هل أصبحت أوكرانيا معضلة للأميركيين حين أرادوها ورقة ضاغطة على روسيا؟
ميشيل حنا الحاج
الأميركيون يخطئون، على عادتهم دوماً، في تقييم الأمور، ولا يغوصون عميقاً في دراساتهم الاستراتيجية قبل الإقدام على تنفيذها. فقد أخطأوا في ايران عندما قدّروا أن تقديمهم الدعم إلى الاسلاميين ممثلين بآية الله خميني، سيأتي لإيران بنظام يقاتل السوفيات الكفرة نيابة عنهم، إذ سرعان ما انقلب الإيرانيون عليهم وتوجهوا لمناهضة الأميركيين عوضاً عن مقاتلة السوفيات.
الأمر ذاته وقع في أفغانستان. فعندما نجح الإسلاميون المتشددون المسلحون من قبل الأميركيين، في إخراج السوفيات من بلادهم، انقلبوا على الأميركيين الذين سلّحوهم ودربوهم على فنون حرب العصابات.
الشيء ذاته تكرر في سورية. فقد شجعوا تركيا على فتح حدودها أمام المقاتلين القادمين من الخارج بتمويل وتسليح خليجي، ليقاتلوا النظام السوري، فاذا بهم يقتتلون في ما بينهم، ويسعون إلى إحلال نظام ارهابي متشدد محلّ نظام علماني، وهو نظام سيبادر الى مقاتلة الأميركيين أنفسهم إذا استقر الأمر لهم، كما حصل في إيران وفي أفغانستان.
وها هو الأمر يتكرّر في أوكرانيا التي أشعلوا الفتنة فيها، ليشاغلوا بها الاتحاد الروسي، ساعين إلى تحقيق ثلاثة أهداف، كما اعتقدوا في دراساتهم السطحية، وهي:
أولاً إبعاد الروس عن مطالبتهم بتكريس نظام تعدد القطب ليحل محل نظام القطب الواحد.
ثانياً إشغال روسيا عن القضية السورية والتخلي عن بعض طموحهم، بل طموح قدامى القياصرة، في الوصول براً الى البحر الأبيض المتوسط، مع إبعادهم أيضاً عن المياه الدافئة المتوافرة في البحرالأسود نتيجة ما ستؤدي إليه الثورة الأوكرانية من إلغاء لاتفاقية وجود الأسطول الروسي في ذاك البحر.
ثالثاً اكتساب أوكرانيا كسوق جديدة للسوق الأوروبية المشتركة، في خطوة تمهيدية لضمها إلى حلف «الناتو» وإحكام السيطرة على روسيا بتوسيع القبة الحديدية المحيطة بها والمناهضة لها.
لكن مثلما سارت الأمور في الاتجاه الخاطىء في كل من ايران وأفغانستان، وهي تسير أيضاً في الاتجاه الأكثر خطأ في سورية، بدأت تسير مرة أخرى عكس السير الذي أريد من وراء إشعال الأزمة الأوكرانية.
ولا بد من ملاحظة أمر مهمّ، وهو أن النار الأوكرانية لم تشتعل من تلقاء نفسها، إذ كان هناك مخطط بادي الوضوح لإشعالها. فرغم العديد من التنازلات التي قدمها الرئيس الأوكراني يانوكوفيتش، استمرت التظاهرات ضده في التصاعد. وبلغت ذروتها بعد ساعتين من توقيع اتفاق بين الطرفين ـ المعارضة والحكومة ـ رعته دول الاتحاد الأوروبي، وجرى التوقيع عليه من الطرفين تحت إشرافهم في 21 شباط، وتضمن موافقة يانوكوفيتش على إجراء تعديلات دستورية توزع بموجبها السلطات بين رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء، كما تضمن التعهد بإجراء انتخابات رئاسية باكرة قبل نهاية العام.
