«الطائفيّات اللبنانية» على مفترق طرق حاسم
ناصر قنديل
– لم يسبق في تاريخ لبنان السياسيّ منذ الاستقلال أن تزامن حضور التيارات الأقوى في طوائفها في تولّي المناصب الدستوريّة الأولى في الدولة، وكانت قوة النظام الطائفي لا تأتي من المكاسب التي يحققها الفريق الطائفي الموجود في السلطة لـ «جماعته» الطائفية، كما هو الاعتقاد السائد، بل من وجود طائفيّة كامنة تعتاش على الشعور بالخوف الوجودي والغبن الخدميّ والوظيفيّ، يزرعه قادتها بين صفوف «جماعتهم» الطائفية، ويشكل الحلقة المقبلة من مسلسل تناوب الطائفيات اللبنانية، على السلطة من جهة وصفة المغبون والخائف من جهة موازية. فإذا أمكن الحديث عن مرحلتين بارزتين في التاريخ المعاصر للبنان، يمكن القول إن ما قبل الطائف كان زمن التحفز والاستعداد للطائفيات الإسلامية التي صنعت لـ «جماعتها» ثقافة الغبن والخوف، مقابل تسلم «الطائفية المسيحية لمقاليد الحكم دون أن تدخل «جماعتها» جنة النعيم، فيكفي النظر لما لاقاه المسيحيون من تهجير في الحروب المتعددة الدفاع عن الوجود، وأمن المجتمع المسيحي فوق كل اعتبار، وما تعرضوا له من مخاطرة بمكانتهم الوطنية في مرحلة الاحتلال الإسرائيلي، بذريعة صد المخاطر ولو مددنا يدنا للشيطان، لمعرفة أن قوة الطائفية في لبنان لا تأتي من نجاح الطائفية الحاكمة في توفير الخير لـ «جماعتها»، وتعميم المغانم عليها، بل من التحفز الذي تعيشه الطائفية الكامنة التي تتغذى من الخوف والغبن.
– في مرحلة ما بعد الطائف تمكنت «الطائفية الإسلامية» بمذهبياتها المتعددة من تشكيل عصب الطائفية الحاكمة، وانتقل الشعور بالغبن والخوف إلى الجماعة المسيحية مجدداً، تتغذّى منه طائفية مسيحية جديدة، لكن منذ وصول العماد ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية، وخصوصاً منذ الانتخابات النيابية الأخيرة وتشكيل الحكومة الحالية، يمكن القول إن الطائفيات المسيحية والطائفيات الإسلامية، تدخل بلبنان مرحلة ثالثة، لم يعرفها من قبل، حيث الأقوياء في طوائفهم، هم الأقوياء في السلطة، وليس بيد أحدهم أن يلعب مع جماعته لعبة الخوف والغبن، وليس بيد طائفية جديدة أن تشكل طائفية كامنة تتحفز لمرحلة مقبلة بقوة خوف أو غبن أو تهميش. وهذا يعني بداية ملامح مرحلة مختلفة كلياً، في زمن الضيق الاقتصادي والمالي الذي يخيم على لبنان، وما يرتبه من عجز عن مواصلة المنهج التقليدي للنظام الطائفي، القائم بصورة طبيعية على ثنائية توزيع المغانم والمكاسب على نسبة كافية من الجماعة الطائفية، بتوظيف خارج القانون، والتزامات وتعهدات مخالفة للقانون، من جهة، ومقابلها إعادة إنتاج الزعامة الطائفية في كل انتخابات نيابية بقوة العصب المتشكل حول المكاسب اللاقانونية أو القائمة خارج القانون على الأقل، والتي تتحمل الدولة أعباءها في زمن الوفر المالي والاقتصادي وما عادت قادرة عليه اليوم.
– التجاذبات والسجالات التي تنبض باللغة الطائفيّة بين المتشاركين في السلطة، هي تعبير عن ملامح المرحلة الجديدة، وتجسيد للعجز عن امتلاك خطاب الغبن والخوف الذي تتأسس عليه كل الطائفيات، وبالتوازي العجز عن نقل الجماعة الطائفية إلى جنة المغانم والمكاسب، ومفترق الطرق الذي يقف أمامه لبنان اليوم على قاعدة التسليم بالعجز عن قيام دولة القانون، بما هي دولة الكفاءة والتساوي بالحقوق بين المواطنين، والحفاظ على الطائفية كنظام سياسي، في آن واحد، هو مفترق طرق بين مشروعين: مشروع يقول إن الحفاظ على التنظيم الطائفي وجودي، ولذلك يرى الحل بالفدرالية الطائفية بأنواعها المختلفة قانونياً، انطلاقاً من البدء بالقانون الأرثوذكسي في الانتخابات النيابية وما يعنيه عملياً من انتخاب مجموعة مجالس للطوائف تجتمع في مجلس واحد، وانتهاء بتكريس التوزيع الطائفي لكل وظائف الدولة في الفئة الأولى وغير الفئة الأولى، مروراً بتوسيع نطاق اللامركزية الإدارية والإنمائية والمالية والأمنية المحلية، على أقاليم يجري توزيعها وترسيمها على حدود الطوائف، والسير بهذا المشروع يعني سقوط الطائف والذهاب لمؤتمر حوار وطني مفتوح على كل الاحتمالات ومخاطرة غير محسوبة بمستقبل لبنان في ظروف إقليمية دولية شديدة الحساسية والتعقيد. وبالمقابل مشروع آخر يقول إن الانتقال إلى دولة القانون، المسماة بالدولة المدنية، يتحمل الجمع مع قدر من التنظيم الطائفي للمناصب العليا للدولة، وفقاً لما نص عليه اتفاق الطائف في دعوته لصيغة مجلسين منتخبين واحد خارج القيد الطائفي، ومجلس آخر على أساس طائفي، ومثله الرئاسات والوزارات، وربما بعض الإدارات العليا، تأميناً للاطمئنان الوجودي للطوائف من جهة، واستثماراً لميزة التعدد الطائفي التي يتصف بها لبنان من جهة أخرى.
– الجمع بين خطاب طائفي وحديث عن دولة مدنيّة، أو الجمع بين خطاب طائفي والتمسك بالطائف، أو الجمع بين خطاب طائفي والدعوة للإصلاح، بات كله مستحيلاً، والجميع على مفترق الطرق، وكل تأخر في إشهار الخيارات الحقيقية يدخل البلد في أزمة أشد قسوة ويعبر عن أزمة أعمق لدى أصحابه، فلا قانون الانتخاب يمكن إصلاحه تجميلياً للقول إن سبب الأزمة تقني، ولا الخطاب الطائفي سيزيد الأقوياء قوة، بل سيفتح باب مساءلتهم من جماعتهم، ماذا حققتم وقد حصلتم على سقف ما تريدون وما يمكن بلوغه، ولا الإصلاح الإداري والاقتصادي والمالي أمور تقنية يمكن تحقيقها دون الإصلاح السياسي، ومدخل هذا الإصلاح بات وقفاً على شد العزم نحو الحلقة المغيبة من اتفاق الطائف، وهي كونه محطة نحو الخروج من النظام الطائفي.