المكتبات … تغيّرات متلاحقة
كتب د. خالد عزب ميدل ايست أونلاين : عُدّت المكتبات رمزًا دالاًّ على ارتقاء الشعوب ونهوضها، مخزنًا لمعارفها وكنوزها، ومكانًا لاحتضان المثقفين والمفكرين والأدباء والعلماء، كحضانة تفرخ وتنمي لنا أجيالاً جديدة منهم لذا حرصت الشعوب على أن يكون لديها مكتبات قومية، وأخرى ذات اختصاصات في علوم بعينها، وغيرها لنشر الثقافة في المدن والقرى. لكن في عصر الإنترنت، ومع ظهور المكتبات الرقمية، باتت هناك تساؤلات عديدة حول ماهية هذه المكتبات؟ فهل يهدّد السيل الغزير فيها من المعلومات والمعارف الهوية الثقافية؟ وهل انتهى عصر المكتبات التقليدية؟
تعرف المكتبات الرقمية بأنها مجموعة من المعلومات الخاضعة لإدارة منهجية تهدف إلى تقديم خدمة معرفية من خلال اختزان المعلومات في صيغ رقمية وإداراتها، ومن ثم إتاحتها عبر شبكة من الكمبيوترات. من المهم هنا التفريق بين السيل المتدفق من المعلومات إلى الكمبيوتر لأي شخص في منزله، وإدارة المعلومات عبر شبكة الإنترنت، فالأولى تعني العشوائية، والثانية تعني أن هناك من ينظم هذه المعلومات ويدققها ويمحصها قبل أن تصبح ذات صدقية لدى من يتلقاها.
من هنا بات ملحاً أن نؤكد على أن ثمة سباقاً بدأ في العالم اليوم نحو نوعية جديدة من أدوات تكوين المعرفة البشرية ليس عبر الورق، بل عبر شبكة الإنترنت، ومن سيكون له وجود حقيقي مدار بشكل جيد، سيكون له بالفعل مستقبل في الثقافة العالمية خلال السنوات المقبلة، فهل يعني ذلك أن مفهوم المكتبات بات موضوع مناقشة جديدة؟
لا شك في أن الإجابة بنعم ستكون منطقية، فثمة تحولات جذرية تحدث الآن أدى بعضها إلى تشكيل اتحاد دولي للمكتبات الرقمية DLF في مقابل الاتحاد الدولي للمكتبات التقليدية IFLA، فالأول يضم المكتبات الجامعية في الولايات المتحدة والمكتبة البريطانية وجامعة أكسفورد ومكتبة الإسكندرية، فهي تسعى جميعاً من خلال معايير صارمة نحو خلق مجتمع مكتبي افتراضي يشكل وعاءً للمعرفة الإنسانية على شبكة الإنترنت.
أما الثاني فهو مجتمع المكتبات التقليدية الذي يرتكز على مفهوم المكتبات الوطنية التي تخزّن الإصدارات الوطنية وغيرها من أوعية المعرفة وتفهرسها وتحفظها، الفرق بينهما شاسع مثل الفرق بين الورق والكمبيوترات الآلية فالأول انتشاره محدود مقارنة بالثاني، والثاني موجود في كل بيت ويتجدد في كل ثانية. الثاني سيل يتدفق ويتجدد، والأول – وهو الورق – وعاء وحيد غير مترابط كل مجموعة أوراق تشكل كتاباته صورًا أو أشكالاً أو جداول أو إحصاءات، لكن ثمة في النوع الثاني ترابط بين النص والصورة والشكل والجدول فضلاً عن الأفلام، وهنا يمكن تغيير المادة وتحسينها بصورة مستمرة. من الممكن أن يتفاعل معها القارئ وينقدها، الفرق هنا هو الفرق بين جمود المعرفة التي يحملها الورق وحيوية التفاعل مع المعرفة عبر شبكة الإنترنت.
عبر شبكة الإنترنت وإمكاناتها غير المحدودة، لم يبق القارئ في حاجة إلى شراء الكتاب الورقي لكي يصل إلى المعلومة ولا إلى تصفح الموسوعات للوصول لها، كما لم يبق المؤلف في حاجة إلى الناشر التقليدي لكي ينشر كتابه، بل أضحى لديه إمكان أكبر في نشر مؤلفه، فبتنا نقرأ عن أدباء وشعراء ينشرون أعمالهم عبر أوعية رقمية مختلفة. ما الذي يجعل للمكتبات الرقمية إذن دوراً إذا كان القارئ مستقلاًّ عنها والمؤلف ليس في حاجة إلى مثل هذه المكتبات؟ إن عملية تنظيم المعلومات يقوم بها المتخصصون في المعلوماتية، فهم الذين يفرّقون بين الغثّ والسمين والهزل والعبث واللهو والجد، فضلاً عن دورهم الذي نتخيله في الحفاظ على الهوية الثقافية على شبكة الإنترنت. هذا الدور غاية في الخطورة ويحتاج إلى مكتبات تكون الحاضنة لهم والفاعلة في بث هذه المعلومات سواءً في شكل كتب رقمية أو مواقع إلكترونية أو بوابات، أو غير ذلك من أشكال الأوعية الرقمية. من هذا المنطق لا نستطيع القول إنه مع التدفق المعلوماتي انتهي عصر المكتبات، بل إن هناك مفهومًا جديدًا للمكتبات سيكون بلا شك معتمداً بصورة أساسية على البث الرقمي للمعلومات.
