الأدب الوجيز وتشكّل الوعي الجديد
لارا ملّاك
جاءت كلمة «الوعي» في لسان العرب لابن منظور، بمعنى حفظ الشّيء وفهمه، فكلّ واعٍ الشّيءَ هو فقيهه. ليكون الكلام ليس على وعيٍ قائمٍ في ذاته، إنّما على وعي الذّات ما هو آخر بالنّسبة لها، وما هو خارجٌ عن كينونتها. ليكون الوعي تفاعل العقل والفكر مع ما حوله، بذلك لا يكون الوعي ثابتًا، فكلّ ما يحيط بنا متغيّرٌ، ويشمل هذا التّغييرُ الحياةَ المادّيةَ والحياة الفكريّة أيضًا.
وقد نقول عند الحديث عن تأثيرات الأدب في الوعي الجديد، وفي كيفيّة تغييره، إنّ الكلام لا يصحّ إلّا على الوعي الاجتماعيّ العام. لكنّني هنا في صدد تضييق دائرة البحث في هذه الفكرة، للبحث في الوعي الفرديّ، وفي سبل تأثير الأدب فيه، وذلك لأنّ العلاقة بين الكاتب ونصّه، حميميّةٌ مطلقة، وكذلك العلاقة بين القارئ والنّصّ. ليكون وعي النّصّ، وليمتدّ هذا الوعي خارج المكتوب ويطال الرّؤيا الكاملة بالذّات وبالآخر.
أمّا في شرح ذلك، فأقول إنّ اللّغة ما يتيح للأدب هذا الدّور العظيم، ليس من منطلق طرح المعاني الجديدة، أو الإغراق في الرّمزيّة فقط، إنّما لكون اللّغة وعيًا قائمًا في نفسه، هي وعيٌ متّسعٌ دائمًا. ولا أقصد بالاتّساع الزّيادةَ الّتي تعرفها اللّغات كمًّا، بل تلك الزّيادةُ كيفًا في غنى الأساليب. والأدب هو الّذي يعطي اللّغة الفصحى هذا الاتّساع، لأنّه يغني ما ثبُت فيها من قوانين التّركيب والصّرف والنّحو إلخ..، ويبني علاقاتٍ جديدةً بين المفردات لم يتنبّه لها العقل من قبل. وهذه العلاقات وإن كانت نحويّةً أو تركيبيّةً أو سياقيّةً، لكنّها في عمقها دلاليّةٌ تصبو نحو معنًى جديد. وبذلك لا تكون المعاني مطروحةً في الطّرقات، لأنّ الشّعر يصير فنًّا لا يكتفي بالبحث عن الشّكل الجديد، بل يتخطّى أبعاد اللّغة الثّابتة، نحو المعنى الجديد. وهذا ما نجده، نحن المؤمنين بالأدب الوجيز، ينطبق شعريًّا على نصّ الومضة.
وعلى ضوء ما سبق، أقول إنّ تخطّي أبعاد اللّغة، لا يكون للخروج عليها، أو هدمها، بل هو تخطّي ما جمُد فيها، لخلق ما هو حيٌّ يعيد لها عطاءها وضخّها الإبداعيّ.
والنّصّ الكثيف، هو النّصّ الأقدر على اختراق جدار السّائد، وهو ما ينطبق على الأدب الوجيز لأنّه قائمٌ على التّكثيف. فالإيجاز وحده ليس شرطًا من شروط جماليّة النّصوص. فإن كان مرلوبونتي يقول إنّ اللّغة نطقٌ داخليّ، وإن كان الفارابي يقول إنّ اللّغة منطقٌ داخليٌّ ونطقٌ خارجيّ، فهذا يعني أنّ البناء اللّغويّ ليس أداةً من أصواتٍ غايته التّواصل فحسب، بل هو وعيٌ داخليٌّ بالأشياء، كلّما تطوّر، تطوّرت معه المفاهيم، ونضجت شخصيّة المرء المفكّر. والشّعر سبيلٌ أوّل في تطوير النّصّ اللّغويّ، أي في تطوير منطقٍ داخليٍّ أكثر إدراكًا للأشياء، أو على الأقلّ أكثر قدرةً على الإدراك. ولعلّ هذا ما جعل الفارابي يرى في الشّعر، مرتبةً عليا من مراتب المنطق، إذًا المنطق هنا لا يكون نقيض التّخييل. ولعلّ مشكلتنا الأبرز في نظرتنا اليوم إلى الشّعر، أنّنا نقف عند الخطابيّة فيه، وهو ما يجترّ تكرارًا في الصّور الشّعريّة الّتي تُكتب، ممّا يلغي عنصر الدّهشة في النّصّ، لأنّ الجِدّة والمفارقة الجديدة، هما العنصران اللّذان يحقّقان للنّصّ شعريّته. ومشكلتنا أيضًا، أنّنا نأخذ الخيال على أنّه نقيضٌ كاملٌ للمنطق، في حين يراه الفارابي الّذي بحث في علم المنطق مثلًا، أهمّ البنى المنطقيّة، وكلّما نما الخيال عنده نما الشّعر. وأستشفّ من هذا الكلام الدّقيق، أنّ الشّعريّة هي خيالٌ محكم العناصر، يبني منطقًا من صلب اللّغة، بحيث تكون العلاقات بين المفردات علاقاتٍ مفتوحةً وغير متضاربة، فلا بدّ من انسيابيّةٍ تربط الكلمات ضمن السّياق. ومتى أخذ الخيال مداه ضمن النّصّ، تنتفي المباشرة منه حكمًا، ممّا يزيد من آفاق التأويل، ومن الحاجة إلى تفكيك النّصّ المتشابك. وأستطيع القول إنّ تفكيك العلاقات المتشابكة ضمن لغة النّصّ، هو وعيٌ جديد البعد، وكأنّ لكلّ نصٍّ وعيَه الخاصّ.
