مع دالة الاسم والفعل… انبعاث بعد تصادم في قصيدة «الفارس المفتون»
بقلم: سيد محمد الياسري
قد حدّد اللغويون والنحويون دالة بين الجملة الاسمية والفعلية وهذه الدالة حدّدت مسار متعلقات المعنى، الدالة الاسمية في وصفها هي الثابتة، والدالة الفعلية هي المتغيّرة وفي دائرتي الدالتين يظهر معنى آخر تشبه المجموعات الرياضية، في أنها محكومة بقانون الثبوت والتغير والتصادم والانبعاث. ومن هنا نجد أن اللغة على حصر كلماتها فإنها لا تنحصر وكأنها أرض خصبة لا تنفك أن تعطي خضاراً كلّما حصد أو أينع، وإلا ما تفسير بلد المليون شاعر في عصر كما هو العراق، وكل شاعر يأخذ من اللغة ذاتها ويعطي معاني مختلفة، فكيف إذا حسبنا العالم العربي؟ فلماذا لا تضيق اللغة العربية بالكمّ الهائل من الشعراء الذين تعدّوا الملايين إن كانوا بإطار شعبي أو فصيح؟ حتى قيل في بعض المدن لا يخلو أي مقهى من شاعرين يتباريان؟ كل هذا ونجد أنه لا يوجد أي تطابق وأن تقارباً في الفكرة والمفهوم في قصيدتين، مع هذا الكمّ من الشعراء والكم الهائل من القصائد تختلف جميعاً مع أنها من لغة واحدة وكلمات محدودات ألف كلمة أو تتعدّاه بقليل. هذا ما جعل رد الشاعر أبو مهدي صالح عملياً على سؤال أحدهم: لماذا قصائدك لا تشبه أحداً؟ هل تريد أن يقولوا عنك خالف تُعرَف؟ فقال: كل القصائد بالعربية لا تتشابه بل تتقارب كالإنسان كلهم من آدم ولم يطابق أحدهم آدم. ثم فتح يديه وقال للسائل كم أصبع عندي فقال له: عشرة. فقال أبو مهدي كم أصبع عند الناس؟ فقال: مثلك عشرة. فقال هل تستطيع في كل العالم أن تأتي بإصبع واحد مشابه لواحد من العشرة!؟ هكذا اللغة العربية وهكذا قصائد جميع الشعراء.
من سمات الدالة الفعلية أنها ذات دوران زمني غير قابل للثبوت أو يقترب من عدم الثبوت. وهذه الدالة هي التي عناها الشاعر يوسف الحملة في قصيدته «الفارس المفتون». وهذا الدوران جاء في مكان ثابت ومنها انطلق الانبعاث بعد التصادم، لأن القافية ثابتة وذات معيار دقيق لا يمكن أن يشوبها تغيّر كما أن الضروب لا يمكن تغيره فكان ثابتين مقابل متغيّر وكأن الاثفيتين ان تعينهما ثالثة متحركة فهل تصمت القصيدة أو ينقلب مضمونها؟
لقد اختار الشاعر الجملة الفعلية ضروباً لبحره الكامل، وأراد ان يكمل فيه ثبوت الضرب مع ثبوت القافية مشواراً متحركاً ومتغيراً لزمن آخر لفارسه المفتون. ولعلّ البيت الأول قد دقّ التغير بعروضه وضروبه من حيث المعنى في التغير، فكانت المقابلة الحركية بين تجملت وتمنعت متغيرة فالتجميل للاهتمام والتمنّع للإهمال هنا. بدأ التصادم في أول وهلة لتعطي دلالات حسيّة وفكرية وخيالية انبثقت من ذلك التغيّر فربما تمنعها دلالاً، لأنها تجمّلت وربّما تمنعها إهمالاً لأنها تتغيّر ولا سيما كان التجميل ماضياً ولم يكن له قرينة في البيت يدل على وجود مستقبل يضارعه فلو كانت تمنعُ لدلّ الامتناع عن غنج ودلع في نفس المتجمّلة.. في أن المتغيرات لا تشير إلى ثبوت الصفات كانت نهاية الفارس واضحة وأصاب الغموض على نهايتها مع عثرات التكبر وتجليها.
أربعة أبيات محضة الثبوت، في بدايتها لهذا نرى البيت «محبوبتي» أقحم معناه من اجل إيقاعه، في ان بالعذاب تمكنت فالمعنى بات أكثر ضبابية لأن المتغير اعتاد أن يكون واحداً مقابل اثنين، أي أن الاثفية بدأت تحاول أن تقلب الوعاء وتكبّ المضمون بعيداً عنها لولا نباهة الشاعر وتفكيرة في هذا البيت ووقوفه عليه وربما وقع في تعديلات. إشارات البيت تقول، فأخرجه الشاعر بصورة تليق بالقصيدة وبوضع المتغيرين أمام متغيرين، لهذا نراه نجح إيقاعاً ومعنى بسلاسة في الدالة الاسمية الثانية في البيت قلبي عليها.. بعد ان عاد إلى أربعة ابيات حاول ان يلقط أنفاسه بعيداً عن ذلك التصادم الهائل الذي يهز البحر ويخرج منه درره، ولو تتابعنا القافية تعظمت، تنكرت، تمخضت، تغيرت لرأينا ان الشاعر كان منتظراً دخول التلوين النفسي وذلك الانطباع بعد هذه التحوّلات وعدم الثبوت من قبل محبوبته، في حين يقع باب العصمة بيده ويرجعها على ان المحيط خارج بالإحاطة، نرى عمقه ثابت بتلوين لهذا فقد نجح الشاعر باختيار القافية تلونت إيقاعاً ومعنى وقد ترتب ثبوت الجملة دلالة على الأصل أنها خصت بالتمنع والتكبر والتلون والتمثيل لذا كان الشاعر موفقاً جداً بهذا البيت بعد سلسلة من وصف المتغيرات دالة زمنية ومتحولة إلى دالة عميقة وثابتة تدل على أصل الشيء من دون أن يُصاب الشاعر بإرهاق أو يضع اثفية ثالثة لركود القدر وجعل المادة في إنائها بالشكل الصحيح.