إذا كانت المكتبات الرقمية تختلف عن مثيلتها التقليدية في كثير من المعطيات، فإن العامل المشترك بينهما هو العنصر البشري الذي ينتج المعرفة لكي يستخدمها، وما بين المنتج والمستهلك للمعرفة وسيط يتمثل في المكتبات، سواءً كانت تقليدية أو رقمية. هذا الوسيط يحتاج دوماً إلى كشاف هو الإنسان الذي يقوم بعملية تكشف الأوعية أيًّا يكن نوعها. غيَّرت شبكة الإنترنت مفهوم الزمان والمكان وأتاحت لنا فرصًا لم تكن منظورة منذ أعوام قليلة، فيمكن عن طريقها التعرف إلى كم هائل من المخزون المعرفي في مختلف المجالات، فشبكة الإنترنت تحوي عشرات المليارات من الصفحات، القابلة للبحث والكشف في ثانية واحدة أو أقل. وفائدة الإنترنت مرهونة بآلة البحث الكشاف الإلكتروني المستخدم للتعرف إلى المادة المتاحة واختيار الأنسب منها لعرضها على الباحث، فلا يعقل أن نتصور الباحث محاولاً أن يجد ما يريد بين مليارات من دون دليل. ثم صار الكشاف المستخدم آلية أساسية في عصرنا، بل أصبحت هذه الآلية أكثر أهمية من أي عنصر آخر في عناصر الشبكة الاتصالية المعلوماتية، ولا شك في أن أهم كشاف إلكتروني على الساحة راهناً هو Google إلا أن غوغل لم تكتفِ بعرض كشافها لاستخدام مئات ملايين المتجولين على شبكة الإنترنت، بل دخلت في شراكة مع كبريات المكتبات الأكاديمية لرقمنة ملايين الكتب، كي يتاح للباحث استعمال كشاف غوغل للبحث عما يريد فيها. أثارت هذه المبادرة جدالاً عالميًّا، وبصفة خاصة في الولايات المتحدة، حيث بدأ الصراع بين الناشرين من ناحية وغوغل من ناحية أخرى، فضلاً عن أوروبا التي باتت في قلق شديد من سيطرة محرك البحث google على الفضاء الرقمي. هذا يعني سيطرة الثقافة الأميركية والإنكليزية على الثقافة العالمية، فكأن العالم أصبح ذا ثقافة أحادية في الفضاء الرقمي، مؤكدًا هيمنة ثقافة بعينها، فباتت الثقافات الأوروبية والآسيوية ومعها العربية وغيرها غير ذات محل في هذا الفضاء. لعل ذلك ما دفع جان نويل جانيني المدير السابق للمكتبة الوطنية الفرنسية إلى تأليف كتاب عنوانه» غوغل.. عندما تتحدى أوروبا» مثيراً القضايا الآتية:
أولاً: إن سيطرة كشاف غوغل سوف تؤدي إلى اختيار المادة المطروحة بالإنكليزية دون سواها. فإذا تعرفت غوغل على آلاف الصفحات فإنها تقدمها في ترتيب أولويات تحكمه «فلسفة شعبية» أي الصفحة التي قرأها أكبر عدد من القراء كسبق في الأولويات ما يؤدي بمزيد من مستعملي الكشاف إلى قراءتها فيعضدون مكانتها في كشف تالٍ يقوم به باحث آخر.
ثانياً: إن في تركيز غوغل على الفقرة الواحدة في الصفحة الواحدة تحطيماً للمضمون الثقافي للعمل، وليس الوسيلة المثلى لتعريف القارئ بكتاب أو مقالة.
ثالثاً: علينا، نحن المهتمين بالثقافة، أن نؤكد أن تقديم ثقافتنا بلغتنا لا يحجب عن القراء والباحثين في مختلف أنحاء العالم لأن كشاف غوغل سيعطي الأولوية للمنتج باللغة الإنكليزية.
رابعاً: إنه علينا أيضاً أن نقدم منتجنا الثقافي في إطار مختلف عن مجرد فقرات متناثرة من صفحات متباينة، فأمهات الكتب في ثقافتنا لا يجوز أن تطمس لمصلحة ما هو رائج مهما يكن سطحيًّا.
إن خلاصة ما ينتهي إليه جانيني هو قيام مكتبة رقمية أوروبية، تقدم الثقافة باللغات الأوروبية المختلفة، واستثمار أوروبا إنتاجاً كشافاً يضاهي كفاءة كشاف غوغل لخدمة القراء والباحثين الراغبين في التعرف إلى الثقافة الأوروبية.
يتبع جزء ثان