ماذا بعد صفقة القرن؟
د. وفيق إبراهيم
تنتهي صفقة القرن المنعقدة في البحرين تماماً كما بدأت بضجيج إعلامي عن صفقات اقتصادية غير قابلة للتنفيذ. وهي المرحلة التمهيدية لحلّ سياسي مفترض للصراع العربي «الإسرائيلي» يُنهي قضية فلسطين إلى الأبد بتأسيس حلف إسرائيلي – عربي للزوم استمرار الهيمنة الأميركية.
النتيجة الوحيدة المتوقعة هي إمكانية تعزيز حلف خليجي «إسرائيلي» موجود سياسياً إنما بإطار عسكري هذه المرّة، لكن هذا الاحتمال أصبح ضعيفاً بعد اقتصار الحضور الإسرائيلي على رجال أعمال للزوم «تبديد» المال الخليجي وإرجاء الجانب السياسي الى مرحلة أخرى، ما يشي بسيطرة إحباط على الدول الخليجية والعربية الموجودة في المؤتمر من تداعيات التورّط في مؤتمر فاشل سلفاً.
وإلا كيف نفكّ ألغاز موقف مصر التي برّرت حضورها للمؤتمر بأنّ نتائج الصفقة مرهونة بموافقة الجانب الفلسطيني، وهذا لا يعني إلا انها حاضرة شكلاً للزوم المشاركة في «الرز» الأثير عند الرئيس المصري السيسي وتعتمد على الفلسطينيين لإفشال الصفقة.
وكيف يبرّر الملك السعودي سلمان حضور مؤتمر تنظمه دولة أميركية اعترفت بـ «إسرائيلية» القدس وتحضر خطة تنسفُ حلّ الدولتين؟
أما الأكثر عجباً فهو حضور الأردن الأكثر تهديداً من صفقة تستهدف توطين مليون ونصف مليون فلسطيني على أراضيه.
وإذا أضفنا الأردنيين من ذوي الأصول الفلسطينية فتصبح المملكة الهاشمية وطناً بديلاً بشكل فعلي للفلسطينيين، لكن لا أحد يلوم «أردناً» أسّسه الاستعمار البريطاني لإرضاء الهاشميّين واستيعاب النازحين الفلسطينيين وفصل بلاد الشام عن العمق العربي في الخليج.
ألا يستدعي هذا الأمر توجيه تحية الى الكويت التي قاطعت مؤتمر صفقة القرن، تتمة لمواقفها المصرّة دائماً على عروبة فلسطين.
علماً أنها لم تخرج أبداً عن نظام الهيمنة الأميركية.
أما بقية الدول العربية الحاضرة فهي للزوم «صورة التطبيع» مع رجال أعمال إسرائيليين. وهذا يوضح أنّ هذه الصفقة فشلت قبل أن تُعقد ولم تصل إلى الجانب السياسي الذي يشكل الهدف الفعلي، بالالتفاف أو المواجهة، فهذا مقفلٌ لأنه لا يمكن للأميركيين ان يحوزوا على ما فشلوا في تأمينه في الميادين العسكرية.
كان معتقداً أنّ سقوط الدولة السورية أو تفتيتها يؤدّي تلقائياً الى إلغاء القضية الفلسطينية. وهذه المرة الثانية التي تمنع فيها سورية إزالة قضية فلسطين.
الاولى عندما رفض الرئيس الراحل حافظ الأسد في الثمانينيات استعادة الجولان كاملاً لتوقيع صلح مع «إسرائيل»، والثانية بصمود نجله الرئيس بشار الأسد في معركة الدفاع عن بلاده.
ماذا إذاً، بعد فشل صفقة القرن؟
يمكن الجزم بأنها المؤدّية الى حلف علني بين «إسرائيل» والخليج ومصر والأردن، لكن مشكلتها أنها ليست بأهمية قمم مكة الثلاثيّة التي ضمّت ستين دولة ولن تصل الى فلسطين كما تريد بواسطة المليارات، بما يعني أنّ الصراع العربي «الإسرائيلي» مستمرّ إنما بأشكال مختلفة، فإلى جانب الفلسطينيين بإجماع اتجاهاتهم هناك سورية والعراق وحزب الله بدعم إيراني وتأييد سياسي من الكويت والجزائر بالإضافة الى شعوب المنطقة من دون نسيان نقطة مهمة جداً وتتعلّق بعدم استعداد مصر والأردن وعمان والمغرب وبلدان أخرى للتورّط في حرب علنية ضدّ الفلسطينيين.
