تراجع الجهوزية القتالية يلجم النزعات العدوانية الأميركية
حتى العقد الأخير اعتادت الولايات المتحدة على استخدام فائض القوة العسكرية لشنّ الحروب واختلاق الذرائع والأعداء، سواء حقيقيين أو متخيّلين، وكانت تمضي غير آبهة بالمعارضات الداخلية والخارجية لجولاتها الدموية المقبلة فبنيان نظامها الاقتصادي «الحر» يرتكز على بسط هيمنة واشنطن على المستوى الكوني و»حماية مصالحها المستغِلة للثروات الطبيعية» عبر الآلة العسكرية.
لكن العشرية الأخيرة شهدت تراجعاً اضطرارياً في شنّ الحروب يعكس انخفاضاً لافتاً في الجهوزية القتالية للقوات الأميركية يتمّ التستر عليه بما يمكن وصفه بـ «الهوبرة» والتصريحات النارية، ويساعد في التستر على العجز الميداني إصرارها على ارتفاع متصاعد في إنفاقاتها العسكرية. فميزانية البنتاغون للعام الجاري، 2019، بلغت 715 مليار دولار، وصادقت لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ، الأسبوع الجاري، على مشروع ميزانية للعام المقبل تبلغ 750 مليار دولار وربما سيُضاف لها بنود تبرّر زيادة بعض الميزانيات المخصصة، في سعار سباق تبادل المصالح بين قادة الكونغرس.
خيارات ومناورات القوات الأميركية في الخليج
التموضع العسكري الأميركي المكثف بالقرب من منابع الطاقة في المنطقة العربية، تجسّد بإرسال واشنطن إحدى أكبر حاملة طائرات في ترسانتها وقاذفات استراتيجية أيضاً بالإضافة لقواتها وترسانتها المتواجدة أصلاً في عموم المنطقة من المحيط إلى ما بعد الخليج.
ثلاثية الاستراتيجية الأميركية الذهبية: الحرب، الاحتواء أو التفاوض قلبته المؤسسة الحاكمة، لا سيما الأجهزة الأمنية والاستخباراتية، رأساً على عقب بإقرارها فشل سياسة احتواء إيران على مدى عقود أربعة، سواء بالترهيب أو الترغيب وتحاجج أنها ترمي لفرض خيار «التفاوض» على إيران بالقوة العسكرية.
قرار الحرب، على الشقّ المقابل من المعادلة ينطوي على آلية خاصة به، من الإعداد وتشكيل التحالفات لمحاصرة وعزل الخصم وصولاً لساعة الصفر. وهذا ما ننوي تسليط الضوء عليه لسبر أغوار الخطوات الأميركية التصعيدية خاصة الأوضاع الذاتية للقوات العسكرية الأميركية إنْ كانت مهيأة لخوض حرب «مفتوحة»، كما يحذر منه كبار القادة العسكريون في واشنطن وحلف الناتو، خارج سياق القوة العسكرية الصرفة التي باستطاعتها إحداث تدمير هائل في غضون ساعات قليلة لكن ليس بوسعها حسم نتائج الميدان بذات السرعة أو الرغبة.
قبيل أفول عام 2018 أعلن الرئيس ترامب عن حتمية «عودة كافة القوات العسكرية» من سورية ما لبث أن ناقضه مستشار الأمن القومي جون بولتون، مطلع العام الجاري، بالتأكيد على بقاء القوات الأميركية في سورية لفترة أطول، وتناغم الرئيس الأميركي مع ذلك مسنوداً بقراره للإبقاء على «400» عسكري هناك لبعض الوقت.
بعض القيادات العسكرية الأميركية لم يرقها تخبّط تلك القرارات التي «تزيد من أعباء القوات والموارد الأميركية» في مستنقعات الشرق الأوسط على حساب ساحات مواجهة أخرى هي بحاجة ماسّة لتلك القوات.
