أنطون سعاده والموقف من الماسونية
زهير فياض
لقد شغلت الحركة الماسونية ومتفرّعاتها الرأي العام منذ عقود من السنوات، نظراً لطبيعة هذه الحركة والغموض الذي لفّ حقيقة الأدوار التي تلعبها في أوساط المجتمع في بلادنا، وكذلك على المستوى العالمي، خاصةً أنها تطرح عناوين جاذبة تتمحور حول الاخاء الإنساني والعدالة والمحبة، وتزيّن كلّ هذه العناوين بشعارات الفضائل والأخلاق والقيم الإنسانية النبيلة.
وفي الوقت عينه تطرح مناهج عمل غامضة وغير واضحة وسرية وهي ضمّت وتضمّ في صفوفها أعضاء فاعلين ومؤثرين في السياسة المحلية والدولية، ولها مؤسسات تتفرّع منها وتتغلغل في كلّ مستويات الفعل والتأثير سواء محلياً أو في المحافل الدولية.
ما دفعنا الى كتابة هذه المقالة عنوان لافت لمقال كتبه السيد حسن صبرا في مجلة «الشراع» اللبنانية في العدد 1904 الصادر بتاريخ 14-6-2019، وقد جاء في العنوان: «على ذمة كتاب عن الماسونية: لماذا لم تمنع الماسونية الأخ رياض الصلح من إعدام أخيه أنطون سعاده».
العنوان وحده ودون الغوص في مضمون ما نشر تحته، يبعث على الدهشة والاستهجان والاستغراب، وطبعاً نشتمُّ منه رائحة تلفيق لوقائع من نسج خيال صاحب العنوان والمقالة.
ولكن، ولأنّ الموضوعية هي الأساس في مقاربة المسائل، كان لا بدّ بادئ ذي بدء من الإطلاع على مضمون ما نُشر في العدد لنعرف ما ورد فيه لتبيان الخيط الأبيض من الخيط الأسود، وإذ بنا أمام نص فيه من المغالطات والتشويه والتحريف ما يبعث على الاشمئزاز أمام هذا الاستهتار بعقول الناس، والقفز فوق الوقائع والحقائق التاريخية المعروفة والموثقة والتي ليس عليها أيّ لبس، وأكثر من ذلك طرح استنتاجات لا علاقة لها بالواقع وتؤشّر الى أنّ صاحبها يعيش حالة انفصال عن الواقع، أو أنه وعن سابق تصوّر وتصميم يكتب ليضلّل، وعلى ما يبدو من سياقات النص أنّ التضليل المسبق الدفع على ما يبدو هو الدافع لكتابة هذه التخرّصات الغريبة، ومحاولة تسويق أكاذيب لا تدخل في عقل عاقل ومطّلع.
يبدأ صبرا مقاله بإعلان عدائه لاسرائيل بين هلالين إسرائيل وفق مصطلحنا «الكيان الاستيطاني اليهودي الغاصب في فلسطين» وهذا للوهلة الأولى جيد، اذ يعتبره صبرا أيّ هذا العداء «الحقيقة المطلقة»، إذ تأتي بعد «الإيمان بالله الخالق الجبار» ويؤكد أنّ أيّ موقف له «من كلّ أمر سياسي أو ثقافي ينطلق من هذا العداء»، ويُسهِب صبرا في شرح عدائه للصهيونية وإسرائيل ومن يقف وراءهما مستخدماً عبارات طنانة يود من خلالها إفهام القارئ أنّ «الفحولة الأساسية» في مقارعة الخطر الصهيوني كان السيد صبرا رأس حربتها إذ يقول بالحرف: «شربنا هذه القناعات كالماء الرقراق وتنفسناها كالهواء المنعش وهضمناها كما نهضم كلّ أمر من أمور الأمة بالفطرة، قبل القناعة، بالنقل قبل العقل».
بعد ذلك، ينتقل الكاتب مباشرة الى موضوع الماسونية وعلاقتها بالصهيونية، ويطرح جملة من الآراء حول هذه الحركة وهي آراء ليست بجديدة، وقد كُتِبَت فيها مجلدات تناولت هذه الحركة وملحقاتها ومتفرّعاتها وأهدافها المفترضة وأساليب عملها وطريقة تغلغلها في دوائر صنع القرار على كلّ المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وعلاقتها بالحركة الصهيونية.
من نافل القول، إنّ هذه الفقرة المتعلقة بتوصيف الحركة الماسونية من قبل صبرا لم تأتِ بجديد، فهي توصيفات وآراء مطروحة من قبل مؤرّخين ومفكّرين ومراقبين، وهناك شبهات كبرى وارتباطات مشبوهة للماسونية تبعث على الشكّ بحقيقة أهدافها وغاياتها الأصلية.
