في المعاني الحقيقيّة للعروبة ٣
جورج كعدي
كيف يمكن الكلام على «عروبة» و«مشروع عروبيّ جامع» وقد تبعثرت مفاهيمهما وتفاوتت وتناقضت ولم تحظَ يوماً بتحديد وتوحيد واتفاق منجز حولها. اختلفت الرؤى وتعارضت «التطبيقات» حين اختبرت لفترات محدودة ضمن أطر وطنيّة ضيّقة أبرزها على الإطلاق تجربة عبد الناصر أو ثنائيّة قصيرة وعابرة مثل الوحدة بين مصر وسورية التي لم تعمّر طويلاً. أمّا تجربة «الجامعة العربيّة» فلا حاجة بنا الآن إلى الضحك ولا إلى البكاء!
عدتُ مجدّداً في بحثي عن نموذج لما طرحته أعلاه إلى بحوث ومناقشات الندوة الفكريّة التي نظّمها «مركز دراسات الوحدة العربيّة» في مدينة فاس المغربية عام 2001 تحت عنوان «نحو مشروع حضاريّ نهضويّ عربيّ» وشارك فيها عدد كبير من «الإنتلجنسيا» العربيّة، أكاديميّين وباحثين ومفكّرين واختصاصيّين في مجالات مختلفة تتراوح بين الاقتصاد والعلوم والتكنولوجيا والإعلام، إلخ، وهم محسوبون من نخب المجتمعات العربيّة، أو على الأقلّ من طلائع العاملين في الحقول الجامعيّة والفكريّة والمراكز البحثيّة والدراسيّة. وأروح أقرأ بدقّة وموضوعيّة في وقائع أوراق تلك الندوة ومناقشاتها التي جُمعت في مجلّد ضخم من نحو 1200 صفحة، لأخرج في نهاية هذه المراجعة بانطباع أنّني حيال برج بابل حقيقيّاً من المصطلحات والتحديدات والمفاهيم والآراء الخاصة بمسألة «العروبة» و«مشروعها الحضاريّ النهضويّ»، وإن بلغة واحدة هي لغة الضادّ، فالأصوات تتعدّد والمفاهيم تتشظّى والقراءات للماضي والراهن والمستقبل تتصادم، ويتبدّى جليّاً أنّ هذا «الفكر العربيّ» في أزمة ومأزق، وأنّ الحدّ الأدنى، أي توحيد المفهوم والهدف والمضمون، غير متوافر، فكيف يكون مشروعاً قابلاً للحياة وصالحاً حتّى للمناقشة؟!
أعطي أمثلة:
يقول عبد العزيز الدوري أستاذ التاريخ في الجامعة الأردنيّة ورئيس جامعة بغداد سابقاً ضمن الندوة سالفة الذكر وفي سياق مداخلته الطويلة: «شهدت الأمّة العربيّة أكثر من مشروع نهضويّ عبر تاريخها. وكان لها دورها في تكوين حضارة، وفي إغناء الحضارة البشريّة. وهي بموقعها الجغرافيّ كانت دوماً على صلات بالشرق والغرب، سلميّة أو غير ذلك، فلم تكن معزولة في أيّ فترة. كما أنّها كانت في العادة مفتوحة على الحضارات الأخرى، بل إن فترات ازدهارها الحضاريّ اقترنت بالانفتاح، متمثّلاً في الأخذ من الحضارات الأخرى من ناحية، وبإشراك شعوب أخرى في تكوين الحضارة العربيّة الإسلاميّة.
وهي أمّة تكوّنت في التاريخ على أساس من اللغة العربيّة ثم الثقافة العربيّة والتراث . وهي فكرة جاء بها الإسلام في مواجهة فكرة النسب السائدة في المجتمعات القبليّة، وكان دور الإسلام أساسيّاً في تكوين الأمّة العربيّة … وإذا كان مفهوم النسب والجنس محدوداً وراكداً، فإنّ مفهوم الأمّة المستند إلى اللغة والثقافة ديناميكيّ ومفتوح للمستقبل. ويحسن أن نذكر هذا ونميّزه عن المفهوم الغربيّ الذي يحدّد الأمّة ابتداء برقعة ضيّقة. ومثل هذا المفهوم للأمّة حيويّ ومهمّ في فترة موجة العولمة، وضروريّ للتعامل معها. إن لفظ الأمّة قرآنيّ في الأساس، وله أكثر من دلالة، منها الجماعات التي ترتبط برابطة مشتركة، العقيدة أو غيرها. واتخذ للأمّة الإسلاميّة التي أعلن الرسول عن قيامها في المدينة، وكانت من قبائل متعدّدة وضمّت أناساً من أصول أخرى ومن أكثر من دين. يلاحظ أنّ التكوين الأوّل كان لأمّة إسلاميّة، وفي إطارها الواسع تكوّنت الأمّة العربيّة في التاريخ … ».