وأعرب قائد القوات الأميركية في المحيط الهادئ، فيليب دافيدسون، عن خشيته من تبديل الإدارة الأميركية للأولويات الاستراتيجية ممثلة بالتصدّي «لصعود الصين وروسيا» وتسخير موارد ضرورية لمنطقة الشرق الأوسط.
وأوضح أمام حشد لجمعية القوات البرية الأميركية في هواوي، 23 أيار الماضي، أنّ بلاده «.. تواجه تهديدات جدية، لا سيما من قبل جمهورية الصين الشعبية». واستعرض دافيدسون تناغم كلّ من روسيا والصين على تقييد حركة الولايات المتحدة في مياه الشواطئ الآسيوية وبأنهما «تسعيان لإنتاج نظام دولي جديد.. حيث تُخضع الدول الصغيرة والكبيرة سيادتها لمصالح دولة واحدة». وفي شهادة له أمام لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ، 12 شباط 2019، أضاف دافيدسون كوريا الشمالية إلى قائمة التهديدات التي تواجهها بلاده في آسيا.
وشدّد دافيدسون في شهادته المذكورة على أنّ الصين غافلت الولايات المتحدة وأضحت «تسيطر بالكامل على بحر الصين الجنوبي.. وفي كافة سيناريوات المواجهة في تلك المنطقة دون الدخول في حرب مباشرة» مع واشنطن.
ما ورد سالفاً هو جزء يسير من تحذير القيادات العسكرية الأميركية المتمرّسة من توسيع رقعة انتشار القوات الأميركية وتبديل صنّاع القرار للأولويات الاستراتيجية لاعتبارات بحت سياسية، أيّ الإبقاء على «ردع» روسيا والصين ومنع تمدّدهما.
وفي ذات الفترة الزمنية صدرت دراسة معمّقة لمعهد السلام الأميركي، الملحق بوزارة الخارجية، تشرين الثاني/ نوفمبر 2018، شارك فيها كبار القادة الاستراتيجيين في المستويين السياسي والعسكري، حذرت من «تآكل التفوّق العسكري الأميركي لدرجة مقلقة.. وقدرة أميركا في الدفاع عن حلفائها وشركائها وحتى مصالحها الحيوية أضحت مبعث شك متصاعد».
قوات أميركية إضافية
في أحدث خطوة تصعيدية أعلن البيت الأبيض عن إرسال 1.500 عسكري أميركي إضافي لتعزيز التواجد العسكري في مياه الخليج والدول القريبة من إيران أرفقها بموافقته على بيع السعودية والإمارات صفقات أسلحة جديدة تبلغ قيمها نحو 8 مليارات دولار.
فبالإضافة لحاملة الطائرات ابراهام لينكولن والقطع البحرية الأخرى المرافقة لها، أجرت القوات الأميركية مناورات عسكرية في مياه الخليج بالقرب من السواحل العُمانية، شارك فيها سلاح مشاة البحرية، المارينز، بقوات ومعدات برمائية، وسرب من السفن البرمائية، ووحدة سلاح استكشاف المارينز الثانية والعشرين لصقل المهارات العسكرية «في حال طُلب منها التعامل مع أزمة متبلورة في الخليج»، حسبما أفاد أدميرال مجموعة المدمرة لينكولن، جون ويد.
وإمعاناً في تهيئة الأجواء والمناخات العسكرية، أبحرت مدمّرتان أميركيتان، ماكفول وغونزاليس، بذخيرتهما من الصواريخ الموجهة، عبر مضيق هرمز دون ان تتعرّضا «لمضايقة إيرانية.. فرسالة الردع المتضمّنة ماضية بشكل جيد»، حسبما أفاد مسؤول عسكري أميركي ليومية «وول ستريت جورنال».
سعت «دولة الإمارات» إلى استغلال مناخ التصعيد العسكري الأميركي بعرض تقدّمت به للولايات المتحدة لاستخدام غير مشروط لأراضيها وأجوائها ضدّ إيران، والمساهمة في «استعادتها جزيرة أبي موسى» التي تنازل عنها حكام الإمارات لشاه إيران عام 1971.
