مؤتمر الأركان في القدس والتطبيع في البحرين وقمة العشرين في «أوساكا» كلَّها بعنوان واحد: «إيران»
د. رائد المصري
بهدوء… لأنَّ التكتُّلات الدولية والإقليمية تُعيد إحياء تموضعها من دون تكلفة بشرية واقتصادية ومالية، يشهد النِّظام الدولي حراكاً متزايداً في الآونة الأخيرة بجهود مكثَّفة في محاولة لإعادة إنتاج اصطفافات فرَضَتْها وقائع حرب الأدوات الإرهابية التكفيرية التي بدأتها بعد أن غذَّتها كلٌّ من واشنطن وتل أبيب وحلفائهما في الإقليم، وارتدَّت عكساً على مسار العلاقات بين الحلفاء الخليجيين منهم، ومعهم الأوروبيون، حيث زاد في منسوب تشقُّقاتها سياسة ترامب وضغط الحضور الإيراني المساند لسورية والعراق وحركات المقاومة في لبنان وفلسطين، فاختلطت أوراق التحالفات وتضاربت مصالح الدول ومعها لم يَعُد بمقدور الآليات المستخدمة إثبات فاعليتها كإطار لتنظيم هذه العلاقات والتحالفات مثل مجموعة السَّبع والعشرين واتفاقيات المناخ وحرية التجارة وفَرَط عقْد المجالس الأممية التي انسحب منها ترامب..
في الآونة الأخيرة عُقد اجتماع ثلاثي لمسؤولي الأمن القومي في روسيا و»إسرائيل» والولايات المتحدة الأميركية في القدس المحتلة وكان محور النقاش والاتفاق الدور الإيراني في سورية والمنطقة، حيث رُسِمت حدود خطوط الاشتباك في النزاع في سورية وتُرك للروسي حرية بناء حلٍّ سياسي بما لا يُقلق «إسرائيل» ويَضْمن التَّخفيف من اعتداءاتها بضمانة موسكو، وقوبل هذا بترك الأميركيين يسرحون في ابتزازاتهم لدول الخليج وتصعيد المواقف تجاه طهران لاستحضار أكبر عملية سطو وسلْب لأموالهم المتأتِّية من النفط والغاز والاستثمارات حول العالم.
بعدها عُقدت قمَّة المنامة التطبيعية في البحرين بحضور عربي ضعيف جداً ومقاطعة فلسطينية كبيرة رسمية وشعبية، حيث كانت مهمّتها تصفية القضية الفلسطينية وقضم المزيد من الأراضي وتوسيع المستوطنات مستفيدة من قرارات ترامب في تهويد القدس ونقل السفارات إليها وضمِّ الجولان السوري المحتل الى «إسرائيل». والمهمة الثانية كانت إحياء المواجهة مع إيران وتطمين الحلفاء الخليجيين بأنَّ واشنطن ستبقى حامية لمصالحهم مقابل الدفع وشراء الأسلحة منها وللإبقاء على العقوبات الأميركية بوجه إيران لأنَّ مردودها المالي كبير جداً. وهذا يجعلنا نتساءل عن الخوف المزعوم والمفترض من إيران ومن حضورها وتأثيرها على العرب وألاًّ نخاف من تواجد القواعد العسكرية الأميركية الغربية في الخليج التي تسعى لتقويض أيَّة عملية تحرُّر في منطقة الشرق الأوسط في مواجهة الكيان الصهيوني تحت عنوان الهزيمة الحضارية التي أصابت العرب ويريدون من إيران أن تتلقَّح بعدوى هذه الهزيمة الحضارية.
وأخيراً كانت قمَّة العشرين التي عُقدت في أوساكا باليابان في محاولة لإعادة ترتيب الاصطفافات الدولية ضمن الحفاظ على مصالح الدول التي عَبَثَت بها أميركا وفرَّقَ أوراقها نثراً ترامب، على أنه رغم اللِّقاءات الجانبية ذات الدلالة والأهمية التي عقدها الزعماء مع ترامب وبينهم، إلاَّ أنها ستؤسِّس لنظام دولي اقتصادي بديل يُبقي أميركا بحكم حاجتها لنوع من الحمائية في فرض العقوبات على إيران وغيرها من الدول واستمرارها فيه مع حربها التجارية على الصين، لكن في المقابل تمَّ إنشاء – بالتزامن مع انعقاد قمة العشرين في جنيف – نظام تبادلات أوروبي بالاتفاق مع إيران ونقصد به «أينيتكس» والذي يقضي بالتعامل باليورو، حيث إنَّه ومع بلورة هذا الاتفاق وتسهيله يتوسَّع ويضم دولاً أكبر وأشمل وكان إعلان انضمام الصين الى هذا الاتفاق خير دليل على الرغبة الدفينة لدى قادة الدول الكبرى في ضرورة الانعتاق والتحرُّر من القبضة الأميركية المالية ودولاراتها والتي غالباً ما كانت تجعل من أوروبا رغم اتحادها ملحقةً بالسياسات الأميركية ورعونتها حول العالم، وكانت السَّبب في إضعاف دور أوروبا في الشرق الأوسط وبينها وبين العرب وإيران.
فاجتماع قادة العشرين في أوساكا يجب أن يُشكل فرصة لبداية هذا التصدِّي المطلوب والمشروع وبتحدٍّ ومسؤولية كبيرين، من أجل تقويض نهج العنصرية الدموي الذي يتبعه ترامب وغُلاة ذئابه المنفردة في البيت الأبيض، وبالتالي يتوجَّب معها الدعوة عالمياً لإعادة التمسُّك بقواعد وسلوك الاتفاقيات الدولية وميثاق الأمم المتحدة وبقراراتها، ورفض سياسات الاحتلالات وتكريسها بكلِّ أشكالها والإصرار على تطبيق القرارات الدولية المتعلقة بالصراع العربي الإسرائيلي حتى يبدأ الشرق الأوسط في التوجُّه نحو نوع من الاستقرار الثابت نسبياً.
أستاذ في العلوم السياسية والعلاقات الدولية