كما أنّ استقطاب هذه الحركة وملحقاتها من أندية وجمعيات لقادة رأي ولأشخاص مؤثرين في الحياة العامة في بلادنا والعالم يمثل حقيقة معروفة وكُتبَ عنها الكثير وكلّ هذا موثّق بالوثائق والأدلة فعلاً.
كتب صبرا في مقالته عن الكثيرين مما يقول إنه تمّ ذكر أسمائهم في الكتاب الذي استند اليه «عن الماسونية»، أسماء قادة ورؤساء حكومات ورؤساء محافل ماسونية ووزراء ونواب تعاقبوا في حكومات بلادنا في كياناتها السياسية المختلفة، ومسألة التحقق من هذه المعلومات تتطلب تدقيقاً وبحثاً مستقلاً لسنا في صدده الآن في هذه المقالة.
ما أردتُ دحضه في هذه المقالة هو تحديداً ما تطرّق اليه صبرا نقلاً عن كتاب استند اليه، أو استناداً الى بنات أفكاره إذا لم نقل أوهامه هو تناوله لأنطون سعاده مؤسّس الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي كان ويبقى في وجدان الأمة ومريديه رائداً في الفكر والفلسفة والاجتماع ومؤسّساً لنهضة سورية قومية اجتماعية عزّ نظيرها في الشرق كله، إذا لم نقل في الشرق والغرب وفي العالم أجمع.
ففي إحدى فقرات النص الذي أورده صبرا في مجلته «الشراع» يذكر بالحرف: «أنطون سعاده ورياض الصلح ماسونيان تقاتلا وقتلا»، غريب هذا الادّعاء الفارغ من أيّ مضمون حقيقي سواء جاء على ذمة «كتاب عن الماسونية» أو سواء جاء على «ذمة الكاتب نفسه»، إذ انه في سوق الذمم الرخيصة تسقط الأكاذيب عند أول «تسعيرة مدفوعة» لصحافة صفراء.
لن ندخل في جدل فارغ لا جدوى منه، والالتفات الى تخرّصات صحافية لا تمتّ الى الحقيقة بصلة وتجافي الواقع والتاريخ وتحاول عبثاً النيل من أنطون سعاده، الزعيم – المؤسّس للنهضة السورية القومية الاجتماعية، الفيلسوف الاجتماعي، والمفكر الذي رسم للأمة طريق فلاحها ونهوضها وقيامتها وعزتها ونصرها الأكيد.
لذا، يهمّنا أن نورد ما هو موثق ومعروف حول مرور عرضي لأنطون سعاده في ما يسمّى «جمعية البنائين الأحرار في عمر يناهز الواحدة والعشرين من العمر، ليخرج منها ويعلن الطلاق معها في رسالة موثقة ومنشورة في سلسلة الأعمال الكاملة لحضرة الزعيم الى «محفل نجمة سورية» كتاب الاستقالة نقلاً عن القلم الحديدي، سان باولو، 1926، أيّ عندما كان سعاده في عمر 22 عاماً، أيّ قبل أن يؤسّس الحزب السوري القومي الاجتماعي بستة أعوام، هذه الرسالة التي خطّها سعاده وضمّنها مقاربته لهذه الحركة التي مرّ في صفوفها عَرَضاً في هذا العمر المبكر، وتركها باستقالة علنية طلّق فيها هذه الجمعية بكلّ ما تحمل من أفكار ومناهج عمل وطرائق تفكير، استقالة واضحة المعالم فيها نقد حقيقي، وفيها طرح لعلامات استفهام حقيقية حول هذه الحركة وطبيعتها وأهدافها ومناهج عملها وقد تضمّن كتاب الاستقالة فقرات واضحة وذات دلالات حول عمق تفكير سعاده كيف لا؟ وهو الفتى الذي مزّق علم الاستعمار العثماني في مدرسته ورفض أن يرفعه وهو في سنّ الطفولة، وهو الذي طرح الأسئلة الكبرى حول: «من جلب على شعبي هذا الويل؟ ومن نحن؟ إلى أن انتهى به الأمر الى تأسيس الحزب السوري القومي الاجتماعي عام 1936 ليكون الردّ والإجابة الحقيقية على كلّ التساؤلات المصيرية والوجودية التي شغلت عقله ووجدانه منذ سنواته الأولى في هذه الحياة.