لكن التظاهرات المعادية للرئيس الأوكراني المنتخب شرعاً وبطريقة ديمقراطية، عادت للتفجر بعد ساعتين فحسب من توقيع الاتفاق، وتخللها عمليات قنص أدت الى وفاة نحو سبعين شخصاً. وعندما وجه اللوم إلى المعارضة على تنكرهم للاتفاق والعودة الى التظاهر والعنف، برروا ذلك بأن الرئيس الأوكراني لم ينفذ تعهداته بتعديل الدستور. وكان ذلك المبرر يشكل مهزلة واضحة كشفت عن وجود نوايا مبيتة يرجح أنها بتشجيع أميركي ـ أوروبي. فكيف يتم تعديل دستور دولة ما خلال ساعتين، مع أن الدعوة إلى اجتماع المجلس النيابي بصفته مجلساً دستورياً، كانت تقتضي لالتئامه بعض الوقت وربما أياماً. فاجتماع كهذا، وقرار دستوري كهذا، لا يعقل أن يتمّا خلال ساعتين.
ومع ذلك، فإن خطأ الدول الأوروبية التي رعت الاتفاق وأشرفت على الوصول اليه، بعدم ردعها المعارضة على سلوكها ذاك، أكد وجود مطامع مبيتة لديها، من دون أن تدرك حجم عواقب عملها ذاك، لعلها مقدرة أن روسيا الاتحادية سوف تستسلم للأمر الواقع الذي كان يتم تغييره على الأرض الأوكرانية، وأن تلك الدول سوف تجني خيرات ذاك التغيير المفروض بأساليب القوة والعنف. لكن الرياح لم تأت كما تشتهي السفن.
فعلى الصعيد الاقتصادي، فإن السوق الأوكرانية قد تكون فيها بعض المنافع لأوروبا، لكنها في المقابل تضع أعباء كبرى عليها من حيث اضطرارها إلى تمويل أوكرانيا بغية تغطية العجز المالي لديها والمقدر بثلاثة وثلاثين مليار دولار ستنوء دول أوروبا بها، بعدما تحملت في السنوات الأخيرة أعباء العجز المالي في اليونان وقبرص واسبانيا، في وقت تستبعد فيه امكانية سرعة ضم أوكرانيا الى الاتحاد الأوروبي، خاصة في الوقت الراهن.
في مقابل المنافع العائدة من اكتساب السوق الأوكرانية كسوق جديدة لبضائعها، فإنها ستدفع ثمناً باهظاً يتمثل في خسارة الغاز الروسي الذي يزود مصانعها بثلاثة وثلاثين في المائة من حاجاتها من الوقود، إضافة الى خسارة السوق الروسي الذي يستورد ثلث حاجاته من دول أوروبا، وخاصة من ألمانيا، مع قدرة روسية على استبدال استيرادها من الدول الأوروبية الى دول مجموعة «البريكس» التي هي عضو فيها، وتتشكل من دول صناعية كثيرة منها البرازيل، الصين، الهند، إندونيسيا وبلدان أخرى.
أما على الصعيد العسكري، فإن روسيا الاتحادية كشرت عن أنيابها وأقدمت على خطوات فاجأت أميركا والدول الغربية، عندما قامت باسترداد شبه جزيرة القرم، بل حشدت قواتها على الحدود الشرقية لأوكرانيا حيث أكثرية السكان من الروس، بل ألمحت الى اهتمامها بالمواطنين الروس الموجودين في دول أخرى ضمن القبة الحديدية، مثل لاتفيا وأستونيا وليتوانيا حيث يقطن هناك نحو مليون وسبعمئة ألف مواطن روسي، إضافة إلى غيرها من الدول التي كانت تشكل جزءا من الاتحاد السوفياتي السابق وتضم مواطنين روسيا، ما شكل تلميحاً إلى إعادة بناء الاتحاد السوفياتي بقيادة رأسمالية.