قد يحيلنا هذا الكلام إلى فلسفة الإدراك، وليس الشّعر بعيدًا منها، بل على العكس ينسجم معها. لأنّنا متى أدركنا الصّورة الجماليّة واستشرفنا منها معاني مستحدثةً تتبّعنا معاني كثيرةً تجعل الإنسان القارئ أقدر على التّعامل مع القضايا الّتي تعترضه. وهذا ما يميّز الإنسان القارئ من غير القارئ، والأمّة القارئة من غير القارئة.
وقد تطرّق ابن سينا للتّمييز بين الشّعر الخطابيّ الّذي يحاكي العاطفة ويحرّكها، والشّعر الّذي يخاطب المنطق. وقد أكّد أنّ الشّعر العربيّ في العصور القديمة، كان خطابيًّا، والعاطفة هدفه. وقارن بينه وبين الشّعر اليونانيّ الّذي يخاطب إرادة الإنسان، فيحثّه على القيام بفعلٍ ما، أو على الامتناع عن فعل. إذًا، يدخل الشّعر في مخاطبة العقل، لأنّ الإرادة هي بنته، وتنبع من قراراته الواضحة. وليس هذا غريبًا عن الحضارة اليونانيّة، منبع علم المنطق. هكذا وصّف ابن سينا إذًا الحال، كما رآه. وأعود هنا إلى الشّيخ الرّئيس كي أنطلق من نظرته القديمة إلى الشّعر، وأربطها بموضوع هذه المداخلة. فيتبدّى لي بوضوحٍ التفاتُ هذا الفيلسوف الّذي لم يترك علمًا إلّا وبحث فيه، إلى دور الشّعر في البناء العقليّ عند الإنسان، وإلى إمكانيّة ألّا يكتفي النّصّ بالخطاب العاطفيّ، بل أن يتخطّى ذلك وصولًا إلى تفعيل دور الإنسان وزيادة قدرته على قراءة وجوده، ليصير وجوده في ذاته موقفًا تجاه الوجود بشكلٍ عام.
في هذه المقالة أنطلق من تأثير النّصّ في القارئ الفرد، لأنّ النّصّ يؤثّر في الفرد أوّلًا، والفرد يؤثّر في المجتمع، ويبني ضمنه علاقاته وتواصله. ممّا يشكّل وعيًا جماعيًّا قادرًا على ابتكار الحلول، والنّهضة بالأمم. فلا نهضة من دون نصٍّ شعريٍّ ناهض، ومن دون قارئٍ يتلقّف هذا النّصّ.
الأدب الوجيز، كما نراه، هو عودةٌ من اللّطافة إلى الكثافة. وهذه العودة لم تأتِ بعيدًا من التّراث، ولم تنطلق من عدم. بل مهّدت لها، حركاتٌ شعريّةٌ ثقافيّةٌ سابقة. إنّها شكلٌ متطوّرٌ أكثر من الرّمزيّة، ومن الشّعريّة، ومن الصّور الجماليّة.
وهي أيضًا حاجةٌ اجتماعيّةٌ، فلا حركة أدبيّة إلّا ونشأت من إرهاصاتٍ اجتماعيّةٍ. فالأدب الوجيز ليس افتعالًا، إنّما هو توجّهٌ أدبيٌّ جديدٌ نشأ، وهو نابعٌ من حضارتنا، ومن حاجتنا إلى أديبٍ مفكّرٍ، يبني النّصّ المشتبك، وإلى قارئٍ مفكّرٍ يفكّك هذا النّصّ.
الأدب الوجيز إذًا وعيٌ جديدٌ، وموقفٌ تسجّله الثقافة العربيّة الحديثة، من السّائد الّذي لا يسمو إلى مستوى تطلّعات الإنسان الجديد. هو تقليص النّصّ عددًا، وتكثيفه نوعًا وأسلوبًا، ممّا يفتحه على آفاقٍ جديدة، تتطلّب نقدًا جديدًا، وسبل تفكيكٍ جديدة.
وحين يكون الحديث عن وعيٍ جديد، نعلم أنّه افتراقٌ عن وعيٍ قديمٍ مستتبٍّ ومكتمل. ولا يعني ذلك أنّ الوعي القديم انتهى إلى غير رجعةٍ، بل إنّ الوقت قد حان لتحريكه، أو تغييره. فلا يمكن إدراك مجتمعٍ جديدٍ، بوعيٍ متأخّرٍ ماضٍ. بذلك، وحين نرى في هذا الأدب هويّةً جديدةً تجاوزيّةً، نعلم في عمقنا أنّه أداة تحريك هذا الوعيِ العربيِّ حتّى يُنتج ثقافةً نفضت عنها التّخلّف ومضت في مسار التّقدّم الحقيقيّ، أي التقدّم الفكريّ والإنسانيّ.
عضو في ملتقى الأدب الوجيز