أفكار جديدة للاجتماع البشريّ كي لا ينتهي التاريخ إلى كارثة وانهيار
جورج كعدي
نكمل مع إتش.جي.ويلز وعالمه «اليوتوبيّ»، فبعد «يوتوبياً حديثة» وضع مؤلّفه المشهور أيضاً «بشر مثل الآلهة» وتقوم «يوتوبيا» أيضاً في كوكب آخر شبيه بكوكبنا وعالم توأم لعالمنا وإن يكن متقدّماً عليه قليلاً من الناحية الزمنيّة، وهو على عكس «يوتوبيا حديثة» خالٍ تماماً من حكومة مركزيّة «وليس فيه ـ يقول ويلز ـ مجلس أو مكتب يُصدر القرار الأخير في حالات العمل الجماعيّ الموجّه إلى المصلحة العامّة، ولا سيادة فيه ولا سلطة نهائيّة، ولا تركيز للسلطة. وُجد ذلك كلّه في الماضي، لكنّه انصهر منذ وقت طويل في الجسد العام للمجتمع. الشعب هو الذي يتّخذ القرارات في أيّ شأن من الشؤون الخاصّة، فهو الأعلم بحقيقته. ولا قوانين بالصورة التي نعرفها، ولا سلطة لتوضع موضع التنفيذ. وإذا رفض أيّ شخص الالتزام بالتعليمات الخاصّة بالصحّة العامّة مثلاً، لن يُفرض عليه تنفيذها، وإذا أجري تحقيق معه عن سبب عدم التزامه بها فقد يجد المحقّقون عذراً استثنائيّاً، وإذا لم يتوصّلوا إلى شيء يمكن إجراء فحص لقواه العقليّة ولحاله الصحّية والأخلاقيّة».
يرى ويلز أنّ هذا المجتمع «اليوتوبيّ» يتحقّق بفضل التغيير الحاصل في تفكير الناس: «بدأ عدد متزايد يدرك أن المفهوم القديم للحياة الاجتماعيّة في الدولة، كصراع محدّد ومشروع بين الرجل والمرأة كي يحصل كلّ منهما على أفضل ما لدى الآخر، أضحى في ظلّ الطاقات الجبّارة التي أطلقها العلم والتنظيم ووضعاها في متناول الإنسان أخطر من أن يُحتمل، مثل الرعب المتفاقم من الأسلحة الحديثة الذي جعل السيادة المستقلّة للأمم أخطر من أن تحتمل. وكان ضروريّاً أن تنشأ أفكار جديدة وتقاليد جديدة للاجتماع البشري كي لا ينتهي التاريخ إلى الكارثة والانهيار. وكانت فكرة التنافس على الملكيّة، بكونها الفكرة المتحكّمة في التعامل بين الناس، أشبه بفرن أسيء التحكّم فيه فبات يهدّد بإتلاف الآلة التي دفعها في البداية إلى الحركة، لذا حتّمت الظروف أن تحلّ مكانها فكرة العمل المبدع، كما أمسى ضروريّاً أن يوجّه العقل والإدارة نحو هذه الفكرة إذا أريد إنقاذ الحياة الاجتماعية. فضلاً عن أنّ الاقتراحات التي بدت في العصور السابقة نوعاً من المثاليّة المتحمّسة بدأت تلقى اعترافاً بها، لا كمجرّد حقائق نفسيّة متّزنة، بل كحقائق عمليّة وضروريّة بشكل ملحّ».
كان التنظيم الاجتماعيّ لـ»يوتوبيا حديثة» كشف عن ارتياب ويلز في «الطبيعة البشريّة»، بيد أنّنا نراه في «بشر مثل الآلهة» يدين قمع الغرائز الحيوانيّة والشهوات، قائلاً: «طوّرت يوتوبيا في بطء التجانس الراهن بين القانون والتعليم. لم يبق الإنسان معوّقاً ولا مكرهاً على شيء، واعترف بأنّه حيوان في المقام الأوّل، وبأنّ حياته اليوميّة ينبغي أن تُشبع الشهوات وتلبّي حاجة الغرائز. وحيك النسيج اليومي للحياة اليوتوبيّة من مأكولات ومشروبات متنوّعة ولذيذة، ومن تمارين وأعمال حرّة ومسلّية، ومن نوم عذب وشغف وسعادة بالعشق المتحرّر من الخوف والإرغام. هبط الكفّ والكبح إلى حدّهما الأدنى. أمّا التعليم في يوتوبيا فبدأت قوّته تظهر بعدما أُشبع الحيوان الغريزيّ ولبّيت مطالبه. والواقع أنّ «الجوهرة» التي تزيّن رأس الأفعى، والتي أخرجت يوتوبيا من فوضى الحياة البشريّة، كانت هي حبّ الاستطلاع والدافع إلى اللعب الذي تطوّر لدى البالغين حتّى غدا جوعاً للمعرفة لا يشبع ورغبة في الإبداع مستمرّة وملحّة. هكذا أضحى جميع سكان يوتوبيا مثل الأطفال الصغار الذين لا يتوقّفون عن التعليم والإنجاز». لم يبق هدف التعليم غرس الانضباط والطاعة في نفس الطفل، بل «إشباع دوافعه الطبيعيّة للعب والتعليم، ومراقبة نموّ خياله المطرد وتشجيعه، بحيث يُقبل على العمل الذي يجذبه، ويختار العمل الذي يمتعه».
لا يعني ذلك السماح لجميع الغرائز بسلوك مسارها الطبيعيّ، فويلز يوظّف ما يطلق عليه المحلّلون النفسيّون تعبير «التسامي» توظيفاً حرّاً: «إنّ انفعالات الطفل الجنسيّة تحوّل في الاتجاه المضادّ لأنانيّته، ويُستثمر حبّ استطلاعه في الشغف بالبحث العلميّ، ويوجّه ميله إلى العراك نحو محاربة الفوضى، كما يُوجّه طموحه وكبرياؤه إلى المشاركة المشرّفة في الإنجاز الجماعيّ لأجل المصلحة العامّة»… يتبع .