الشاعر يوسف الحملة يجد منطلقاً جديداً من حيث يرى أن باب اللغة لا يغلق لشاعر أو أديب، بل أنها تولد جديداً ببنان جديدة مختلفة، وأعتقد أن من وصف القصيدة جنيناً، قد نجح في وصف المخاض حين أنتج طفلاً يبكي من الحياة الجديدة وببكائه يفرح المستمعون لأنه دلالة الحياة، لعلّ بعض النقّاد والدارسين يعدّون أن قافية الفعل أسهل بكثير من قافية الاسم، الا ان مخاض القصيدة أراه أطول وأكثر وجعاً، وربما ينتهي المخاض بخنق الجنين فيولد ميتاً، ومن هنا كان إدراك الشاعر أن الاختلاف سهل وصعب في الوقت ذاته، لكن كان يعرف ان اللغة العربية تولد طفله من دون أن تجد تطابقاً مع طفل آخر ولا يشبه الا اباه. فمخاض يوسف الحملة على كثرة الشعراء الذين تناولوا الفكرة والفعل والبحر والاسم نراه يضع الدالة في مخاضها الأول وبلا شبيه. لعل فتنة الشاعر انه هو ذاته الفارس ولعل محبوبته ذاتها، الا ان مخاض دالة المتغير تضعه في محك الطريق للجميع. فالقارئ كأنما يتحدث عن نفسه وذاتها القصيدة مستقلة. فالمسافة أو الفجوة الشعرية التي رتبها الإيقاع هي ممتزجة مع المعنى وإيحاءات البحر مع رتابته، خرجت لون الصراع والانبعاث المنشق من بين دالتين: الفعل والاسم.
«الفَارِسُ المَفَتُونُ»
وَتَـعَـطَّـرَتْ مِنْ طِـيـبِـهَا وَتَجَمَّلَتْ
وَهَـمَـمْتُ مُـبْـتَـهِـجًـا لَـهَا فَتَمَنَّعَتْ
وَتَـوَرَّقَتْ مِنْ صَـلْـفِـهَـا أَشْجَارُهَا
فَــغَـدَتْ بِـهَا مَــهْـزُومَـةً وَتَيَبَّسَتْ
مَحْبُوبَتِي وَالقَـلْـبُ فِـيـهَـا ذَائِـبٌ
يَـا حُــرْقَـتِـي إِنْ بِالـعَـذَابِ تَمَكَّنَتْ
وَضَمَمْتُ لَـيْـلِـي فَـارِحًـا بِوُجُودِهَا
وَبَــدَأْتُ مُـفْـتَـخِـرًا بِهَا فَتَعَظَّمَتْ
وَلَقَدْ بَـكَـتْ وَأَصَبْتُ مِـنْ تَمْثِيلِهَا
فِـي مَقْتَلِي فِـي مَعْقَلِي وَتَنَـكَّرَتْ
فَـشَـدَدْتُ إِذْ لَـقَّـنْـتُـهَـا دَرْسًـا لَهَا
حَتَّى هَـوَتْ فِـي غَيَّهَا وَتَمَخَّضَتْ
وَوَضَعْتَهَا فِـي وَضْعِهَا وَمُحِيطِهَا
حَتَّى جَثَـتْ مَـحْـبُوبَتِي وَتَغَيَّرَتْ
قَلْبِي عَلَيْهَا كَــمْ يِـكُـونُ مُـشَـرَّدًا
فَـإِذَا أَتَـتْ مِـنْـهَـا الحَيَاةُ تَلَوَّنَتْ
حَـتَّى الـعُـيُـونُ وَدَمْعِهَا يَتَدَفَّقُوا
جَـادَتْ بِـدَمْـعٍ ذَابَ فِى وَتَبَحَّرَتْ
فَأَخَذْتُ يَوْمًا تَالِيًا كَي أَصْطَفِي
عُـذْرًا أَخِيرًا مَـا أَتَـتْ وَتَفَضَّلَتْ
وَتَرَكْتُهَا تُـغْـتَـالُ فِـي طُـغْيَانِهَا
وَذَهَبْـتُ وَحْـدَي رَاحِلًا فَتَعَثَّرَتْ
لَا لَا حَيَاةً بَـعْـدَهَـا فُرِضَتْ هُـنَا
غَـيْـرِ الَّـتِـي أَدَمَـنْـتُـهَا وَتَبَخَّرَتْ
الفَارِسُ الـمَـفَتُونُ مَـاتَ مُسَمَّمًا
وَسُمُوُّهَا تُـحْيَـا عَـلَى مَـا سَمَّمَتْ.
كاتب عراقي/ البصرة