تدفع هذه المعطيات إلى استشراف ملامح الشرق الأوسط في المرحلة المقبلة وسط تصريحات من الرئيس الأميركي دونالد ترامب يقول فيها إنّ ما يعنيه في هذه المنطقة هو أمن «إسرائيل» والمال الخليجي فقط، ويتفاجأ المراقبون بأنّ وزير الشؤون الخارجية السعودي الجبير يردّ بالهجوم على إيران غير مبالٍ بالإهانات التي يسدّدها لهم ترامب!
هناك إضافات نوعية على الصراع المقبل بعد مرحلة صفقة القرن ويتعلق بدخول روسي صيني نوعي على خط دعم إيران في مقاومتها للعقوبات الأميركية.
الأسباب واضحة، ففيما يتحضّر الأميركيون لتوكيل حلفائهم بالشرق الأوسط العرب والإسرائيليين، وذلك للتفرّغ لكبح الاندفاعة الصينية الهائلة والصعود الروسي، يعود الروس الى الشرق الأوسط من بوابة إيران وتفعل مثلهم الصين، على الرغم من أنّ الطرفين لا يريدان استعداء «إسرائيل» والخليج لأسباب اقتصادية استراتيجية.
فإذا كانت أميركا قادرة على إثارة فوضى في بحر الصين والتجارة العالمية والعولمة، فإنّ الروس والصينيين عازمون قريباً على ابتكار آليات تؤمّن للجمهورية الإسلامية دعماً اقتصادياً منعشاً.
الصين اذاً تحارب الحمائية الأميركية المستهدفة لحرية حركة سلعها، وتقليص العقوبات على حركة التجارة الدولية ورفع الضرائب على تجارتها بمعدلات كبيرة. تحارب هذه العقوبات التي تريد تحجيمها من خلال دعم أساسي لإيران المناهضة للنفوذ الأميركي. وهذا ما تريده بكين.
كذكلك فإنّ روسيا التي أعلن نائب وزير خارجيتها بريماكوف أنّ بلاده بصدد تطبيق آليات تُعيد تصدير قسم كبير من النفط الإيراني بواسطة ناقلات تحمل العلمين الروسي والصيني الى أسواق البيع. وهذا بمفرده كافٍ لصمود إيراني لنصف قرن جديد، مؤسساً حلفاً ثلاثياً روسياً صينياً إيرانياً يحمي أيضاً التقدّم الصيني الروسي والأهمية الإقليمية لإيران، مفسحاً مجالات القوة للحلف العربي الفلسطيني المعادي لـ»إسرائيل» إنما بأشكال غير مباشرة، لأنّ هناك حرصاً صينياً لا يريد استعداء الخليج بسبب إمكاناته الاقتصادية، الى جانب توازن روسي يحرص على علاقات جيدة بكلّ من «إسرائيل» والخليج.
لكن روسيا تجد نفسها مطوّقة بانتشار عسكري أميركي في محيطها في القوقاز وأوروبا الشرقية وتستشعر إصراراً أميركياً على قطع علاقات أوروبا معها، خصوصاً على مستوى استيراد الغاز، فموسكو تصدّر 40 في المئة من الغاز المستهلك فيها ويحاول الأميركيون إفساد هذه العلاقة لتصدير غازهم الصخري.
هناك إذاً مصالح روسية وصينية تقرّبهما من إيران التي تستطيع تلبية الصين من الغاز والنفط واستيراد السلع ودعم روسيا في إنهاك الأميركيين في الشرق الأوسط والعالم الإسلامي وفتح الطريق لها في بحر قزوين الى الشرق الأوسط من خلال الأراضي الإيرانية.
فهل يؤدّي انهيار صفقة القرن الى هذه النتائج؟
نجاح صفقة القرن كان مشروعاً للتمديد للأحادية الأميركية وفشلها هو فتح الطريق أمام منافسيها لتشكيل نظام قوة متعدّد يحدّ كثيراً من «البلطجة» الأميركية التي تضرب العالم منذ ثلاثة عقود.