تبييض النحاس.. مهنة منقرضة تتجدّد في سوق النحاسين في حلب

على مسافة مئات الأمتار من قلعة حلب، بدأت الحياة تعود تدريجياً إلى سوق النحاسين، بعدما أعاد بعض التجار افتتاح محالهم المتخصصة ببيع النحاسيات والشرقيات، فيما عاد «المبيّض» الأخير في السوق يحيى حجازي يتعامل من جديد مع الأواني والتحف النحاسية بالنار والقصدير والأسيد ليعيد إليها ألقها وبريقها وليجدّد شبابها.

ظن كثيرون أن مهنة «تبييض النحاس» انقرضت في المدينة التي كانت تضمّ منذ عقود قليلة مئات «المبيّضين».

في محله المتواضع، يمسك يحيى حجازي بآنية نحاسية، بيدين خبيرتين تعاملتا لأربعة عقود مع أوان مماثلة، امتحنتاها بالنار وصقلتاها بمواد بسيطة فأخرجتا أجمل ما فيها من بريق ولمعان.

يقول المبيض حجازي، وهو واحد من ثلاثة مبيضين لم يبقَ سواهم اليوم في حلب، «إنه ما دام هناك نحاس في حلب، فلا يمكن أن تموت فيها مهنة تبييض النحاس، ولكنها تراجعت بقوة بسبب عدم توافر هذا المعدن». ويوضح أن «الاستخدام المنزلي للنحاس أصبح شبه معدوم، فقد حلّت الغسالات الكهربائية بدلاً من أواني الغسيل النحاسية القديمة، وبدلاً من أواني المطبخ كالطناجر والصحون والأباريق وغيرها انتشرت الأواني المصنوعة من الستانلس والتيفال والزجاج الحراري، وبالرغم من هذا كله، فإن الكثير من أهالي حلب لا يزالون يتمسكون بأوانيهم النحاسية، ولا يقبلون بتبديلها بأي نوع آخر من الأواني وخاصة «الطناجر النحاسية» التي يكون للطهو فيها نكهته الخاصة».

ويتابع: «من جهة ثانية فإن تجارة النحاسيات والشرقيات التي عادت لتنشط مجدداً في حلب شجعتني على إعادة فتح محلي ومزاولة المهنة التي ورثتها عن والدي وجدي، والتي لا أزال أعمل بها منذ 40 عاماً».

ويؤكد المبيض حجازي «عندما يتوافر النحاس ينخفض سعره، وبالتالي سيعود اهتمام الحلبيين بالأواني النحاسية كسابق عهده. وفي هذه الحال لن يكون هناك غنى عن مهنة التبييض التي حافظت طوال قرون على أسلوبها وأدواتها، ولم يدخل عليها تعديلات تذكر، باستثناء إدخال لهب الغاز أو الكيروسين بدلاً من الفحم، أما مواد التبيض وطرقه فهي لا تزال على حالها، ويُعدّ القصدير والرمل والقطن وروح الملح والأسيد أبرز هذه المواد وأكثرها استعمالاً وأماناً».

بدوره يقول تاجر التحف النحاسية والأنتيكا أبو ياسين «إن مهنة تبييض النحاس مهنة تقليدية تاريخية ظلت لقرون طويلة محافظة على مكانتها بين المهن، حيث كان النحاس الأحمر هو المادة المكوّنة لجميع الأواني المنزلية وأواني المطبخ السوري عموماً والحلبي خصوصاً، وظل النحاس محافظاً على مكانته في المنازل والمطابخ الحلبية حتى خمسينيات القرن الماضي، ثم بدأ بالتراجع شيئاً فشيئاً مع ظهور وانتشار الأواني المصنوعة من الألمنيوم و»الستانلس» وبعدها التيفال».

أبو ياسين

ويرى أبو ياسين الذي يؤكد أن تجارته استعادت الكثير من عافيتها، أن مهنة مبيض النحاس مهنة مربحة وأثرية وهي جزء من التراث الحلبي، ولم يبق في حلب إلا ثلاثة مبيّضين، عليهم أن يعلموا أبناءهم ما تعلموه من آبائهم، لتستمر هذه المهنة على قيد الحياة.

وسوقان للنحاسين

وبعد سنوات من الحرب تعرض خلالها سوق النحاسين للدمار والتخريب على يد التنظيمات الإرهابية التي لم يسلم من شرها البشر ولا الحجر، بدأت الحياة تدب من جديد في شرايين سوق النحاسين، الذي يبعد حوالى 800 متر عن قلعة حلب، ويتألف من قسمين، «سوق النحاسين التحتاني وسوق النحاسين الفوقاني»، ويضم كل قسم منهما محال عدة وورشات متلاصقة ومتقابلة، تتخصّص بصناعة النحاس أو النقش على النحاس أو بيع التحف والأواني النحاسية. وهي مهن تحتاج لمهنة «تبييض النحاس» التي ظن الكثيرون أنها لفظت أنفاسها الأخيرة خلال الحرب.

لمشاهدة الفيديو المرفق من الرابط:

https://youtu.be/9e6H2s-NSe0

سبوتنيك

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى