ملامح لبنان الجديد بعيون نبيه بري!
لم يَكُن خطاب الرئيس نبيه بري الأخير مجرد خطبة سياسية روتينية تُتلى على المنابر، بل تضمّن مبادرة شاملة وجدول أعمال للمجلس النيابي بالتعاون مع السلطات الدستورية الأخرى كفرصة أخيرة من شأنها تحرير لبنان من «دويلات الطوائف» والارتقاء به الى مصاف الدول الحديثة.
فرئيس البرلمان الجديد أعلن حالة طوارئ تشريعية بقوله إن المجلس النيابي مقبل على جلسة تشريعية في الموازنة ومكافحة الفساد واللامركزية والإدارية وقانون البلديات وقانون الانتخابات.
ورئيس حركة أمل الذي وافق على مضض على قانون الانتخاب الحالي، يُنفّذ حالياً انقلاباً أبيض على هذا القانون الذي يعتبره قانوناً طائفياً مُغلفاً بالنسبية، أو «قانوناً أرثوذكسياً مقنعاً». وقدم في المقابل قانون انتخاب يرتكز على النظام النسبي في دائرة واحدة مع تحقيق العدالة بين الطوائف لكنه خالٍ من «سُمّ» الطائفية و»دسم» المذهبية وذلك بإلغاء الصوت التفضيلي. فبري من خلال طرحه الانتخابيّ دق ناقوس الخطر لاستنهاض القوى السياسية لإقرار قانون جديد لتجنّب الوقوع تحت ضغط نفاذ الوقت وبالتالي تأجيل الانتخابات النيابية كما حصل في السابق.
بالتوازي كان رئيس المجلس يقدّم نفسه صمام أمان اجتماعي ودرعاً واقياً للدفاع عن الطبقات الشعبية الفقيرة التي تئِن من ضغط الأزمات الاجتماعية والاقتصادية، فأعلن كرئيس للسلطة التشريعية أن لا خفض لرواتب القطاع العام على الإطلاق بل زيادة في الإئتمانات والضمانات.
وعلى الرغم من أن قلب «أبو مصطفى» على ذوي الدخل المحدود، فإن عيونه بقيت شاخصة الى عرض البحر حيث المخاطر من قرصنة اسرائيلية لمساحات واسعة من الثروة النفطية اللبنانية في المياه الاقليمية، فرئيس البرلمان هو المفاوض الأول في الدولة واللدود للأميركيين والاسرائيليين في ملف ترسيم الحدود منذ العام 2012 حتى الآن أكد أن «الأولوية تبقى لبناء الخط الابيض المائي وبمعنى اوضح بترسيم الحدود وإزالة التعديات والقرصنة الإسرائيلية لثروة لبنان البحرية، كاشفاً أن العدو الإسرائيلي يحاول أن يتهرّب بشتى الوسائل، لكننا لن نقبل أبداً بأن يُمَسّ حق من حقوقنا بمقدار إنش واحد».
يرسُم بري من خلال استعراضه لهذه النقاط، ملامح لبنان الجديد عنوانه إنقاذ لبنان الذي وصل الى حالة كارثية على كافة المستويات، لكن السؤال: هل «دولة بري» قابلة للتحقق؟ وإلى ماذا تحتاج؟
لا تُخفي مصادر نيابية في كتلة التنمية والتحرير وجود صعوبات عدة أمام تنفيذ المسار الذي رسمه بري تتعلق بالتطرف الطائفي القائم وتشابك واشتباك المصالح السياسية والاقتصادية الداخلية والخارجية، وتوضح المصادر لـ»لبناء» أن «بري يُدرك حجم العقبات ولا شيء يمنع من تطبيق الطروحات تدريجياً، لكن لن يدفعنا ذلك الى خفض سقف توقعاتنا، فالوضع الكارثي الذي وصلنا إليه على المستويات السياسية والاقتصادية نتيجة النظام الطائفي المكرّس منذ عقود حتى الآن، يجعل الانتقال الى دولة حديثة أمراً واقعاً ويدفع القوى السياسية كافة واللبنانيين عموماً للاستيقاظ من سباتهم العميق».
وترى المصادر أن «قانون الانتخاب هو الطرح المحوري في خطة بري الإنقاذية»، وتضيف: «لا ندّعي شرف امتلاك حل الغاء الدولة الطائفية وحدنا كحركة أمل، فقوى سياسية أخرى ذهبت أبعد باعتماد الدولة العلمانية، لكننا في الحركة نكتفي بالدولة المدنيّة التي تحقق العدالة والمساواة بين اللبنانيين في الحقوق والواجبات، ونحن قدّمنا قانون انتخاب وجلنا على الكتل النيابية والأحزاب والتيارات وعرضنا الفكرة وطلبت الكتل مهلة أقصاها شهراً واحداً لإبداء رأيها النهائي».
وتضيف المصادر أنه «بعد ذلك سنستمر في خطة العمل لإقرار هذا القانون وكسب تأييد أكبر عدد من القوى السياسية لتأمين أكثرية دستورية في مجلسي النواب والوزراء لإقراره». وتكشف المصادر أن «بعض الكتل النيابية وافقت على القانون مع تحفظات وبعض المطالب، وكتل أخرى وافقت على نصف الطرح مع ضمانات ووعدت بالإجابة على نصفه الآخر في وقت قريب، لكن نحن سائرون للنهاية تؤكد المصادر نفسها «لأننا نعتبر إقرار قانون حديث نقطة الانطلاق للعبور الى الدولة الحديثة». وتلفت أن «كل الأنظمة الانتخابية السابقة كرّست الطائفية والمذهبية وفرضت حالة من اللااستقرار السياسي والأمني ووضعت البلد على حافة الانهيار المالي والاقتصادي بما فيها القانون الحالي، فلماذا نعود ونكرر ذلك في الانتخابات المقبلة؟».
يبدو أن جدول أعمال بري يُحاكي اتفاق الطائف الذي تؤكد مصادر أمل تمسكها به، لكن يجب تطبيق كامل بنوده، وتضيف: «لا يمكن البحث عن حلول للأزمات الوطنية والسياسية وهي موجودة في بنود الطائف نفسه وفي جوهره وروحه وفي مقدمتها تشكيل الهيئة العليا لإلغاء الطائفية السياسية وإقرار قانون انتخاب عصري وإنشاء مجلس للشيوخ تتمثل فيه الطوائف».
لقد رسّمَ رئيس «الحركة الخضراء» في «خطبته الأخيرة» حدود الدولة الحديثة وخريطة طريق سياسية للوطن لا مكان فيها لـ»دويلات طائفية» ولا «كيانات مصطنعة»، فبري العالم بظواهر الأمور وبواطنها كركن أساسي في الدولة خبِر العمل السياسي وشؤون الحكم على مر العقود الخمسة، بات أكثر قناعة بأن لبنان لا يستطيع الاستمرار بحالته الراهنة وأنظمته الانتخابية والطائفية المتجذرة التي لم تنتج الا الفساد والأزمات والحروب إلا أنه يدرك أيضاً أن الولوج الى تلك الدولة العصرية يحتاج الى ميزان قوى داخلي جديد ليست المعادلة في الإقليم بمنأى عنه، فضلاً عن توفير تحالفات سياسية داخلية ليست شبيهة بتحالفات «التسوية الرئاسية» الحالية.