تركيا البيزنطية و«أس 400»

طارق الأحمد

وريثة الدولة العثمانية التي أسّسها كمال أتاتورك في مطلع القرن الماضي مكرّساً التماهي الذكي مع صعود عصر الدول القومية وأفول عصر الدول الإمبراطورية، حيث آثر تحصيل ما أمكن له تحصيله من مساحات جغرافية لدولته الجديدة التي كانت جزءاً من الإمبراطورية العثمانية، وانتزاع ما يستطيع أخذه من الدول المتقاتلة والاستعمارية المتنوّعة والتي دخلت حرباً عالمية أولى، ثم أعادت الكرة بعد ذلك في حرب عالمية ثانية، لكن وقبل كلّ ذلك فقد استطاع كمال أتاتورك تحويل حدود تركيا التي أسّسها من الحدود الضيقة التي تسلّمها من تركة الرجل المريض أيّ الإمبراطورية العثمانية في اتفاقية سيفر عام 1919 ليتحوّل بعد ذلك إلى الحدود الأوسع التي حدّدتها اتفاقية لوزان عام 1923 ما أدّى إلى منع إقامة دولة كردية، وسلب مزيد من الأراضي السورية في كيليكيا شمال سورية، ثم يلتهم المزيد منها في عام 1939 وهو لواء الاسكندرون، لكن الموضوع الأكثر أهمية هو وضع تركيا من الناحية الجيوسياسية في إطار جيرانها وبخاصة الدولة الروسية التي كانت في ذلك الوقت الاتحاد السوفياتي وبوقت متقارب مع نشوء الدولة التركية الحديثة وحصولها، أيّ حصول تركيا، على مضائق البوسفور والدردنيل ولكن بشروط حدّدتها اتفاقية لوزان والتي تعتبر هذه المضائق بمثابة ممرات دولية، وبالتالي بقيت صيغة من العلاقة التي تجمع روسيا بتركيا بعلاقة ضدّية تكاملية، ولكنها صعبة وحدية وهي قابلة للانفجار في حالة تناقض المصالح الكبير.

وهذا ما كان عليه الحال دوماً في الميل التدريجي لتركيا نحو الغرب وانضمامها لحلف شمال الأطلسي ووجودها في حالة تأهب على حدود الاتحاد السوفياتي سابقاً وروسيا الاتحادية حالياً وأكثر من ذلك علاقتها أو علاقاتها الكثيرة المتداخلة مع شعوب الاتحاد الروسي الذين ينتمون إلى العرق التركي بأشكال متنوّعة في الجمهوريات المسلمة الروسية وبالتداخل الكبير مع احتلال تركيا لكلّ منطقة أرمينيا الغربية والتي هي في حلف طبيعي مع الروس. وبالتالي فنحن نتحدّث عن الدولة التركية في تلك المنطقة الوسيطة بين أمم وحضارات وشعوب عاشت في منطقة مضطربة ومتفجّرة منذ تاريخ طويل وعرفت بأسماء متنوّعة منها أنها كانت مع عاصمتها اسطنبول أيّ القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية القديمة أيّ الإمبراطورية الرومانية الشرقية.