انّ هذه المحاولة البائسة من قبل السيد صبرا لتشويه صورة أنطون سعاده من خلال الإيحاء بأنه ينتمي إلى «الماسونية» دون الأخذ بعين الاعتبار الوقائع المعروفة، إنما تجسّد تملّقاً رخيصاً لأسياده وهو سقوط أخلاقي وأدبي مريع له قبل أيّ شيء آخر، أما محاولة التطاول على الحقيقة وعلى تاريخ سعاده النهضوي التنويري النضالي المعادي – على طول الخط – للمشروع الاستيطاني اليهودي في فلسطين ومحيطها القومي السوري الطبيعي ولكلّ القوى الحاضنة والداعمة من دول وقوى ومنظمات دولية وجمعيات يدخل في نطاقها بالطبع الماسونية وتنظيماتها ومؤسّساتها وأنديتها ومحافلها المنتشرة في الوطن وعبر الحدود.
هذه المحاولة لطمس الحقيقة النهضوية التحريرية الكبرى التي جسّدها سعاده فشلت في تمريرها دول وأمبراطوريات وممالك ولن ينجح في تسويقها متعيّشٌ بائس وضيع يقتاتُ من فتات موائد أصحاب العروش وحواشي القصور في ممالك الذل وسلاطين الاستعباد، وهو إلى ذلك – افتئاتٌ ظالم يُرادُ منه تزوير التاريخ وقلب الحقائق رأساً على عقب، والوصول الى استنتاجات لا تمتّ الى الحقيقة بصلة.
في ملحق رقم 11 بلاغ الزعيم بشأن الحركة الماسونية 10 مايو أيار 1949 الأعمال الكاملة يقول سعاده بالحرف: «نظراً لنشوء حالة وجد فيها بعض القوميين الاجتماعيين منتمين الى المنظمة الانترناسيونية اليهودية النفوذ والرموز والتي تدعى منظمة «البنائين الأحرار» الماسونية ، ولكون هذه الحالة تستدعي المعالجة، ونظراً لتسلل الدعاوة الماسونية الى الأوساط الشعبية ولتعرّضها للقوميين الاجتماعيين. ونظراً لحاجة القوميين الاجتماعيين الى شرح يبيّن حقيقة الأهداف الماسونية وموقف الحركة القومية الاجتماعية منها. ليعلم القوميون الاجتماعيون: انّ الماسونية جمعية سرية انترناسيونية لها أهداف مستترة وغامضة تحت ستار «حرية اخاء مساواة» ويضيف: «انّ انترناسيونية الجمعية المذكورة لا تتفق مع القومية»، ويضيف في مكان آخر: «الماسونية تشتمل على رموز يهودية كثيرة ودعاوة قوية لإعادة بناء «هيكل سليمان» الذي يرمز الى السلطة اليهودية الطامعة في الأرض السورية إلخ…»
هذه الجمعية إذاً، كان سعاده من أوائل من فضحها، وحذر ومن أهدافها المستترة والغامضة والتي تشكل اختراقاً للمجتمع يهدف الى تحقيق غايات خطيرة لا تتفق ومصالح الأمة والمجتمع القومي، وكان أول من دعا الى مواجهتها والحذر منها، والتنبّه لممارساتها.
أما الادّعاءات حول وقائع كاذبة تتعلق باستشهاد سعاده، فهي ادّعاءات باطلة وكاذبة ومكشوفة الأهداف والغايات وواضحة الاتجاهات للتصويب على كامل المشروع النهضوي المعاصر لسعاده، فسياقات التآمر على سعاده وحزبه بالوقائع والأحداث والأشخاص ومنهم رياض الصلح وغيره من رموز الرجعة في بلادنا، كلّ هذه السياقات أصبحت جزءاً من تاريخ الحزب والأمة وتراثها النضالي وذاكرتها التاريخية، وما انطبع في وجدان الناس من فعل البطولة والنضال من أجل حياة الأمة وفلاحها راسخٌ ومتجذرٌ ولن تقوى على زعزعته كلّ ماكينات الكذب والدجل والحقد حول العالم.
سيبقى سعاده قدوة في كلّ ما علّم، في كلّ ما أسّس، في كل ما ناضل، وفي كلّ ما كافح وقاتل، وفي كلّ ما كتب ووثق، سيبقى علامة مضيئة في تاريخنا المعاصر، أما أصحاب النفوس الوضيعة فمصيرها صفحة سوداء في مزبلةٍ ستلتهم بنارها حقد المارقين والكارهين والساقطين على دروبها الوعرة التي لا يثبت عليها إلا الأحرار وأبطالُ العز الذين يخطون التاريخ بالدم الزكي وببطولات تعانق الزمن الآتي.
عميد الثقافة والفنون الجميلة
في الحزب السوري القومي الاجتماعي