حارتنا ضيّقة وبنعرف بعض
قول سمعته خلال سجال دار بين شخصين كان غرض مردّده تحجيم الآخر وإيقافه عند حدّه. لكنّه وقع في نفسي موقعاً مختلفاً تماماً. أحسست بدفء مبعثه، تخيّلت تلك الحارات الضيّقة العتيقة تتسلّق على جدرانها أغصان شجرة اللبلاب والمجنونة بجنونها وألوانها الرائعة وأحواض يتفتح فيها الشابّ الظريف أمام أبواب البيوت ورائحة الياسمين وزهر النارنج تنبعث من نوافذها. بيوت متقابلة وأسطح متلاصقة ولهفة الجيران على بعضهم، وتفشّي السلام بينهم والسؤال والاطمئنان، وتقارب يخلق وحدة الحال تترجم بهذه المقولة، وهي حق يُراد به باطل.
المهم أين نحن اليوم من هذا القول؟ شوارع عريضة حديثة وأبنية شاهقة وأبراج أنيقة وحدائق واسعة جميلة نفّذت بعناية فائقة. حضارة لا بدّ منها توفّرت فيها وسائل الراحة والرخاء، لكنّها غالباً ما تخلو من الدفء والحنان. زادها عالم التكنولوجيا جفاء فهل هو نعمة أم نقمة في هذا الزمان؟! صحيح أنه أخذنا بعيداً ووسّع أمامنا آفاق العلم وفتح لنا الأبواب على مختلف الثقافات، لكن ما نراه اليوم من تعدٍّ على الخصوصيّات واستباحة للمحرّمات وتجاوز للخطوط الحمراء ما هو إلا تجسيد للنقمة بأبشع الأشكال. تسطيح للفكر وتهميش للعقل إذ صار هناك في الفضاء مساحات للترويج لكلّ ما هو مخالف للأخلاق والآداب المضحك المبكي هو أننا في زمن ضاع فيه المعيار ورجحت كفة الابتذال على كفة الاحترام
حقاً هزلت كيف لنا أن نرضى بسلعة المفروض أنها معدّة ليكون نفعها أعمّ من ضررها وعلى قضاء حوائجنا أقدر؟ نستغلّها بغباء فتعود علينا بالهمّ والبلاء وحالة من الإدمان هي من كل أنواع المخدرات أخطر تلك التي الأصل في معاقرتها أمر منكر! كيف لنا أن نعيد زمناً كان جميلاً وصار من شدّة الجهل أغبر؟
فعلاً رحم الله زماناً كانت فيه حاراتنا ضيّقة وبنعرف بعض.
رشا المارديني