روسيا من ناحيتها تدرك جملة هذه التشابكات والتداخلات في العلاقات التركية مع الغرب من ناحية وانفتاح هذه التعقيدات على الحرب السورية التي يمكن اعتبارها بشكل ما من الأشكال حرباً تركية حقيقية وعدواناً تركياً حقيقياً شنّته على سورية. وهذا الأمر وإن كان قد بدأ بشكل مبطن أو بالوكالة مع بداية الأحداث عام 2011، إلا أنه ومع كلّ التفاهمات في أستانة وسوتشي وغيرها يظهر جلياً اليوم بأنه أشبه بحرب مباشرة بين جيشين هما الجيش السوري والجيش التركي، ولكنها حرب ذات تداخلات غاية في التشابك والتعقيد وذات تحالفات غاية في الاختلاط على المراقبين الكثر بعامة الناس وخاصة لجهة ما نراه في إدلب. وبالتالي فإنّ الحيرة والدهشة هي التي تثير جلّ الناس عندما يحاولون قراءة المشهد التركي والعلاقة التركية الروسية والعلاقة التركية الإيرانية، وهما العلاقتان المتناميتان طرداً مع امتداد الحرب السورية رغم أنّ روسيا وإيران هما الحليفتان الوثيقتان والمشاركتان في الدفاع عن الدولة السورية ووجودها ووحدودها، وبالتالي فقد شكلت هذه التجاذبات والتعقيدات كلّ هذا القدر من الحيرة لكلّ المتابعين وشكلت أيضاً قسطاً من التخبّط في المشهد للكثير منهم، لكن دخول الـ «أس 400»، هذا السلاح الروسي الذي اشتهر في الآونة الأخيرة، وأصبح يشكل دوراً وكأنه ورقة الجوكر في لعبة دولية يمتلكها الرئيس بوتين ويستطيع زجّها على أكثر حلبات الصراع بعداً أو قرباً منه حتى أنه قد استطاع وضعها في بقعة من بقع حلف الناتو الأساسية وهي الأراضي التركية مؤخراً، ولوحَ بها في مناطق أخرى كالسعودية وقطر عوضاً عن دول حليفة له، لكنها ذات ثقل هائل في المستوى الدولي كالصين والهند ودول أخرى كثيرة، ويشكّل زجّ هذا السلاح بُعداً سياسياً وجيوستراتيجياً يفوق في تداعياته حتى بعده العسكري البحت، إذ إنه يؤشر لبدء عصر من النفوذ عن طريق التشاركية الروسية. وهذا يتأتى بالدرجة الأولى من حجم القلق الذي يتشكل لدى الطرف الآخر المقابل وهو الطرف الأميركي كنايةً عن طرف حلف الناتو ككلّ والذي يبادر هو بدوره بالانسحاب بأسلحته وبرهاناته من تلك المناطق التي يزجّ بها الروس بسلاحهم الجوكر «أس 400» في محاولة لعقاب الحليف المتمرّد وهو تركيا أردوغان، وذلك ما يتمثل في الاستعصاء واحتمال إلغاء كلّ صفقة الطائرة «أف 35» وما ينسحب أيضاً بعد ذلك من عقوبات قد تكون سياسية وعسكرية وحتى اقتصادية كي تؤول الأوضاع شيئاً فشيئاً بالنسبة لتركيا مثلاً من التوجه غرباً إلى التوجه شرقاً بالتداعي التدريجي.

مسرح العبث

من ناحية أخرى، فليس ثمة وضوح في المشهد السياسي الذي نعيشه حالياً، فالكثير من الإشارات المتناقضة تظهر على خشبة هذا المسرح الأشبه بمسرح العبث أو اللامعقول كما يراه كلّ من يعيش في منطقتنا ويحاول فهم المشهد السياسي، فالمشاهد المستقطَب بنظرته المثالية للأمور بأنّ الصراعات كانت صراعات بين الخير والشر ثم يتفاجأ بكلّ مشهد بنوع جديد من الأحداث يختلط فيه بين الخير والشر. فنشاهد كلّ ذلك الاختلاط في المشهد العسكري في إدلب والذي لو ركب على كلّ ما تمّ توقيعه في أستانة لما خرج به المشاهد إلا بنوع من أنواع مسرح العبث اللامعقول إذا رآه بشكل مجرد، ولكن أيضاً تظهر من جديد علامات تاريخية لا يمكن تفسيرها إلا بالبعد الجيوسياسي بالمستقبل فيتمّ الإعلان في تركيا عن تحويل كنيسة آيا صوفيا البيزنطية الأرذوكسية ذات البعد الروسي المباشر إلى مسجد إسلامي ثم يتمّ إعلان روسي مقابل بتسريب ممنهج ومحدّد وطلب بأن تعود هذه الكنيسة إلى أملاك الكنيسة الأرذوكسية العالمية أو الروسية وكلّ هذه الإشارات هي ليست إشارات لا دينية ولا مجردة، ولكنها إشارات تحدّد بعض ملامح ما يمكن أن يجري في المستقبل خاصة مع قرب انتهاء المئة عام على اتفاقية لوزان أيّ في عام 2023 والتي ستحدّد ملامح المئة سنة التالية بعمر الدولة التركية الحديثة حيث سيتمّ تحديد ماهية التعاطي بين الدولة الروسية والدولة التركية.