هكذا تحول الاعتراض، بل والقلق الأميركي والغربي، من ضم شبه جزيرة القرم إلى روسيا، الى سعياً إلى إقناع الاتحاد الروسي بعدم دخول شرق أوكرانيا والتخلي عن فكرة حماية المواطنين الروس في الدول التي تضم ضمن رعاياها عدداً كبيراً من المواطنين ذوي الانتماء الروسي. فالموقف الروسي المتشدد المتصرّف كصاحب حق، وكقطب قوي في عالم متعدد القطب، كشف ليس عن رفضه الأمر الواقع الذي حاولت أميركا وحلفاؤها من الدول الأوروبية فرضه فحسب، بل أكد أيضاً رفضه المخطط الأميركي بالتوجه نحو ضم أوكرانيا كخطوة لاحقة الى حلف «الناتو» تمهيداً لاحتوائها ضمن مخطط القبة الحديدية المشكلة من مجموعة من الصواريخ المتطورة تحمي دول «الناتو» من خطر هجوم مفاجئ، إضافة الى تجاهل الروس توقعات أميركية بتنازلات روسية في مواقع نزاع أخرى كسورية مثلاً.
فالدب الروسي الذي نزع رئيسه بوتين عن نفسه جلد الدب البطيء في تحركه، وارتدى ثوب الثعلب سريع التنقل والحركة، في حين غلّف لافروف، وزير خارجيته، نفسه برداء الذئب، أكد أن روسيا مستعدة لكل شيء الاّ تقديم التنازلات، لا على صعيد القرم، ولا على الصعيد السوري، مع احتمالات بالهجوم على شرق أوكرانيا لتحرير المواطنين الروس من الحكم الأوكراني إذا لم تجر الأمور على هواها.
على ضوء ذلك، كان طبيعياً أن يتبدل الموقف الأميركي من المضي بفرض مزيد من العقوبات على روسيا، إلى مفاوضات صامتة بالحفاظ على ما تبقى لهم من أوكرانيا. وقد يجري نوع من التبادل الصامت بين الطرفين: لا تهاجموا شرق أوكرانيا، ونحن لا نهاجم سورية، بل وربما لا نزود المعارضة بأسلحة ثقيلة أو متطورة، مع احتمال أن يتم الاتفاق على العودة إلى جنيف على أساس الاتفاق الضمني السابق قبل جنيف 2 بالسعي إلى محاربة الإرهاب قبل كل شيء.
ويعزز هذا الاحتمال أن التصريحات التي أُدلي بها أثناء زيارة الرئيس أوباما للرياض في نهايات آذار الفائت تضمنت وعوداً بتزويد المعارضة السورية صواريخ أرض جو محمولة لتعزيز موقفها في مواجهة الطيران السوري المتفوق، وتم لحسها حديثاً بذريعة المخاوف من وصول تلك الأسلحة إلى أيدي المعارضة الشريرة، أي المتزمتة والمرتبطة بـ»القاعدة»، واستعيض عنها بوعود تدريب المعارضة المسلحة تدريباً أفضل.
هكذا نلاحظ أن الهدف من إشعال الأزمة الأوكرانية بلا دراسة وافية للعواقب المحتملة، ربما بدأت تعود بالوبال على أوكرانيا والمصفقين لها. فلا تراجع روسيا عن موقفها من تعدد القطب، ولا تراجع عن موقفها من القضية السورية التي يمثل بقاؤها دولة علمانية حديثة مستقرة ضمانة للحفاظ على المصالح الروسية في المنطقة، مع خروج الروس بصيد ثمين هو استعادة شبه جزيرة القرم الذي سيبدأ الغرب تدريجياً تقبله كأمر واقع، مقابل تعهد روسي بعدم مهاجمة شرق أوكرانيا، وعدم ملاحقة مطالبها الخاصة بالرعايا الروس في دول الاتحاد السوفياتي السابق، خاصة أولئك الموجودين في الدول الاسكندنافية الثلاث والذين يشكل عددهم نسبة واضحة من السكان.
عضو في جمعية الدراسات الاستراتيجية الفلسطينية Think Tank . عضو في مجموعة لا للتدخل الأميركي والغربي في البلاد العربية. عضو في ديوان أصدقاء المغرب. عضو في رابطة الصداقة والأخوة اللبنانية المغربية. عضو في لجنة الشعر في رابطة الكتاب الأردنيين. عضو في جمعية الكتاب الاليكترونيين الأردنيين. عضو في اتحاد دول المقاومة: إيران، العراق، سورية ولبنان. عضو في تجمع الأحرار والشرفاء العرب الناصريون . عضو في مشاهير مصر. عضو في منتدى العروبة وفي مجموعات أخرى كثيرة.