تحدي تغيير النظام الطائفي وأزمة قوى التغيير
إبراهيم ياسين
مجدّداً، عادت الأزمة بين أطراف الطبقة السياسية في لبنان إلى الواجهة من جديد، وتعطلت اجتماعات الحكومة على خلفية اشتداد الصراعات على المحاصصة الطائفية، والعودة إلى استخدام الخطاب الطائفي والمذهبي، وإحياء سلطة الميليشيات والكانتونات الطائفية والاحتماء بها للحفاظ على المصالح والامتيازات للزعامات الطائفية… أيّ محاولة إعطاء الصراع السياسي والدفاع عن امتيازات أطراف الطبقة الحاكمة البُعدَ الطائفي لهذه الصراعات لتضليل الرأي العام، وبالتالي خداعه وجعله يتراصف خلف هذه الزعامات الطائفية على حساب مصالحه وحياته ومعيشته.
فأيّ مواطن اليوم لأيّ طائفة انتمى يدفع ثمن هذه الصراعات، فمثلاً حين يجري منع حرّية الرأي والتعبير والانتقال، وخلق غيتوات طائفية، فهذا يُلحقُ الضرر بجميع المواطنين، ويجعل أمنهم واستقرارهم وحياتهم في خطر، ويمنع عمليات الانفتاح، وبالتالي عودة إحياء مناخات الانغلاق والتعصب وحتى العنصرية البغيضة التي سادت خلال الحرب الأهلية، وكافح جميع اللبنانيين للخروج من آثارها وسلبياتها الخطرة عليهم.
إذاً، فإنّ هذه الأزمة المتفجّرة تعكس طبيعة هذا النظام الطائفي القائم على المحاصصة، واستمرار الصراعات بين أطراف السلطة كلما ارتبط الأمر بحصة من هنا، أو تعيين من هناك، في مراكز الدولة على كافة المستويات السياسية والعسكرية والأمنية والمدنية.
ويبدو من الواضح أنّ أطراف الطبقة السياسية التي حكمت البلاد بعد اتفاق الطائف، أفرغت هذا الاتفاق من روحه ومضمونه الإصلاحي، وعطلت تنفيذ كلّ البنود الإصلاحية التي نصّ عليها، وأعادت إنتاج المحاصصة الطائفية بين أطرافها، مستفيدة من إقصاء وتهميش المسيحيين في ذلك الوقت.
اليوم، عاد هذا الصراع إلى الواجهة مع عودة التمثيل المسيحي «القوي» إلى السلطة، مما يعني أنه لم يعد بالإمكان استمرار الواقع السابق الذي ساد بعد اتفاق الطائف، لأنّ القوى التي تُمّثِّل المسيحيين حالياً هي من ستُحدّد أسماء المسيحيين في التعيينات في مؤسسات الدولة، لا العكس. لذلك فإنّ هذا النظام الطائفي سيبقى يُنتج الأزمات باستمرار، ولن يكون بأيّ حال من الأحوال قادراً على إيجاد الحلول لأزمات اللبنانيين الاقتصادية والاجتماعية والخدماتية، ولا حتى تأمين الاستقرار الراسخ الذي يحقق الأمن والأمان، ويوفر مناخات ازدهار السياحة وعودة تنشيط الاقتصاد بكافة مجالاته، وكلما حصل صراع أدّى إلى تعكير أجواء الأمن والاستقرار، وانعكس ذلك على الوضع الاقتصادي والاجتماعي.
من هنا، فإنّ التحدي الذي سيبقى الآن وفي المستقبل، كيف يمكن للبنانيين من كلّ الطوائف الذين يدفعون ثمن هذه الصراعات من حياتهم وأمنهم واستقرارهم ومعيشتهم، كيف يمكن لهم أن يخرجوا من إطار هذا الواقع الغير مستقرّ الذي يسبّبه لهم هذا النظام الطائفي والمستفيدين منه من رجالات الطبقة السياسية… كيف يمكن أن ينهضوا لتغيير هذا النظام المسبّب لكلّ هذه الأزمات…
الأكيد أنّ السبيل إلى ذلك إنما يكمن في العمل على بلورة تيار وطني عريض عابر للطوائف على أساس برنامج سياسي اقتصادي اجتماعي، يناضل من أجل بناء موازين قوى سياسية وكتلة شعبية وازنة، لفرض تغيير النظام الطائفي لصالح إقامة نظام وطني غير طائفي الدولة الوطنية المدنية يقوم على المواطنة والعدل والمساواة بين جميع اللبنانيين، واعتماد تكافؤ الفرص قاعدة في تعامل الدولة مع جميع مواطنيها…
هذا الهدف ليس مستحيلاً إذا ما أقلعت القوى السياسية الوطنية، والفاعليات والشخصيات الغير طائفية، صاحبة المصلحة في الخروج من أَسر النظام الطائفي، وأقلعت عن الأنانية الحزبية، والعصبوية والشخصانية والفئوية، وغلّبت المصلحة الوطنية، والهدف الجامع لكلّ قوى التغيير والإصلاح والتقدّم على ما عداه من أهداف خاصة.
ذلك أنّ معركة تغيير النظام الطائفي تحتاج إلى جهود كلّ الوطنيين وأصحاب المصلحة في التغيير لخوض نضال دؤوب وطويل النفس ضدّ طبقة سياسية متمسكة بهذا النظام العفن، لها جذورها ومصالحها، التي ستستميت في الدفاع عنها، مما يؤكد الحاجة إلى هذا الإطار الوطني العريض، الذي يستطيع أن يجمع، لا أن يُفرّق بين كلّ الطامحين لتغيير هذا النظام الذي جلب كلّ الويلات لجميع اللبنانيين على مختلف انتماءاتهم الدينية والسياسية… وهو ما يستدعي بالضرورة بحث ودراسة الصيغة التي تحقق هذا الهدف المنشود، وإنّ ما هو قائم حالياً مع الأسف الشديد لا يزال قاصراً جداً عن بلوغ وتحقيق التغيير.