرى ضمن حمايات دولة الطوائف.
الضحايا هم المدرسة الرسمية والجامعة الوطنية والجيش والإعلام الرسمي.
اما المحظوظون فهم القضاء والمصارف والجمارك والمعابر السريّة والأملاك البحرية والفساد الإداري والحكومي.
ولأن الطوائف لديها مدارسها الطائفية الخاصة فهي تضع المدرسة الرسمية في إطار الحد الأدنى من المهام العلمية الموكلة بها، وذلك على مستويين: الاستمرار في تقليص الإنفاق والعبث في مستوى المعلمين واماكن تدريسهم. فبدلاً من تلبية الحاجات التعليمية للانتشار الجغرافي وعلى مقاساتها، تستجيب الحكومات للضغط السياسي، بما يؤدي الى تقليص دور المدرسة الرسمية مقابل هيمنة مدارس الطوائف وكل الطوائف.
وكذلك الجامعة اللبنانية التي هيمنت عليها السياسة وسيطرت على أكاديميتها التي كانت مقبولة وحوّلتها الى ما يشبه دوائر الاحوال الشخصية.
الاسباب هنا نفسها وهي تنشيط جامعات الطوائف للسيطرة الثقافية على عقول الشباب والاستمرار في تطويقهم ضمن زعامات الطوائف.. لذلك فالجامعة اللبنانية لم تعد جامعة المجتمع التي كانت تنتج شهادات تؤهل فقراء لبنان للانتقال الى الطبقة الوسطى.
ماذا عن الجيش؟ كلما اشتدّ ساعد الجيش استطاع ان يؤدي دوراً وطنياً في الدفاع عن البلاد، وهذا ما لا تريده السياسات المرتبطة بالخط السعودي ـ الأميركي، لذلك فالعمل جارٍ للإمساك بالجيش على مستوى القيادات والتمويل والتسليح الأميركي الحصري، أي انه تسليح يكاد يكون للزوم الأمن الداخلي فقط، ففيما تتجه تركيا والسعودية وقطر وإيران لشراء اسلحة روسية، يمنع السعوديون والأميركيون لبنان من قبول هبات اسلحة روسية أو ايرانية ـ نوعية، مصرين على انواع اميركية خفيفة.
لماذا هذا الإصرار لوضع الجيش في موقع المناهض للمقاومة أو في وضعية غير المستعدّ لمشاركتها.
لجهة وسائل الاعلام فان التلفزيون والاذاعة ووكالة الانباء الوطنية، بما هي مؤسسات عامة، هي الأضعف من نوعها، لسيطرة الحكومة على التعيينات غير المتخصصة إعلامياً فيها، وضعف الإنفاق عليها، فتصبح على شاكلة إدارات هزيلة تواصل عملها من دون ان يشعر بها أحد. وتلبي حاجة الحكومة الى التوظيف من دون أن تؤدي الدور الطبيعي للإعلام وهو المشاركة في صناعة الرأي العام، فتستفيد من ذلك المؤسسات الإعلامية التلفزيونية التابعة لزعماء الطوائف والاعلام الغربي.
لذلك فإن دولة الطوائف تستند الى قوى أمنية تعتقل لها المتهمين والمعارضين وتسيطر على قضاء يحكم عليهم. فهذا ما تحتاجه بالإضافة الى منابع الفساد في الجمارك والأملاك البحرية والمعابر السرية المحمية منها، مع استمرار مكثف للفساد والهدر وسيطرة شبه كاملة للمصارف الخاصة وصديقها في المصرف المركزي..
لا شك في النهاية أن أموال سيدر آتية إنما الى أين؟ ذاهبة الى الوجهة نفسها التي التهمت المئة مليار دولار من الدين العام..
وما يحمي هذا النهب المنظم للدولة ، هو غياب قيادات فعلية للحراك الاجتماعي كالنقابات والاحزاب مع اعلام مواكب غير موجود إلا حسب مصالحه الخاصة.
بانتظار تشكل هذه العوامل، فان موازنة تصريف الاعمال «ماضية» في خنق اللبنانيين بمباركة من الدين والدنيا والسياسات الخارجية.