حال القوات الأميركية
التحركات الأميركية المكثفة وترسانات الأسلحة المختلفة وتموضعها بالقرب من السواحل الإيرانية هي رسالة «لردع إيران»، أو تهيئة لاشتباك مسلح يسعى الطرفان لتفاديه بينما يمضيان قدماً في الإعداد لخوضه.
وربما السؤال المحوري هو السعي للإجابة على مدى جهوزية وقابلية الجيش الأميركي خوض حرب جديدة في منطقة لا تزال ملتهبة وقابلة للاشتعال لأيّ سبب أو خطأ حسابات أحد الأطراف المباشرة وغير المباشرة.
عند استعراض حقيقة القابلية الأميركية لخوض حرب أو «مواجهة محدودة»، مع إيران، نستعيد تشخيص دراسة مركز السلام الأميركي، سالف الذكر، محذراً من «الخطر الماثل أمام القوات الأميركية وإمكانية اندحارها في حال اضطرارها للقتال على جبهتين أو اكثر في نفس الوقت».
بل ذهب في تحذيره لمستويات خطرة قائلاً «قد تتعرّض القوات العسكرية الأميركية لعدد كبير من الخسائر وفقدانها لموارد كبيرة أساسية» في المعركة المقبلة.
وشاطره الرأي وصراحة التوصيف ضابط المخابرات المركزية السابق ديفيد جيو David Gieo بقوله «الولايات المتحدة ليست مستعدة للانخراط في حرب أخرى.. وقواتنا المسلحة تتمدّد على رقعة أكبر من قدرتها على التحمّل، بل هائمة على نفسها». 17 نيسان 2019 .
وأضاف انّ القوات العسكرية تعاني من جملة تحديات أبرزها «ديمومة التجنيد»، بإقرار البنتاغون أنّ جهودها لتجنيد مزيد من المنتسبين «فشلت في تحقيق احتياجاتها للسنة المالية 2018، وحتى بعد اضطرارها لخفض سقف الشروط». واستنتج بالقول إنّ فشل الجيش في رفد صفوفه بانتظام يعني أنه «لم يعد يصلح لنشره» في ساحة سيشهد قتالاً حقيقياً فيها.
يُشار أيضاً إلى شهادة نائب وزير الدفاع لشؤون الأفراد والجهوزية، روبرت ويلكي، أمام لجان الكونغرس منتصف شباط/ فبراير 2018، معلناً أنّ «نحو 14 من مجموع القوات العسكرية لا تستطيع الخدمة في ساحات أخرى»، مفسّراً أنّ ذلك يؤدّي لفقدان نحو 300.000 عسكري وإداري عند الحاجة لخدمتهم.
بيانات ومذكرات داخلية للبنتاغون تثير جملة أسئلة إضافية حول جهوزية قواتها العسكرية، واتساع الهوة بين الدعم الشعبي ورؤى القيادات العسكرية لرفد القوات البشرية بصورة دائمة.
مساعدة وزير الدفاع لشؤون التواصل مع الجمهور، آمبر سميث، أقرّت في مؤتمر صحافي، مطلع عام 2018، صعوبة المسألة «.. استناداً لبياناتنا الداخلية نستطيع التوصل لخلاصة اتساع متنامي بين طموحات القيادات العسكرية ومدى تجاوب الشعب بكافة قطاعاته مما يشكل تهديداً حتمياً لاستمرارية وديمومة قوات عسكرية قوامها الانتساب الطوعي». نشرة ستارز أند سترايبس، 18 كانون الثاني/ يناير 2018 .
واضافت أنّ الانطباع السائد بين العامة لا يحبّذ الجيل الشاب على الانتساب الدوري، وترى أنّ الحياة العسكرية تسهم في «عزل وإرباك الحياة العائلية.. ومدى المعاناة التي يواجهها العائدون من ساحات القتال التي تسبّب لهم أضراراً بدنية ونفسية وعاطفية، فضلاً عن المتاعب التي يواجهونها في العودة لنمط الحياة العادية».
