أين تُصاغ سياسة الدولة في مجلس الوزراء أم في الشارع؟
ناصر قنديل
– كل القضايا التي تتولاها الدولة وتتحمّل مسؤوليتها، وكل العناوين التي يفترض أن ترسم سياستها، وكل المواقف التي يفترض أن تتولى صياغتها، مطروحة في التداول للنقاش العام، من الذين يفترض أنهم رجال الدولة وقادتها ومن يتولّون المسؤوليات فيها، يطرحون أفكارهم وآراءهم ومواقفهم وتقديراتهم في المنابر الإعلامية، وكأن لا وجود لهم في مؤسسات دولة، يفترض أن تشكل وحدها المكان الطبيعي لنقاش مواقفهم وأفكارهم وطروحاتهم، ويخاطب كل منهم شارعه الطائفي، فيحرّضه طائفياً ويستنفره غريزياً، ويثبت جدارته بأن يكون البطل الطائفي، ومكان البطولات الذي يبدأ بالمنابر ينتهي بالمتاريس، كأننا عشية حرب أهلية تبدأ باردة وتنتظر ظرفاً مناسباً لتسخن، بدلاً من أن يتولّى كل منهم مخاطبة شركائه في المسؤولية الدستورية لصياغة المشتركات وتحويلها سياسات. وفي القضايا التي تستدعي حسماً يعتمد التصويت فيرتضي الخاسر الصمت والالتزام بما قررته الأغلبية، كأننا في سوق الأحد، وليس في دولة، الكل يصرخ، ولا أحد يستمع لأحد، كأن ليس هناك مجلس الوزراء يجمعهم ويفترض أن يتسع لخلافاتهم ويظهر اتفاقاتهم.
– يكفي الكلام الذي قاله رئيس الحكومة عن مشاركته في القمة العربية وكلمته فيها، حيث منشأ الاعتراض على ما قاله فيها ينطلق من التسليم بأنه يمثل لبنان، وما يقوله يلزم لبنان، وليس للتشكيك في أن رئيس الحكومة لا يمثل لبنان أو لا يلزمه بما يقول، وتحويل النقاش إلى هذه النقطة افتعال لاستنهاض عصب، وقد تكررت كلمة عصب مراراً على لسان رئيس الحكومة. فالسؤال البسيط، لماذا لم يناقش مجلس الوزراء مشاركة لبنان ومضمون موقفه الذي سيحمله رئيس الحكومة كترجمة متفق عليها لمفهوم النأي بالنفس، وليقل عندها رئيس الحكومة في مجلس الوزراء ما أسمعنا إياه اليوم حول نظريته في هذا الشأن، وإذا كان يعتبر أن من صلاحيات رئيس الحكومة أن يرسم شخصياً دون شراكة الحكومة سياسة لبنان، فلماذا لا يعود بعد أن قال ما قاله إلى مجلس الوزراء ويقول إنه لا يقبل مناقشة ولا اعتراضاً على ما يصدر عنه من مواقف، لأن الدستور منح رئيس الحكومة صلاحيات ملكيّة في لبنان لا تتيح مناقشته من أحد؟
– السجالات التي أثارها كلام رئيس التيار الوطني الحر وزير الخارجية جبران باسيل، وهي تطال مفهوم الشراكة السياسية والطائفية، كما تطال قضايا من الأهمية بمكان أن تناقش في مجلس الوزراء، وتطرح هي الأخرى سؤالاً مشابهاً عن دور مجلس الوزراء، فالتكتل الذي يترأسه الوزير باسيل يتمثل في الحكومة بأكبر عدد من الوزراء، ويحظى بدعم رئيس الجمهورية، ومثلما يملك رئيس الحكومة صلاحية وضع جدول أعمال جلسات الحكومة ويطلع رئيس الجمهورية عليه، يحق لرئيس الجمهورية طرح أي أمر يريده من خارج جدول الأعمال. وبالتالي السؤال المشروع، لماذا يتوجّه الأطراف الذين يملكون تمثيلاً وازناً في الحكومة بمواقفهم من القضايا الكبرى أمام جمهورهم الطائفي وبلغة طائفية بدلاً من أن يطرحوا هذه المواقف بلغة مسؤولة وهادئة على طاولة مجلس الوزراء؟
– سواء توقفت السجالات أو تواصلت، ثمة حقيقة بائسة عن صورة الدولة يقدمها التهميش الذي يطال دور مؤسساتها، لصالح مؤسسات الحرب الأهلية، التي يشكل الشارع أحد ميادينها والخطاب الطائفي أحد أسلحتها. فالحرص على الوحدة الوطنية والسلم الأهلي الذي يقول به الجميع نظرياً يجد صدقيته في الحرص على حجب الخطاب الطائفي والمصطلحات الطائفية والمقاربات الطائفية والشارع الطائفي، أو فليخبرنا أحد من المسؤولين أن مشروع الدولة قد سقط وأن شحذ أسلحة الحرب عبر التجييش الطائفي هو سيد الموقف، وإلا فما معنى نقاش عنوانه صلاحيات رئيس الحكومة من موقع خط دفاع أول يمثله رئيس الحكومة ورؤساء حكومات سابقون ودار الفتوى، كما قال رئيس الحكومة متباهياً؟ وما معنى الحديث عن طائفة مميزة عن سواها من الطوائف بصفتها حامية المشروع الوطني، كما قال رئيس الحكومة متفاخراً؟ وما معنى حديث مقابل عن تميز جيني في الوطنية لا يدركه الآخرون، كما قال الوزير باسيل متحدياً؟ وهل يصدق أحدهم أن هناك شيئاً اسمه «مصالح» المسلمين خارج كونهم مواطنين لبنانيين يحتاجون للأمن والاستقرار ولدولة تؤمن لهم فرص العمل والخدمات الرئيسية بلا منّة؟ وهل هناك شيء اسمه «حقوق» المسيحيين خارج نطاق كونهم مواطنين لبنانيين ينتظرون دولة ترعاهم ولا تعاملهم كزبائن ويثقون بها وبمسؤوليتها عن غدهم؟ وهل يمكن للدولة التي تلبي هذه «المصالح» أن تنفصل عن الدولة التي تؤدي تلك «الحقوق»؟ يرجى أن يخبرونا إن كان لديهم جواب!
– إفلاس الطائفيّات وسقمها، يجب أن يفتح عيون الجميع أنهم بوعي أو بدون وعي يستدرجون البلد نحو كارثة وطنية، وخطاب غرائزي لا مكان له إلا في الذهاب إلى حرب أهلية. فهل هناك من ينتبه ويصحو أم نحن ذاهبون إلى الكارثة بعيون مفتوحة؟