يردّ عزيز العظمة أستاذ كرسي في الجامعة الأميركيّة في بيروت على الدوري في الندوة عينها، خاصة حول مفهومه الإسلاميّ للأمّة، قائلاً: «ثمّة في اللسان العربيّ التباس يخصّ عبارة «الأمّة». للعبارة هذه معنيان متمايزان تمام التمايز أرى ضرورة عدم الخلط بينهما حتى يتاح لنا النظر إلى الأمور نظرة تاريخيّة وواقعيّة وتفادي الوصول إلى استنتاجات سياسيّة قد لا نرغبها: المعنى الأول هو المعنى التراثيّ للأمّة الإسلاميّة باعتبارها جماعة المؤمنين، والمعنى الثاني هو المعنى القوميّ الذي يشكّل حصيلة تحوّلات اجتماعيّة وفكريّة وثقافيّة وسياسيّة تُنتج أمّة بالمعنى الحديث: أي أمّة قائمة على مفهوم المواطنة في سياق حقوقيّ وتاريخيّ ما. يستتبع المفهوم الثاني انفصالاً عن المفهوم الأوّل، وآليّات تاريخيّة لصنع الأمم الحديثة بوصفها أعلى أشكال تطوّر الاجتماع السياسيّ المتاحة في التاريخ حتّى اليوم، وليست مجرّد استعادة واستئناف لأمور ولّت في عصر مباين لعصورها … وإنّني أتساءل بالتالي من المسوّغات التاريخيّة والموضوعيّة الحالية لتخصيص العروبة ثقافيّاً وفكريّاً وكيانيّاً، لدى البعض، بالمضمون الإسلاميّ، وعن مسوّغات الدعوة في سياق مشروع قوميّ إلى الاحتكام إلى النصوص الدينيّة والشرائع التي بُنيت عليها، وإيلاء ما خلا ذلك، ومن ذلك الحداثة والعالميّة، إلى الخروج إلى الغيريّة الصرفة … أعتقد أنّ من متطلّبات النظر التاريخيّ الموضوعيّ ألاّ يشار إلى الحركة الوهّابيّة باعتبارها حركة نهضويّة: ينتمي الإصلاح الوهّابيّ إلى العصور الوسطي، ويندرج في سياق اتجاهاته الإصلاحيّة، كالاتجاه المتمثّل في ابن تيميّة الذي تتوسّل الوهّابية استلهامه على نحو بالغ الفقر. وفي الحركة الوهّابيّة مفارقة انفصاميّة: فهي حركة نكوصيّة نشأت في عهد الثورة الفرنسيّة وعهد الأنوار، وما ساهمت لاحقاً في تيارات النهضة العربيّة إلاّ باستخدام عبارة «النهضة» إشارة إلى دعوة النكوص إلى ماضٍ ولّى … ».
… وقِسْ على ذلك من آراء ومواقف «برج بابليّة» شديدة التناقض والتعارض حول تحديد مفهوم العروبة، بحيث يحار السائل إلى مَنْ يصغي وممّن يأخذ التعريف الصحيح والدقيق، هل من أمثال الدكتور الدوري الذي يمثّل أعداداً كبيرة من المنظّرين لـ«العروبة» من منظاري الإسلام واللغة؟ أم من أمثال الدكتور عزيز العظمة المنتمين إلى فكر علمانيّ غير دينيّ والرافضين على نحو قاطع تعريف الدكتور الدوري ذا المرتكزات الإسلاميّة؟ علماً أنّ بين هذين النموذجين المتناقضين إلى آخر حدود التناقض نماذج أخرى أيضاً متعدّدة الخلفية الإيديولوجيّة وإن تحت لافتة «العروبة» العريضة مثل الدكتور عبد الإله بلقزيز الاشتراكيّ الهوى والمنبع الفكريّ قد يكون ماركسيّاً أمميّاً في العمق ، أو الناصريّ عبد الملك المخلافي، أو البعثيّ العراقيّ عبد السلام بغدادي، وسواهم ممّن ينتمون إلى ما يسمّى بـ«التيّار القوميّ التقدّمي» أو «الإسلاميّ العروبيّ» أو «اليساريّ الوحدويّ»، إلخ. ولكلّ فكر أو تيّار أو اتّجاه فهمه لـ«العروبة» وتحديده وأحلامه وطموحاته. وإلى اللحظة الراهنة لم يتكرّس مفهوم واحد وتحديد جليّ للمشروع الضبابيّ الملتبس المسمّى مشروعاً عربيّاً… فبئس العرب والعروبة وأحوالهما، ولنتوقّف في محطّتنا المقبلة الأخيرة عند ما حسمه نهضويّنا الكبير أنطون سعاده علميّاً وموضوعيّاً في هذا الصدد.