ومضت مساعدة وزير الدفاع بوصف حالة التدني بين صفوف الأجيال الشابة التي انخفضت نسبة انتسابها إلى نحو 15 مقارنة مع انتساب نحو 40 في العقود السابقة ولغاية عام 1995. للدلالة، فشل سلاح الجيش عام 2005 برفد احتياجاته البشرية بما لا يقلّ عن 80.000 شاب وشابة.
بيانات البنتاغون المُشار إليها تدلّ على نسبة بطالة مرتفعة، 28 ، بين زوجات الجنود اللواتي تعوَّدن على البقاء في سوق العمل والمساهمة في تحمّل كلفة معيشة الأسرة مقارنة مع نسبة 3 من البطالة بين النساء في باقي المجتمع.
وزير الدفاع الأميركي السابق جيمس ماتيس سعى لاستنباط آلية لنشر القوات أسماها «ديناميكية تسخير القوات»، والتي ترمي لاتباع القادة العسكريين إجراءات أفضل لنقل وتبديل محدود للقوات الأميركية بسرعة في أيّ مكان من العالم – بحسب وثيقة استراتيجية الأمن القومي الأميركي لعام 2017 التي أقرّتها ادارة الرئيس ترامب قبل عامين.
واشارت الوثيقة إلى أنّ الآلية المقترحة «.. لن تكفي لتجسيد الحضور الأميركي المطلوب لردع التهديدات الماثلة أمام المصالح الأميركية» في المنطقة العربية بل إنّ «القوات الأميركية بوضعها الراهن ليس بوسعها الاستجابة لمتطلبات الدفاع عن كافة المصالح الكونية».
كلفة الحروب الأميركية تستمرّ في التصاعد للأعلى. إذ توصلت دراسة أجراها معهد واتسون للشؤون الخارجية والعامة بجامعة براون أنّ ميزانيات الحروب لغاية السنة المالية الحالية، 2019، بلغت نحو 6 تريليون دولار.
وزير الدفاع السابق، ماتيس، وكبار القادة العسكريين والاستراتيجيين يدركون حقيقة حدود سلاح الجو وحده في حسم أيّ معركة بل لم يثبت أيّ سلاح جو قدرته على حسم نتيجة معركة بمعزل عن القوات البرية وروافدها، مشاة البحرية والقوات الخاصة، لفوز سريع قليل الكلفة.
قد يجادل البعض بمجريات حرب حزيران 1967 التي بدأت بتدمير المقاتلات الحربية المصرية في مهابطها، لكن المعركة استمرّت لخمسة أيام متتالية على كافة الجبهات. أما تحليلها والدروس المستفادة منها فهي في عهدة التاريخ وكشفه عن وثائق حساسة تتعلق بسير المعارك والساعات الأولى للضربة الجوية.
استناداً إلى ما تقدّم، خاصة التوصيات الواردة في وثيقة استراتيجية الأمن القومي، نستطيع القول إنّ هاجس القيادة العسكرية الأميركية في منطقتنا هو الحفاظ «على الوضع الراهن»، وعدم الإنزلاق لمواجهة ولو محدودة، اتساقاً مع أبرز أركان أهدافها الاستراتيجية المتثملة باستقرار الأوضاع بما يخدم المصالح الأميركية.
بعبارة أخرى، المواجهة العسكرية هي نقيض الاستقرار المنشود. وقد أوْجزتها دراسة أجرتها مؤسسة هاريتاج تحث الإدارة الراهنة على انتهاج «نمط متوازن مضبوط الحركة» في عموم المنطقة لمواجهة «تمدّد إيران.. وفي نفس الوقت إشراك عدد أكبر من الشركاء الإقليميين لرفد جهود تطبيق حلول أمنية مستدامة» في المنطقة التحضير لاستراتيجية أمن قومي لأميركا لعام 2020 وما بعد 23 أيار 2019 .