باعتقادي فإنّ النهج الروسي وليس السياسة السورية، تريد التعاطي مع تركيا تلك الدولة الهامة والمتشاطئة مع روسيا والمتشابكة معها وذات الدور التاريخي الخطير في الوقت نفسه بطريقة الاحتواء الممكن أو حيثما أمكن، لكنها وبكلّ تلك المراحل سوف تحاول بالدرجة الأولى وعن طريق زيادة العلاقة العسكرية أولاً والاقتصادية والسياحية طبعاً والجيوسياسية فوق كلّ ذلك مع مجموعة شنغهاي الناشئة والحزام والطريق الروسي الصيني، كي يتمّ احتواء تركيا وتتحول من تركيا الإسلامية أو الغربية الأطلسية إلى تركيا التي تعود بعلاقتها إلى ما يمكن أن يشبه فترة الدولة البيزنطية، حيث كانت تلك الدولة التي تتعاطى مع المنطقة باعتبارها منطقة الشرق وليس على اعتبارها حارساً أولاً للغرب. وهذا هو ما يمكن تحقيقه وفق الرؤية الروسية. وهو الأمر الذي يحتاج طبعاً إلى زمن طويل وعمل حثيث من أجل أن يتمّ تحقيقه. يبدأ هذا الأمر طبعاً بالانتهاء من تركيب منظومة «أس 400» وتصاعد الخلاف الأميركي التركي ثم انسحابه إلى تصاعد في الخلاف الأوروبي التركي وزيادة الشقوق والتصدعات في منظومة الحكم التركية المدعومة تاريخياً من الغرب، والمقصود بها حزب العدالة والتنمية وأردوغان، بحيث سيزيد التدخل الغربي لدعم مَن يناهض أردوغان بالسياسة في مقابل دعم روسي وإيراني لأردوغان سياسياً يشبه الدعم الذي تلقاه من الدولتين الحليفتين لسورية عقب محاولة الانقلاب الفاشلة عليه. وبالتالي فسيكون أمامنا مزيد من الارتماء الأردوغاني في حضني روسيا وإيران وبعلاقة لافتة أيضاً مع الرئيس نيكولاس مادورو حليف سورية، وبالتالي فنحن أمام مزيد من العلاقات التشبيكية المتشابكة بين كلّ أولئك حتى نخرج بصيغة ما لهذه الحرب التي شنتها تركيا أردوغان على سورية، ولكنها ستخرج بطريقة مختلفة تماماً وفقاً للرؤية الروسية والإيرانية إلى درجة ما اتجاه تركيا، ولكنها حدّدت من قبل الدولتين الراعيتين في مجموع اللقاءات التي عقدت في أستانة والتي كان جلّها وبتوقيع من أردوغان شخصياً أنها تعتمد على وحدة وسيادة الدولة السورية على أراضيها وحسن الجوار، وبالتالي فنحن أمام مشهد سياسي يمتدّ عميقاً في الصراعات الجيوسياسية المحيطة بسورية أكثر مما يمتدّ إلى الصراعات التي تمّ الحديث عنها في الداخل السوري والتي تحدّثوا عن فكرة الحلّ السياسي، وبالتالي فنحن أمام سنتين ساخنتين من الأحداث والتجاذبات في الإقليم ستكونان المحدّدات الأكثر أهمية للعملية السياسية في سورية واللتان سوف تحدّدان شكل العلاقات في الإقليم ولكنهما ستنعكسان على ما يسمّى بالحلّ السياسي، والذي يظهر جله في الصراع الإقليمي. وكلّ هذا المشهد المتشابك والشائك والذي أسميناه بأنه أقرب ما يكون إلى مسرح العبث حيث سيظهر في جملة من الأحداث التي ستحملها الأيام المقبلة.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى